الباحث القرآني

﴿كَلا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ في (كَلّا) ها هُنا وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ رَدٌّ وتَكْذِيبٌ، قالَهُ الفَرّاءُ. الثّانِي: أنَّهُ بِمَعْنى إلّا، وكَذَلِكَ " كُلًّا سَوْفَ يَعْلَمُونَ "، قالَهُ أبُو حاتِمٍ السِّجِسْتانِيُّ. وَفي قَوْلِهِ ﴿لَيَطْغى﴾ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: الثّانِي: لَيَبْطَرُ، قالَهُ الكَلْبِيُّ. الثّالِثُ: لَيَرْتَفِعُ مِن مَنزِلَةٍ إلى مَنزِلَةٍ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الرّابِعُ: لَيَتَجاوَزُهُ قَدْرُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ﴾ قالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ. ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ أيْ عَنْ رَبِّهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وَيَحْتَمِلُ ثانِيًا: اسْتَغْنى بِمالِهِ وثَرْوَتِهِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ في أبِي جَهْلٍ. ﴿إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: المُنْتَهى، قالَهُ الضَّحّاكُ. الثّانِي: المَرْجِعُ في القِيامَةِ. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: يُرْجِعُهُ اللَّهُ إلى النُّقْصانِ بَعْدَ الكَمالِ، وإلى المَوْتِ بَعْدَ الحَياةِ. ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى﴾ ﴿عَبْدًا إذا صَلّى﴾ نَزَلَتْ في أبِي جَهْلٍ، رَوى أبُو هُرَيْرَةَ «أنَّ أبا جَهْلٍ قالَ: واَللّاتِ والعُزّى لَئِنْ رَأيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي بَيْنَ أظْهُرِكم لِأطَأنَّ رَقَبَتَهُ ولَأُعَفِّرَنَّ وجْهَهُ في التُّرابِ، ثُمَّ أتى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو يُصَلِّي لِيَطَأ رَقَبَتَهُ، فَما فَجَأهُ مِنهُ (p-٣٠٧)الّا وهو يَنْكِصُ، أيْ يَرْجِعُ عَلى عَقِبَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: ما لَكَ؟ فَقالَ: إنْ بَيْنِي وبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِن نارٍ وهَواءٍ وأجْنِحَةٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا)» . ورَوى الحَسَنُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: « (إنَّ لِكُلِّ أمَةٍ فِرْعَوْنَ، وفِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ أبُو جَهْلٍ)» . وكانَتِ الصَّلاةُ الَّتِي قَصَدَ فِيها أبُو جَهْلٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلاةَ الظُّهْرِ. وَحَكى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أنَّ أوَّلَ صَلاةِ جَماعَةٍ جُمِعَتْ في الإسْلامِ، يُوشِكُ أنْ تَكُونَ الَّتِي أنْكَرَها أبُو جَهْلٍ، صَلّاها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَرَّ بِهِ أبُو طالِبٍ ومَعَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ فَقالَ: صِلْ جَناحَ ابْنِ عَمِّكَ، وانْصَرَفَ مَسْرُورًا يَقُولُ ؎ إنَّ عَلِيًّا وجَعْفَرًا ثِقَتِي عِنْدَ مُلِمِّ الزَّمانِ والكُرَبِ ∗∗∗ واَللَّهِ لا أخْذُلُ النَّبِيَّ ولا ∗∗∗ يَخْذُلُهُ مَن كانَ ذا حَسَبِ ∗∗∗ لا تَخْذُلا وانْصُرا ابْنَ عَمِّكُما ∗∗∗ أخِي لِأُمِّي مِن بَنِيهِمْ وأبِي فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ. ﴿أرَأيْتَ إنْ كانَ عَلى الهُدى﴾ ﴿أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَعْنِي أبا جَهْلٍ، ويَكُونُ فِيهِ إضْمارٌ، وتَقْدِيرُهُ: ألَمْ يَكُنْ خَيْرًا لَهُ. الثّانِي: هو النَّبِيُّ ﷺ كانَ عَلى الهُدى في نَفْسِهِ، وأمَرَ بِالتَّقْوى في طاعَةِ رَبِّهِ. وَفي قَوْلِهِ (أرَأيْتَ) احْتِمالُ الوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ . الثّانِي: خِطابٌ عامٌّ لَهُ ولِأُمَّتِهِ، والمُرادُ بِهِ عَلى الوَجْهَيْنِ هِدايَتُهُ، ويَكُونُ في الكَلامِ مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُهُ: هَكَذا كانَ يَفْعَلُ بِهِ. ﴿أرَأيْتَ إنْ كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ يَعْنِي أبا جَهْلٍ، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: كَذَّبَ بِاَللَّهِ وتَوَلّى عَنْ طاعَتِهِ. الثّانِي: كَذَّبَ بِالقُرْآنِ وتَوَلّى عَنِ الإيمانِ. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: كَذَّبَ بِالرَّسُولِ وتَوَلّى عَنِ القَبُولِ.(p-٣٠٨) ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ يَعْنِي أبا جَهْلٍ، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: ألَمْ تَعْلَمْ يا مُحَمَّدُ أنَّ اللَّهَ يَرى أبا جَهْلٍ؟ الثّانِي: ألَمْ تَعْلَمْ يا أبا جَهْلٍ أنَّ اللَّهَ يَراكَ؟ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: يَرى عَمَلَهُ ويَسْمَعُ قَوْلَهُ. الثّانِي: يَراكَ في صَلاتِكَ حِينَ نَهاكَ أبُو جَهْلٍ عَنْها. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: يَرى ما هَمَّ بِهِ أبُو جَهْلٍ فَلا يُمَكِّنُهُ مِن رَسُولِهِ. ﴿كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ﴾ يَعْنِي أبا جَهْلٍ، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: يَعْنِي لَنَأْخُذَنَّ بِناصِيَتِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وهو عِنْدَ العَرَبِ أبْلَغُ في الِاسْتِذْلالِ والهَوانِ، ومِنهُ قَوْلُ الخَنْساءِ ؎ جَزَزْنا نَواصِيَ فُرْسانِهِمْ ∗∗∗ وكانُوا يَظُنُّونَ أنْ لَنْ تُجَزّا الثّانِي: مَعْناهُ تَسْوِيدُ الوُجُوهِ وتَشْوِيهُ الخِلْقَةِ بِالسَّفْعَةِ السَّوْداءِ، مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ قَدْ سَفَعَتْهُ النّارُ أوِ الشَّمْسُ إذا غَيَّرَتْ وجْهَهُ إلى حالَةِ تَشْوِيهٍ، وقالَ الشّاعِرُ ؎ أثافِيَّ سُفْعًا مُعَرَّسٍ مِرَجَلٍ ∗∗∗ ونُؤْيًا كَجِذَمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّمِ والنّاصِيَةُ شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وقَدْ يُعَبَّرُ بِها عَنْ جُمْلَةِ الإنْسانِ، كَما يُقالُ هَذِهِ ناصِيَةٌ مُبارَكَةٌ إشارَةً إلى جَمِيعِ الإنْسانِ. ثُمَّ قالَ: ﴿ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ﴾ يَعْنِي: ناصِيَةُ أبِي جَهْلٍ كاذِبَةٌ في قَوْلِها، خاطِئَةٌ في فِعْلِها. ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ يَعْنِي أبا جَهْلٍ، والنّادِي مَجْلِسُ أهْلِ النَّدى والجُودِ ومَعْنى ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ أيْ فَلْيَدْعُ أهْلَ نادِيهِ مِن عَشِيرَةٍ أوْ نُصَيْرٍ. ﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ والزَّبانِيَةُ هُمُ المَلائِكَةُ مِن خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وهم أعْظَمُ المَلائِكَةِ خَلْقًا وأشَدُّهم بَطْشًا، والعَرَبُ تُطْلِقُ هَذا الِاسْمَ عَلى مَنِ اشْتَدَّ بَطْشُهُ، قالَ الشّاعِرُ:(p-٣٠٩) ؎ مَطاعِيمُ في القُصْوى مَطاعِينُ في الوَغى ∗∗∗ زَبانِيَةٌ غُلْبٌ عِظامٌ حُلُومُها ﴿كَلا لا تُطِعْهُ﴾ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: كَلّا لا تُطِعْ أبا جَهْلٍ في أمْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ نَهْيُهُ عَنْ طاعَتِهِ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: لا تَقْبَلْ قَوْلَهُ إنْ داراكَ ولا رَأْيَهُ إنْ قارَبَكَ. الثّانِي: لا تُجِبْهُ عَنْ قَوْلِهِ، ولا تَقابُلْهُ عَلى فِعْلِهِ، ومِنهُ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « (اَللَّهُمَّ لا تُطِعْ فِينا مُسافِرًا - أيْ لا تُجِبْ دُعاءَهُ لِأنَّ المُسافِرَ يَدْعُو بِانْقِطاعِ المَطَرِ فَلَوْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ لَهَلَكَ النّاسُ -)» . ﴿واسْجُدْ واقْتَرِبْ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: اسْجُدْ أنْتَ يا مُحَمَّدُ مُصَلِّيًا، واقْتَرِبْ أنْتَ يا أبا جَهْلٍ مِنَ النّارِ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ. الثّانِي: اسْجُدْ أنْتَ يا مُحَمَّدُ في صَلاتِكَ لِتَقْرُبَ مِن رَبِّكَ، فَإنَّ أقْرَبَ ما يَكُونُ العَبْدُ إلى اللَّهِ تَعالى إذا سَجَدَ لَهُ. وَرَوى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أُنْزِلَ في أبِي جَهْلٍ أرْبَعٌ وثَمانُونَ آيَةً، وأُنْزِلَ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ مِائَةٌ وأرْبَعُ آياتٍ، وأُنْزِلَ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ اثْنَتانِ وثَلاثُونَ آيَةً. وَإذا كانَتْ هَذِهِ أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في قَوْلِ الأكْثَرِينَ فَقَدْ رُوِيَ في تَرْتِيبِ السُّوَرِ بِمَكَّةَ والمَدِينَةِ أحادِيثُ، أوْفاها ما رَواهُ آدَمُ ابْنُ أبِي أُناسٍ عَنْ أبِي شَيْبَةَ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ قالَ: بَلَغَنا أنَّ هَذا ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ بِمَكَّةَ والمَدِينَةِ الأوَّلَ فالأوَّلَ، فَكانَ أوَّلَ ما نَزَلَ فِيما بَلَغْنا: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثُمَّ ن والقَلَمِ، المُزَّمِّلُ، المُدَّثِّرُ، تَبَّتْ، إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، سَبِّحَ اسْمَ رَبِّكَ، اللَّيْلُ، الفَجْرُ، الضُّحى، ألَمْ نَشْرَحْ، العَصْرُ، العادِياتُ، الكَوْثَرُ، ألْهاكم، أرَأيْتَ، الكافِرُونَ، الفِيلُ، الفَلَقُ، الإخْلاصُ، النَّجْمُ، عَبَسَ، القَدْرُ، والشَّمْسِ، البُرُوجُ، التِّينُ، لِإيلافِ، (p-٣١٠) القارِعَةُ، القِيامَةُ، الهُمَزَةُ، المُرْسَلاتُ، ق، البَلَدُ، الطّارِقُ، القَمَرُ، ص، الأعْرافُ، قُلْ أُوحِيَ، يس، الفَرْقانُ، المَلائِكَةُ، مَرْيَمُ، طه، الواقِعَةُ، الشُّعَراءُ، النَّمْلُ، القَصَصُ، بَنُو إسْرائِيلَ، يُونُسُ، هُودٌ، يُوسُفُ، الحِجْرُ، الأنْعامُ، الصّافّاتُ، لُقْمانُ، سَبَأٌ، الزُّمَرُ، المُؤْمِنُ، حم السَّجْدَةُ، عسق، الزُّخْرُفُ، الدُّخانُ، الجاثِيَةُ، الأحْقافُ، الذّارِياتُ، الغاشِيَةُ، الكَهْفُ، النَّحْلُ، نُوحٌ، إبْراهِيمُ، الأنْبِياءُ، قَدْ أفْلَحَ، السَّجْدَةُ، الطُّورُ، المُلْكُ، الحاقَّةُ، سَألَ سائِلٌ، النَّبَأُ، النّازِعاتُ، الِانْفِطارُ، الِانْشِقاقُ، الرُّومُ، العَنْكَبُوتُ، المُطَفِّفِينَ. فَهَذِهِ خَمْسٌ وثَمانُونَ سُورَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَكانَ فِيما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ البَقَرَةُ، ثُمَّ الأنْفالُ، آلُ عِمْرانَ، الأحْزابُ، المُمْتَحِنَةُ، النِّساءُ، الزَّلْزَلَةُ، الحَدِيدُ، سُورَةُ مُحَمَّدٍ، الرَّعْدُ، الرَّحْمَنُ، هَلْ أتى، الطَّلاقُ، لَمْ يَكُنْ، الحَشْرُ، النَّصْرُ، النُّورُ، الحَجُّ، المُنافِقُونَ، المُجادَلَةُ، الحُجُراتُ، التَّحْرِيمُ، الجُمُعَةُ، الصَّفُّ، الفَتْحُ، المائِدَةُ، بَراءَةٌ) . فَهَذِهِ سَبْعٌ وعِشْرُونَ سُورَةً نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ. وَلَمْ تَكُنِ الفاتِحَةُ واَللَّهُ أعْلَمُ ضِمْنَ ما ذَكَرَهُ، وقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في نُزُولِ السُّوَرِ اخْتِلافًا كَثِيرًا، لَكِنْ وجَدْتُ هَذا الحَدِيثَ أوْفى وأشْفى فَذَكَرْتُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب