الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ﴿وأنّا مِنّا المُسْلِمُونَ﴾ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ ﴿ومِنّا القاسِطُونَ﴾ أيِ الجائِرُونَ الظّالِمُونَ الَّذِينَ حادُوا عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، ومالُوا إلى طَرِيقِ الباطِلِ، يُقالُ قَسَطَ: إذا جارَ، وأقْسَطَ: إذا عَدَلَ. ﴿فَمَن أسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ أيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الحَقِّ. قالَ الفَرّاءُ: أمُّوا الهُدى. ﴿وأمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ أيْ وقُودًا لِلنّارِ تُوقَدُ بِهِمْ كَما تُوقَدُ بِكَفَرَةِ الإنْسِ. ﴿وألَّوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ﴾ هَذا لَيْسَ مِن قَوْلِ الجِنِّ بَلْ هو مَعْطُوفٌ عَلى ﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ والمَعْنى: وأُوحِيَ إلَيَّ أنَّ الشَّأْنَ لَوِ اسْتَقامَ الجِنُّ أوِ الإنْسُ أوْ كِلاهُما عَلى الطَّرِيقَةِ، وهي طَرِيقَةُ الإسْلامِ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ القُرّاءَ اتَّفَقُوا عَلى فَتْحِ " أنَّ " هَهُنا. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: والفَتْحُ هُنا عَلى إضْمارِ يَمِينٍ تَأْوِيلُها، واللَّهِ أنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ كَما فُعِلَ، يُقالُ في الكَلامِ واللَّهِ لَوْ قُمْتَ لَقُمْتُ كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎أما واللَّهِ أنْ لَوْ كُنْتَ حُرًّا ولا بِالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ قالَ: أوْ عَلَيَّ ﴿أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ﴾، لَوِ اسْتَقامُوا، أوْ عَلى آمَنّا بِهِ: أيْ آمَنّا بِهِ، وبِأنْ لَوِ اسْتَقامُوا. قَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِ الواوِ مِن " لَوِ " لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ بِضَمِّها ﴿لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ أيْ كَثِيرًا واسِعًا. قالَ مُقاتِلٌ: ماءً كَثِيرًا مِنَ السَّماءِ، وذَلِكَ بَعْدَ ما رُفِعَ عَنْهُمُ المَطَرُ سَبْعَ سِنِينَ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: المَعْنى لَوْ آمَنُوا جَمِيعًا لَوَسَّعْنا عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا، وضُرِبَ الماءُ الغَدَقُ مَثَلًا لَأنَّ الخَيْرَ كُلَّهُ والرِّزْقَ بِالمَطَرِ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ الكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ [المائدة: ٦٥] الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣، ٢] وقَوْلُهُ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ ﴿ويُمْدِدْكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ﴾ [نوح: ١٠ - ١٢] الآيَةَ. وقِيلَ المَعْنى: وأنْ لَوِ اسْتَقامَ أبُوهم عَلى عِبادَتِهِ وسَجَدَ لِآدَمَ ولَمْ يَكْفُرْ وتَبِعَهُ ولَدُهُ عَلى الإسْلامِ لَأنْعَمْنا عَلَيْهِمْ، واخْتارَ هَذا الزَّجّاجُ. والماءُ الغَدَقُ: هو الكَثِيرُ في لُغَةِ العَرَبِ. ﴿لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ أيْ لِنَخْتَبِرَهم فَنَعْلَمَ كَيْفَ شُكْرُهم عَلى تِلْكَ النِّعَمِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: المَعْنى وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هم عَلَيْها مِنَ الكُفْرِ فَكانُوا كُلُّهم كُفّارًا، لَأوْسَعْنا أرْزاقَهم مَكْرًا بِهِمْ واسْتِدْراجًا حَتّى يُفْتَنُوا (p-١٥٤١)بِها فَنُعَذِّبَهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وبِهِ قالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، والثُّمالِيُّ، ويَمانُ بْنُ زَيّانٍ، وابْنُ كَيْسانَ، وأبُو مِجْلَزٍ، واسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] وقَوْلُهُ ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ﴾ الآيَةَ والأوَّلُ أوْلى ﴿ومَن يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا﴾ أيْ ومَن يُعْرِضْ عَنِ القُرْآنِ، أوْ عَنِ العِبادَةِ، أوْ عَنِ المَوْعِظَةِ أوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ يَسْلُكْهُ: أيْ يُدْخِلْهُ عَذابًا صَعَدًا: أيْ شاقًّا صَعْبًا. قَرَأ الجُمْهُورُ ( نَسْلُكْهُ ) بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ عَنْهُ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ، وأبُو حاتِمٍ لِقَوْلِهِ: ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ﴾ ولَمْ يَقُلْ عَنْ ذِكْرِنا. وقَرَأ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، والأعْرَجُ بِضَمِّ النُّونِ وكَسْرِ اللّامِ مِن أسْلَكَهُ، وقِراءَةُ الجُمْهُورِ مِن سَلَكَهُ. والصَّعَدُ في اللُّغَةِ المَشَقَّةِ، تَقُولُ تَصَعَّدَ بِي الأمْرُ: إذا شَقَّ عَلَيْكَ، وهو مَصْدَرُ صَعِدَ، يُقالُ صَعِدَ صَعْدًا وصُعُودًا، فَوَصَفَ بِهِ العَذابَ مُبالَغَةً؛ لِأنَّهُ يَتَصَعَّدُ المُعَذَّبَ: أيْ يَعْلُوهُ ويَغْلِبُهُ فَلا يُطِيقُهُ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: الصَّعَدُ مَصْدَرٌ: أيْ عَذابًا ذا صَعَدٍ. وقالَ عِكْرِمَةُ: الصَّعَدُ هو صَخْرَةٌ مَلْساءُ في جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ صُعُودَها، فَإذا انْتَهى إلى أعْلاها حَدَرَ إلى جَهَنَّمَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [المدثر: ١٧] والصَّعُودُ العَقَبَةُ الكَئُودُ. ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ﴾ قَدْ قَدَّمَنا اتِّفاقَ القُرّاءِ هُنا عَلى الفَتْحِ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى أنَّهُ اسْتَمَعَ أيْ: وأُوحِيَ إلَيَّ أنَّ المَساجِدَ مُخْتَصَّةٌ بِاللَّهِ. وقالَ الخَلِيلُ: التَّقْدِيرُ ولِأنَّ المَساجِدَ. والمَساجِدُ: المَواضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلاةِ فِيها. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قالَتِ الجِنَّ كَيْفَ لَنا أنْ نَأْتِيَ المَساجِدَ ونَشْهَدَ مَعَكَ الصَّلاةَ ونَحْنُ ناءُونَ عَنْكَ ؟ فَنَزَلَتْ. وقالَ الحَسَنُ: أرادَ بِها كُلَّ البِقاعِ لِأنَّ الأرْضَ كُلَّها مَسْجِدٌ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وطَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: أرادَ بِالمَساجِدِ الأعْضاءَ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْها العَبْدُ، وهي القَدَمانِ والرُّكْبَتانِ واليَدانِ والجَبْهَةُ، يَقُولُ هَذِهِ أعْضاءٌ أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلَيْكَ فَلا تَسْجُدْ بِها لِغَيْرِهِ فَتَجْحَدُ نِعْمَةَ اللَّهِ، وكَذا قالَ عَطاءٌ. وقِيلَ المَساجِدُ هي الصَّلاةُ لِأنَّ السُّجُودَ مِن جُمْلَةِ أرْكانِها قالَهُ الحَسَنُ ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ مِن خَلْقِهِ كائِنًا ما كانَ. ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ قَدْ قَدَّمْنا أنَّ الجُمْهُورَ قَرَءُوا هُنا بِفَتْحِ ( أنَّ ) عَطْفًا عَلى ﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ أيْ وأوْحِيَ إلَيَّ أنَّ الشَّأْنَ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ - وهو النَّبِيُّ ﷺ - يَدْعُوهُ أيْ يَدْعُو اللَّهَ ويَعْبُدُهُ، وذَلِكَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ كَما تَقَدَّمَ؛ حِينَ قامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي ويَتْلُو القُرْآنَ وقَدْ قَدَّمْنا أيْضًا قِراءَةَ مَن قَرَأ بِكَسْرِ ( إنَّ ) هُنا، وفِيها غُمُوضٌ وبُعْدٌ عَنِ المَعْنى المُرادِ ﴿كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ أيْ كادَ الجِنُّ يَكُونُونَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ لِبَدًا: أيْ مُتَراكِمِينَ مِنِ ازْدِحامِهِمْ عَلَيْهِ لِسَماعِ القُرْآنِ مِنهُ. قالَ الزَّجّاجُ: ومَعْنى لِبَدًا: يَرْكَبُ بَعْضُهم بَعْضًا، ومِن هَذا اشْتِقاقُ هَذِهِ اللُّبُودِ الَّتِي تُفْرَشُ. قَرَأ الجُمْهُورُ لِبَدًا بِكَسْرِ اللّامِ وفَتْحِ الباءِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وهِشامٌ بِضَمِّ اللّامِ وفَتْحِ الباءِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ، والعُقَيْلِيُّ، والجَحْدَرِيُّ بِضَمِّ الباءِ واللّامِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو العالِيَةِ، والأعْرَجُ بِضَمِّ اللّامِ وتَشْدِيدِ الباءِ مَفْتُوحَةً. فَعَلى القِراءَةِ الأُولى المَعْنى ما ذَكَرْناهُ، وعَلى قِراءَةِ ضَمِّ اللّامِ يَكُونُ المَعْنى كَثِيرًا كَما في قَوْلِهِ: ﴿أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا﴾ [البلد: ٦] وقِيلَ المَعْنى: كادَ المُشْرِكُونَ يَرْكَبُ بَعْضُهم بَعْضًا حَرْدًا عَلى النَّبِيِّ ﷺ . وقالَ الحَسَنُ،، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ بِالدَّعْوَةِ، تَلَبَّدَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى هَذا الأمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأبى اللَّهُ إلّا أنْ يَنْصُرَهُ، ويُتِمَّ نُورَهُ. واخْتارَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ. قالَ مُجاهِدٌ لِبَدًا: أيْ جَماعاتٍ، وهو مَن تَلَبَّدَ الشَّيْءُ عَلى الشَّيْءِ أيِ اجْتَمَعَ ومِنهُ اللَّبَدُ الَّذِي يُفْرَشُ لِتَراكُمِ صُوفِهِ، وكُلُّ شَيْءٍ ألْصَقْتَهُ إلْصاقًا شَدِيدًا فَقَدْ لَبَّدْتَهُ، ويُقالُ لِلشَّعَرِ الَّذِي عَلى ظَهْرِ الأسَدِ لُبْدَةٌ، وجَمْعُها لُبَدٌ ويُقالُ لِلْجَرادِ الكَثِيرِ لُبَدٌ، ويُطْلَقُ اللُّبَدُ بِضَمِّ اللّامِ وفَتْحِ الباءِ عَلى الشَّيْءِ الدّائِمِ، ومِنهُ قِيلَ لِنَسْرِ لُقْمانَ لُبَدٌ لِطُولِ بَقائِهِ، وهو المَقْصُودُ بِقَوْلِ النّابِغَةِ: ؎أخْنى عَلَيْها الَّذِي أخْنى عَلى لُبَدٍ ﴿قُلْ إنَّما أدْعُو رَبِّي﴾ أيْ قالَ عَبْدُ اللَّهِ إنَّما أدْعُو رَبِّي وأعْبُدُهُ ﴿ولا أُشْرِكُ بِهِ أحَدًا﴾ مِن خَلْقِهِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " قالَ " وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ قُلْ عَلى الأمْرِ. وسَبَبُ نُزُولِها أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّكَ جِئْتَ بِأمْرٍ عَظِيمٍ، وقَدْ عادَيْتَ النّاسَ كُلَّهم فارْجِعْ عَنْ هَذا فَنَحْنُ نُجِيرُكَ. ﴿قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا رَشَدًا﴾ أيْ لا أقْدِرُ أنْ أدْفَعَ عَنْكم ضَرًّا ولا أسُوقُ إلَيْكم خَيْرًا، وقِيلَ الضُّرُّ الكُفْرُ، والرَّشَدُ الهُدى، والأوَّلُ أوْلى لِوُقُوعِ النَّكِرَتَيْنِ في سِياقِ النَّفْيِ، فَهُما يَعُمّانِ كُلَّ ضَرَرٍ وكُلَّ رَشَدٍ في الدُّنْيا والدِّينِ. ﴿قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أحَدٌ﴾ أيْ لا يَدْفَعُ عَنِّي أحَدٌ عَذابَهُ إنْ أنْزَلَهُ بِي ﴿ولَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ أيْ مَلْجَأً ومَعْدِلًا وحِرْزًا، وقالَ الكَلْبِيُّ: مَدْخَلًا في الأرْضِ مِثْلَ السِّرْبِ، وقِيلَ مَذْهَبًا ومَسْلَكًا، والمَعْنى مُتَقارِبٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎يا لَهَفَ نَفْسِي ولَهْفًا غَيْرَ مُجْدِيَةٍ ∗∗∗ عَنِّي وما مِن قَضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ﴾ هو مِن قَوْلِهِ ( لا أمْلِكُ ): أيْ لا أمْلِكُ ضَرًّا ولا رَشَدًا إلّا التَّبْلِيغَ مِنَ اللَّهِ، فَإنَّ فِيهِ أعْظَمَ الرَّشَدِ، أوْ مِن ( مُلْتَحَدًا ) أيْ لَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مَلْجَأً إلّا التَّبْلِيغَ. قالَ مُقاتِلٌ: ذَلِكَ الَّذِي يُجِيرُنِي مِن عَذابِهِ. وقالَ قَتادَةُ: ﴿إلّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ﴾، فَذَلِكَ الَّذِي أمْلِكُهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَأمّا الكُفْرُ والإيمانُ فَلا أمْلِكُهُما. قالَ الفَرّاءُ: لَكِنْ أُبَلِّغُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ، فَهو عَلى هَذا مُنْقَطِعٌ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو مَنصُوبٌ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ مُلْتَحَدًا أيْ ولَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إلّا أنْ أُبَلِّغَ ما يَأْتِي مِنَ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ورِسالاتِهِ مَعْطُوفٌ عَلى بَلاغًا: أيْ إلّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وإلّا رِسالاتِهِ الَّتِي أرْسَلَنِي بِها إلَيْكم. أوْ: إلّا أنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ وأعْمَلَ بِرِسالاتِهِ فَآخُذَ نَفْسِي بِما آمُرُ بِهِ غَيْرِي. وقِيلَ: الرِّسالاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الِاسْمِ (p-١٥٤٢)الشَّرِيفِ، أيْ: إلّا بَلاغًا عَنِ اللَّهِ وعَنْ رِسالاتِهِ، كَذا قالَ أبُو حَيّانَ ورَجَّحَهُ ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ في الأمْرِ بِالتَّوْحِيدِ لِأنَّ السِّياقَ فِيهِ ﴿فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِ ( إنَّ ) عَلى أنَّها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وقُرِئَ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ فاءِ الجَزاءِ مَوْضِعُ ابْتِداءٍ، والتَّقْدِيرُ فَجَزاؤُهُ أنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ، أوْ فَحُكْمُهُ أنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ، وانْتِصابُ خالِدِينَ فِيها عَلى الحالِ: أيْ في النّارِ أوْ في جَهَنَّمَ، والجَمْعُ بِاعْتِبارِ مَعْنى " مِن " كَما أنَّ التَّوْحِيدَ في قَوْلِهِ فَإنَّ لَهُ بِاعْتِبارِ لَفْظِها، وقَوْلُهُ: أبَدًا تَأْكِيدٌ لِمَعْنى الخُلُودِ: أيْ خالِدِينَ فِيها بِلا نِهايَةٍ. ﴿حَتّى إذا رَأوْا ما يُوعَدُونَ﴾ يَعْنِي مِنَ العَذابِ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ. والمَعْنى لا يَزالُونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الإصْرارِ عَلى الكُفْرِ وعَداوَةِ النَّبِيِّ ﷺ والمُؤْمِنِينَ حَتّى إذا رَأوُا الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَن أضْعَفُ ناصِرًا وأقَلُّ عَدَدًا﴾ أيْ مَن هو أضْعَفُ جُنْدًا يَنْتَصِرُ بِهِ وأقَلُّ عَدَدًا أهم أمِ المُؤْمِنُونَ ؟ . ﴿قُلْ إنْ أدْرِي أقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ﴾ أيْ ما أدْرِي أقَرِيبٌ حُصُولُ ما تُوعَدُونَ مِنَ العَذابِ ﴿أمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أمَدًا﴾ أيْ غايَةً ومُدَّةً، أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّ يَقُولَ لَهم هَذا القَوْلَ لِما قالُوا لَهُ مَتى يَكُونُ هَذا الَّذِي تُوعِدُنا بِهِ ؟ قالَعَطاءٌ: يُرِيدُ أنَّهُ لا يَعْرِفُ يَوْمَ القِيامَةِ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ، والمَعْنى أنَّ عِلْمَ وقْتِ العَذابِ عِلْمُ غَيْبٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ رَبِّي بِإسْكانِ الياءِ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِها، و( مَن ) في ( مَن أضْعَفُ ) مَوْصُولَةٌ، و( أضْعَفُ ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هو أضْعَفُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً مُرْتَفِعَةً عَلى الِابْتِداءِ و( أضْعَفُ ) خَبَرُها، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أدْرِي، وقَوْلُهُ أقَرِيبٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وما تُوعَدُونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. ﴿عالِمُ الغَيْبِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن رَبِّي، أوْ بَيانٌ لَهُ أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها مِن عَدَمِ الدِّرايَةِ. وقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلى المَدْحِ. وقَرَأ السَّرِيُّ " عَلِمَ الغَيْبَ " بِصِيغَةِ الفِعْلِ ونَصْبِ الغَيْبِ، والفاءُ في ﴿فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا﴾ لِتَرْتِيبِ عَدَمِ الإظْهارِ عَلى تَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الغَيْبِ: أيْ لا يُطْلِعُ عَلى الغَيْبِ الَّذِي يَعْلَمُهُ - وهو ما غابَ عَنِ العِبادِ - أحَدًا مِنهم. ثُمَّ اسْتَثْنى فَقالَ: ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ أيْ إلّا مَنِ اصْطَفاهُ مِنَ الرُّسُلِ أوْ مَنِ ارْتَضاهُ مِنهم لِإظْهارِهِ عَلى بَعْضِ غَيْبِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دالًّا عَلى نُبُوَّتِهِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ العُلَماءُ: لَمّا تَمَدَّحَ سُبْحانَهُ بِعِلْمِ الغَيْبِ واسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ كانَ فِيهِ دَلِيلٌ أنَّهُ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ أحَدٌ سِواهُ، ثُمَّ اسْتَثْنى مَنِ ارْتَضى مِنَ الرُّسُلِ، فَأوْدَعَهم ما شاءَ مِن غَيْبِهِ بِطَرِيقِ الوَحْيِ إلَيْهِمْ، وجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لَهم ودَلالَةً صادِقَةً عَلى نُبُوَّتِهِمْ، ولَيْسَ المُنَجِّمُ ومَن ضاهاهُ مِمَّنْ يَضْرِبُ بِالحَصى ويَنْظُرُ في الكَفِّ ويَزْجُرُ بِالطِّينِ مِمَّنِ ارْتَضاهُ مِن رَسُولٍ فَيُطْلِعُهُ عَلى ما يَشاءُ مِن غَيْبِهِ، فَهو كافِرٌ بِاللَّهِ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِحَدَسِهِ وتَخْمِينِهِ وكَذِبِهِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى﴾ مِن رَسُولٍ هو جِبْرِيلُ، وفِيهِ بُعْدٌ. وقِيلَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ فَإنَّهُ يُطْلِعُهُ عَلى بَعْضِ غَيْبِهِ، وهو ما يَتَعَلَّقُ بِرِسالَتِهِ كالمُعْجِزَةِ وأحْكامِ التَّكالِيفِ وجَزاءِ الأعْمالِ وما يُبَيِّنُهُ مِن أحْوالِ الآخِرَةِ، لا ما لا يَتَعَلَّقُ بِرِسالَتِهِ مِنَ الغُيُوبِ، كَوَقْتِ قِيامِ السّاعَةِ ونَحْوِهِ. قالَ الواحِدِيُّ: وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَنِ ادَّعى أنَّ النُّجُومَ تَدُلُّهُ عَلى ما يَكُونُ مِن حادِثٍ فَقَدْ كَفَرَ بِما في القُرْآنِ. قالَ في الكَشّافِ: وفي هَذا إبْطالٌ لِلْكَراماتِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ تُضافُ إلَيْهِمْ وإنْ كانُوا أوْلِياءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِن بَيْنِ المُرْتَضِينَ بِالِاطِّلاعِ عَلى الغَيْبِ، وإبْطالٍ لِلْكِهانَةِ والتَّنْجِيمِ؛ لِأنَّ أصْحابَهُما أبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضاءِ وأدْخَلُهُ في السُّخْطِ. قالَ الرّازِيُّ: وعِنْدِي لا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى شَيْءٍ مِمّا قالُوهُ إذْ لا صِيغَةَ عُمُومٍ في غَيْبِهِ، فَتُحْمَلُ عَلى غَيْبٍ واحِدٍ وهو وقْتُ القِيامَةِ لِأنَّهُ واقِعٌ بَعْدِ قَوْلِهِ: ﴿أقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ﴾ الآيَةَ. فَإنْ قِيلَ: فَما مَعْنى الِاسْتِثْناءِ حِينَئِذٍ ؟ قُلْنا: لَعَلَّهُ إذا قَرُبَتِ القِيامَةُ يُظْهِرُهُ، وكَيْفَ لا ؟ وقَدْ قالَ: ﴿ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالغَمامِ ونُزِّلَ المَلائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥] فَتَعْلَمُ المَلائِكَةُ حِينَئِذٍ قِيامَ القِيامَةِ، أوْ هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ: أيْ مَنِ ارْتَضاهُ مِن رَسُولٍ يَجْعَلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومَن خَلْفِهِ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِن شَرِّ مَرَدَةِ الجِنِّ والإنْسِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِهِ لا يُطْلِعُ أحَدًا عَلى شَيْءٍ مِنَ المُغَيَّباتِ أنَّهُ ثَبَتَ كَما يُقارِبُ التَّواتُرَ أنَّ شِقًّا وسَطِيحًا كانا كاهِنَيْنِ وقَدْ عَرَفا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وكانا مَشْهُورَيْنِ بِهَذا العِلْمِ عِنْدَ العَرَبِ حَتّى رَجَعَ إلَيْهِما كِسْرى. فَثَبَتَ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يُطْلِعُ غَيْرَ الرُّسُلِ عَلى شَيْءٍ مِنَ المُغَيَّباتِ، وأيْضًا أطْبَقَ أهْلُ المِلَلِ عَلى أنَّ مُعَبِّرَ الرُّؤْيا يُخْبِرُ عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ويَكُونُ صادِقًا فِيها، وأيْضًا قَدْ نَقَلَ السُّلْطانُ سِنْجَرُ بْنُ مَلِكِ شاهْ كاهِنَةً مِن بَغْدادَ إلى خُراسانَ وسَألَها عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ فَأخْبَرَتْهُ بِها، فَوَقَعَتْ عَلى وفْقِ كَلامِها. قالَ: وأخْبَرَنِي ناسٌ مُحَقِّقُونَ في عِلْمِ الكَلامِ والحِكْمَةِ أنَّها أخْبَرَتْ عَنْ أُمُورٍ غائِبَةٍ بِالتَّفْصِيلِ، فَكانَتْ عَلى وفْقِ خَبَرِها. وبالَغَ أبُو البَرَكاتِ في كِتابِ التَّعْبِيرِ في شَرْحِ حالِها، وقالَ: فَحَصَّتَ عَنْ حالِها ثَلاثِينَ سَنَةً، فَتَحَقَّقَتْ أنَّها كانَتْ تُخْبِرُ عَنِ المُغَيَّباتِ إخْبارًا مُطابِقًا. وأيْضًا فَإنّا نُشاهِدُ ذَلِكَ في أصْحابِ الإلْهاماتِ الصّادِقَةِ، وقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ في السَّحَرَةِ أيْضًا وقَدْ نَرى الأحْكامَ النُّجُومِيَّةَ مُطابَقَةً وإنْ كانَتْ قَدْ تَخْتَلِفُ، ولَوْ قُلْنا إنَّ القُرْآنَ يَدُلُّ عَلى خِلافِ هَذِهِ الأُمُورِ المَحْسُوسَةِ لِتَطَرَّقَ الطَّعْنُ إلى القُرْآنِ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ ما ذَكَرْنا، انْتَهى كَلامُهُ. قُلْتُ: أمّا قَوْلُهُ إذْ لا صِيغَةَ عُمُومٍ في غَيْبِهِ فَباطِلٌ، فَإنَّ إضافَةَ المَصْدَرِ واسْمِ الجِنْسِ مِن صِيَغِ العُمُومِ كَما صَرَّحَ بِهِ أئِمَّةُ الأُصُولِ وغَيْرُهم. وأمّا قَوْلُهُ: أوْ هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ فَمُجَرَّدُ دَعْوى يَأْباهُ النَّظْمُ القُرْآنِيُّ. وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ شَقًّا وسَطِيحًا إلَخْ، فَقَدْ كانا في زَمَنٍ تَسْتَرِقُ فِيهِ الشَّياطِينُ السَّمْعَ ويُلْقُونَ ما يَسْمَعُونَهُ إلى الكُهّانِ فَيَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالكَذِبِ، كَما ثَبَتَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وفِي قَوْلِهِ ﴿إلّا مَن خَطِفَ الخَطْفَةَ﴾ [الصافات: ١٠] ونَحْوِها مِنَ الآياتِ، فَبابُ (p-١٥٤٣)الكِهانَةِ قَدْ ورَدَ بَيانُهُ في هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وأنَّهُ كانَ طَرِيقًا لِبَعْضِ الغَيْبِ بِواسِطَةِ اسْتِراقِ الشَّياطِينِ حَتّى مُنِعُوا ذَلِكَ بِالبِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ. وقالُوا: ﴿وأنّا لَمَسْنا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا﴾ ﴿وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا﴾ [الجن: ٩، ٨] فَبابُ الكِهانَةِ في الوَقْتِ الَّذِي كانَتْ فِيهِ مَخْصُوصٌ بِأدِلَّتِهِ، فَهو مِن جُمْلَةِ ما يُخَصَّصُ بِهِ هَذا العُمُومُ، فَلا يَرُدُّ ما زَعَمَهُ مِن إيرادِ الكِهانَةِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ. وأمّا حَدِيثُ المَرْأةِ الَّذِي أوْرَدَهُ فَحَدِيثُ خُرافَةٍ، ولَوْ سَلَّمَ وُقُوعَ شَيْءٍ مِمّا حَكاهُ عَنْها مِنَ الأخْبارِ لَكانَ مِن بابِ ما ورَدَ في الحَدِيثِ «إنَّ في هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ وإنَّ مِنهم عُمَرَ» فَيَكُونُ كالتَّخْصِيصِ لِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ لا اقْتِضاءً لَها، وأمّا ما اجْتَرَأ بِهِ عَلى اللَّهِ وعَلى كِتابِهِ مِن قَوْلِهِ في آخِرِ كَلامِهِ: فَلَوْ قُلْنا إنَّ القُرْآنَ يَدُلُّ عَلى خِلافِ هَذِهِ الأُمُورِ المَحْسُوسَةِ لِتَطَرَّقَ الطَّعْنُ إلى القُرْآنِ - فَيُقالُ لَهُ ما هَذِهِ بِأوَّلِ زَلَّةٍ مِن زَلّاتِكَ، وسَقْطَةٍ مِن سَقَطاتِكَ، وكَمْ لَها لَدَيْكَ مِن أشْباهٍ ونَظائِرَ نَبَضَ بِها عِرْقُ فَلْسَفَتِكَ، ورَكَضَ بِها الشَّيْطانُ الَّذِي صارَ يَتَخَبَّطُكَ في مَباحِثِ تَفْسِيرِكَ، يا عَجَبًا لَكَ أيَكُونُ ما بَلَغَكَ مِن خَبَرِ هَذِهِ المَرْأةِ ونَحْوِهِ مُوجِبًا لِتَطَرُّقِ الطَّعْنِ إلى القُرْآنِ، وما أحْسَنَ ما قالَهُ بَعْضُ أُدَباءِ عَصْرِنا: ؎وإذا رامَتِ الذُّبابَةُ لِلشَّمْ ∗∗∗ سِ غِطاءً مَدَّتْ عَلَيْها جَناحًا وقُلْتُ مِن أبْياتٍ: ؎مَهَبُّ رِياحٍ سَدَّهُ بِجَناحِ ∗∗∗ وقابَلَ بِالمِصْباحِ ضَوْءَ صَباحِ فَإنْ قُلْتَ: إذَنْ قَدْ تَقَرَّرَ بِهَذا الدَّلِيلِ القُرْآنِيِّ أنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ مَنِ ارْتَضى مِن رُسُلِهِ عَلى ما شاءَ مِن غَيْبِهِ، فَهَلْ لِلرَّسُولِ الَّذِي أظْهَرَهُ اللَّهُ عَلى ما شاءَ مِن غَيْبِهِ أنْ يُخْبِرَ بِهِ بَعْضَ أُمَّتِهِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ ولا مانِعَ مِن ذَلِكَ. وقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن هَذا ما لا يَخْفى عَلى عارِفٍ بِالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، فَمِن ذَلِكَ ما صَحَّ أنَّهُ قامَ مَقامًا أخْبَرَ فِيهِ بِما سَيَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وما تَرَكَ شَيْئًا مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالفِتَنِ ونَحْوِها، حَفِظَ ذَلِكَ مَن حَفِظَهُ ونَسِيَهُ مَن نَسِيَهُ. وكَذَلِكَ ما ثَبَتَ مِن أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمانِ كانَ قَدْ أخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِما يَحْدُثُ مِنَ الفِتَنِ بَعْدَهُ، حَتّى سَألَهُ عَنْ ذَلِكَ أكابِرُ الصَّحابَةِ ورَجَعُوا إلَيْهِ. وثَبَتَ في الصَّحِيحِ وغَيْرِهِ «أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ سَألَهُ عَنِ الفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ، فَقالَ: إنَّ بَيْنَكَ وبَيْنَها بابًا، فَقالَ عُمَرُ: هَلْ يُفْتَحُ أوْ يُكْسَرُ ؟ فَقالَ: بَلْ يُكْسَرُ، فَعَلِمَ عُمَرُ أنَّهُ البابُ، وأنَّ كَسْرَهُ قَتْلُهُ» كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المَعْرُوفِ أنَّهُ قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كانَ عُمَرُ يَعْلَمُ ذَلِكَ ؟ فَقالَ: نَعَمْ كَما يَعْلَمُ أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ. وكَذَلِكَ ما ثَبَتَ مِن إخْبارِهِ لِأبِي ذَرٍّ بِما يَحْدُثُ لَهُ، وإخْبارُهُ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ بِخَبَرِ ذِي الثُّدَيَّةِ ونَحْوِ هَذا مِمّا يَكْثُرُ تَعَدُّدُهُ ولَوْ جَمْعٌ لَجاءَ مِنهُ مُصَنَّفٌ مُسْتَقِلٌّ. وإذا تَقَرَّرَ هَذا فَلا مانِعَ مِن أنَّ يَخْتَصَّ بَعْضُ صُلَحاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِن أخْبارِ الغَيْبِ الَّتِي أظْهَرُها اللَّهُ لِرَسُولِهِ، وأظْهَرَها رَسُولُهُ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ، وأظْهَرَها هَذا البَعْضُ مِنَ الأُمَّةِ لِمَن بَعْدَهم، فَتَكُونُ كَراماتُ الصّالِحِينَ مِن هَذا القَبِيلِ، والكُلُّ مِنَ الفَيْضِ الرَّبّانِيِّ بِواسِطَةِ الجَنابِ النَّبَوِيِّ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ يَحْفَظُ ذَلِكَ الغَيْبَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَقالَ: ﴿فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ والجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِلْإظْهارِ المُسْتَفادِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ، والمَعْنى: أنَّهُ يَجْعَلُ سُبْحانَهُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ ومِن خَلْفِهِ حَرَسًا مِنَ المَلائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ مِن تَعَرُّضِ الشَّياطِينِ لِما أظْهَرُهُ عَلَيْهِ مِنَ الغَيْبِ، أوْ يَجْعَلُ بَيْنَ يَدَيِ الوَحْيِ وخَلْفَهُ حَرَسًا مِنَ المَلائِكَةِ يَحُوطُونَهُ مِن أنْ تَسْتَرِقَهُ الشَّياطِينُ، فَتُلْقِيَهُ إلى الكَهَنَةِ، والمُرادُ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ. قالَ الضَّحّاكُ: ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلّا ومَعَهُ مَلائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الشَّياطِينِ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ المَلَكِ، فَإذا جاءَهُ شَيْطانٌ في صُورَةِ المَلَكِ قالُوا هَذا شَيْطانٌ فاحْذَرْهُ، وإنَّ جاءَهُ المَلَكُ قالُوا هَذا رَسُولُ رَبِّكَ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَصَدًا: أيْ حَفَظَةً يَحْفَظُونَ النَّبِيَّ ﷺ مِن أمامِهِ ووَرائِهِ مِنَ الجِنِّ والشَّياطِينِ. قالَ قَتادَةُ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: هم أرْبَعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ حَفَظَةٌ. وقالَ الفَرّاءُ: المُرادُ جِبْرِيلُ. قالَ في الصِّحاحِ: الرَّصَدُ القَوْمُ يَرْصُدُونَ كالحَرَسِ يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ والمُؤَنَّثُ، والرَّصَدُ لِلشَّيْءِ الرّاقِبُ لَهُ، يُقالُ: رَصَدَهُ يَرْصُدُهُ رَصَدًا ورَصْدًا والتَّرَصُّدُ التَّرَقُّبُ، والمَرْصَدُ مَوْضِعُ الرَّصْدِ. ﴿لِيَعْلَمَ أنْ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ﴾ اللّامُ مُتَعَلِّقٌ بِيَسْلُكُ، والمُرادُ بِهِ العِلْمُ المُتَعَلِّقُ بِالإبْلاغِ المَوْجُودِ بِالفِعْلِ، و" أنْ " هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واسْمُها ضَمِيرُ الشَّأْنِ، والخَبَرُ الجُمْلَةُ، والرِّسالاتُ عِبارَةٌ عَنِ الغَيْبِ الَّذِي أُرِيدَ إظْهارُهُ لِمَنِ ارْتَضاهُ اللَّهُ مِن رَسُولٍ، وضَمِيرُ ( أبْلَغُوا ) يَعُودُ إلى الرَّصْدِ. وقالَ قَتادَةُ، ومُقاتِلٌ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ قَدْ أبْلَغُوا الرِّسالَةَ كَما بَلَّغَ هو الرِّسالَةَ، وفِيهِ حَذْفٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ اللّامُ: أيْ أخْبَرْناهُ بِحِفْظِنا الوَحْيَ لِيَعْلَمَ أنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ كانُوا عَلى حالَتِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ. وقِيلَ لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أنَّ جِبْرِيلَ ومَن مَعَهُ قَدْ أبْلَغُوا إلَيْهِ رِسالاتِ رَبِّهِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وقِيلَ لِيَعْلَمَ الرُّسُلُ أنَّ المَلائِكَةَ قَدْ بَلَّغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وقِيلَ لِيَعْلَمَ إبْلِيسُ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ مِن غَيْرِ تَخْلِيطٍ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ لِيَعْلَمَ الجِنُّ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ أبْلَغُوا ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ ولَمْ يَكُونُوا هُمُ المُبْلِغِينَ بِاسْتِراقِ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ. وقالَ، مُجاهِدٌ،: لِيَعْلَمَ مَن كَذَّبَ الرُّسُلَ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. قَرَأ الجُمْهُورُ ( لِيَعْلَمَ ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ،، ومُجاهِدٌ،، وحَمِيدٌ ويَعْقُوبُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّها عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ: أيْ لِيَعْلَمَ النّاسُ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ أبْلَغُوا. وقالَ الزَّجّاجُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أنَّ رُسُلَهُ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِهِ، أيْ لِيَعْلَمَ ذَلِكَ عَنْ مُشاهَدَةٍ كَما عَلِمَهُ غَيْبًا. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والزُّهْرِيُّ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ اللّامِ ﴿وأحاطَ بِما لَدَيْهِمْ﴾ أيْ بِما عِنْدَهُ الرَّصْدُ مِنَ المَلائِكَةِ، أوْ بِما عِنْدَ الرُّسُلِ المُبَلِّغِينَ لِرِسالاتِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ " يَسْلُكُ " بِإضْمارِ قَدْ: أيْ والحالُ أنَّهُ تَعالى قَدْ أحاطَ بِما لَدَيْهِمْ مِنَ الأحْوالِ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِيَعْلَمَ أنَّ رَبَّهم قَدْ أحاطَ بِما لَدَيْهِمْ فَبَلَّغُوا رِسالاتِهِ ﴿وأحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ مِن جَمِيعِ الأشْياءِ الَّتِي كانَتْ والَّتِي سَتَكُونُ، (p-١٥٤٤)وهُوَ مَعْطُوفٌ عَلى أحاطَ. و( عَدَدًا ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلى التَّمْيِيزِ مُحَوَّلًا مِنَ المَفْعُولِ بِهِ: أيْ وأحْصى عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وفَجَّرْنا الأرْضَ عُيُونًا﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى المَصْدَرِيَّةِ، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ: مَعْدُودًا، والمَعْنى: أنَّ عِلْمَهُ سُبْحانَهُ بِالأشْياءِ لَيْسَ عَلى وجْهِ الإجْمالِ، بَلْ عَلى وجْهِ التَّفْصِيلِ أيْ: أحْصى كُلَّ فَرْدٍ مِن مَخْلُوقاتِهِ عَلى حِدَةٍ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: القاسِطُونَ العادِلُونَ عَنِ الحَقِّ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ﴾ قالَ: أقامُوا ما أمَرُوا بِهِ ﴿لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ قالَ: مَعِينًا، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السُّدِّيِّ قالَ: قالَ عُمَرُ وألَّوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهم فِيهِ قالَ: حَيْثُما كانَ الماءُ كانَ المالُ. وحَيْثُما كانَ المالُ كانَتِ الفِتْنَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ قالَ: لِنَبْتَلِيَهم بِهِ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿ومَن يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا﴾ قالَ: شُقَّةٌ مِنَ العَذابِ يُصَعَّدُ فِيها. وأخْرَجَ هَنّادٌ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا﴾ قالَ: جَبَلًا في جَهَنَّمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿عَذابًا صَعَدًا﴾ قالَ: لا راحَةَ فِيهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ﴾ قالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الأرْضِ مَسْجِدٌ إلّا مَسْجِدَ الحَرامِ، ومَسْجِدُ إيلِيّاءَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ الهِجْرَةِ إلى نَواحِي مَكَّةَ فَخَطَّ لِي خَطًّا. وقالَ: لا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتّى آتِيَكَ، ثُمَّ قالَ: لا يَهُولَنَّكَ شَيْئًا تَراهُ، فَتَقَدَّمَ شَيْئًا، ثُمَّ جَلَسَ فَإذا رِجالٌ سُودٌ كَأنَّهم رِجالُ الزُّطِّ، وكانُوا كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: «لَمّا سَمِعُوا النَّبِيَّ ﷺ يَتْلُو القُرْآنَ كادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الحِرْصِ لِما سَمِعُوهُ، ودَنَوْا مِنهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتّى أتاهُ الرَّسُولُ، فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ وابْنُ جَرِيرٍ،، والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ عَنْهُ أيْضًا في الآيَةِ قالَ: «لَمّا أتى الجِنُّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو يُصَلِّي بِأصْحابِهِ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ ويَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ، فَعَجِبُوا مِن طَواعِيَةِ أصْحابِهِ، فَقالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا» . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا ﴿لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ أيْ يَدْعُو اللَّهَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ قالَ: أعْوانًا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا ﴿فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ قالَ: أعْلَمَ اللَّهُ الرَّسُولَ مِنَ الغَيْبِ الوَحْيِ وأظْهَرَهُ عَلَيْهِ مِمّا أُوحِيَ إلَيْهِ مِن غَيْبِهِ وما يَحْكُمُ اللَّهُ؛ فَإنَّهُ لا يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْرُهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا رَصَدًا قالَ: هي مُعَقِّباتٌ مِنَ المَلائِكَةِ يَحْفَظُونَ رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الشَّياطِينِ حَتّى تَبَيَّنَ الَّذِي أرْسَلَ إلَيْهِمْ بِهِ، وذَلِكَ حَتّى يَقُولَ أهْلُ الشِّرْكِ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: ما نَزَّلَ اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ آيَةً مِنَ القُرْآنِ إلّا ومَعَها أرْبَعَةٌ مِن المَلائِكَةِ يَحْفَظُونَها، حَتّى يُؤَدُّوها إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَرَأ ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ يَعْنِي المَلائِكَةَ الأرْبَعَةَ ﴿لِيَعْلَمَ أنْ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ﴾ اهـ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب