الباحث القرآني

﴿إلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن مَفْعُولِ ﴿لا أمْلِكُ﴾ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ قَتادَةَ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ مُؤَكَّدٌ لِنَفِيِ الِاسْتِطاعَةِ فَلا اعْتِراضَ بِكَثْرَةِ الفَصْلِ المُبْعِدَةِ لِذَلِكَ فَإنْ كانَ المَعْنى لا أمْلِكُ أنْ أضُرَّكم ولا أنْفَعَكم كانَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا كَأنَّهُ قِيلَ لا أمْلِكُ شَيْئًا إلّا بَلاغًا وإنْ كانَ المَعْنى لا أمْلِكُ أنْ أقْسِرَكم عَلى الغَيِّ والرُّشْدِ كانَ مُنْقَطِعًا أوْ مِن بابِ: ولا عَيْبَ فِيهِمْ (p-94)غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم كَما في الكَشْفِ وظاهِرُ كَلامِ بَعْضِ الأجِلَّةِ أنَّهُ إمّا اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِن ﴿رَشَدًا﴾ فَإنَّ الإبْلاغَ إرْشادٌ ونَفْعٌ والِاسْتِثْناءَ مِنَ المَعْطُوفِ دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ جائِزٌ، وإمّا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ مِن ﴿مُلْتَحَدًا﴾ قالَ الرّازِيُّ لِأنَّ البَلاغَ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ لِأنَّهُ لا يَكُونُ مِن دُونِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بَلْ مِنهُ جَلَّ وعَلا وبِإعانَتِهِ وتَوْفِيقِهِ. وفِي البَحْرِ قالَ الحَسَنُ هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ أيْ ﴿لَنْ يُجِيرَنِي﴾ أحَدٌ لَكِنْ إنْ بَلَغَتْ رَحْمَتِي بِذَلِكَ والإجارَةُ مُسْتَعارَةٌ لِلْبَلاغِ إذْ هو سَبَبُ إجارَةِ اللَّهِ تَعالى ورَحِمَتِهِ سُبْحانَهُ وقِيلَ هو عَلى هَذا المَعْنى اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ. والمَعْنى لَنْ أجِدَ شَيْئًا أمِيلُ إلَيْهِ وأعْتَصِمُ بِهِ إلّا أنْ أُبُلِّغَ وأُطِيعَ فَيُجِيرَنِي فَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلى الِاسْتِثْناءِ مِن﴿مُلْتَحَدًا﴾ أوْ عَلى البَدَلِ وهو الوَجْهُ لِأنَّ قَبْلَهُ نَفْيًا وعَلى البَدَلِ خَرَّجَهُ الزَّجاجُ انْتَهى. والأظْهَرُ ما تَقَدَّمَ وقِيلَ إنَّ إلّا مُرَكَّبَةٌ مِن أنَّ الشَّرْطِيَّةَ ولا النّافِيَةَ والمَعْنى أنْ لا أُبَلِّغَ بَلاغًا وما قَبْلَهُ دَلِيلُ الجَوابِ فَهو كَقَوْلِكَ إلّا قِيامًا فَقُعُودًا وظاهِرُهُ أنَّ المَصْدَرَ سَدَّ مَسَدِّ الشَّرْطِ كَمَعْمُولٍ كانَ ولَهم في حَذْفِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَعَ بَقاءِ الأداةِ كَلامٌ والظّاهِرُ أنَّ إطِّرادَ حَذْفِهِ مَشْرُوطٌ بِبَقاءِ لا كَما في قَوْلِهِ: ؎فَطَلِّقْها فَلَسْتَ لَها بِكُفْءٍ وإلّا يَعْلُ مِفْرَقَكَ الحُسامُ ما لَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ شَيْءٌ مِن مَعْمُولٍ أوْ مُفَسِّرٍ كَ ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ﴾ [التَّوْبَةِ: 6] والنّاسُ مَجْزِيُّونَ بِأعْمالِهِمْ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وهَذا الوَجْهُ خِلافُ المُتَبادِرِ كَما لا يَخْفى وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ورِسالاتِهِ﴾ عَطْفٌ عَلى بَلاغًا ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَهُ أيْ بَلاغًا كائِنًا مِنَ اللَّهِ ولَيْسَ بِصِلَةٍ لَهُ لِأنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِعَنْ كَما في قَوْلِهِ ﷺ: ««بَلِّغُوا عَنِّي ولَوْ آيَةً»» . والمَعْنى عَلى ما عَلِمْتَ أوَّلًا في الِاسْتِثْناءِ لا أمْلِكُ لَكم إلّا تَبْلِيغًا كائِنًا مِنهُ تَعالى ورِسالاتِهِ الَّتِي أرْسَلَنِي عَزَّ وجَلَّ بِها. وفي الكَشْفِ في الكَلامِ إضْمارٌ أيْ بَلاغَ رِسالَتِهِ وأصْلُ الكَلامِ إلّا بَلاغَ رِسالاتِ اللَّهِ فَعَدَلَ إلى المَنزِلِ لِيَدُلَّ عَلى التَّبْلِيغَيْنِ مُبالَغَةً وإنَّ كُلًّا مِنَ المَعْنَيَيْنِ أعْنِي كَوْنَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى وكَوْنَهُ بَلاغَ رِسالاتِهِ يَقْتَضِي التَّشَمُّرَ لِذَلِكَ انْتَهى. وفِي عِبارَةِ الكَشّافِ رَمَزَ ما إلَيْهِ لَكِنْ قِيلَ عَلَيْهِ لا يَنْبَغِي تَقْدِيرُ المُضافِ فِيهِ أعْنِي بِلاغَ فَإنَّهُ يَكُونُ العَطْفُ حِينَئِذٍ مِن عَطْفِ الشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ إلّا أنْ يُوَجَّهَ بِأنَّ البَلاغَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فِيما أخَذَهُ عَنْهُ سُبْحانَهُ بِغَيْرِ واسِطَةٍ والبَلاغَ لِلرِّسالاتِ فِيما هو بِها وهو بَعِيدٌ غايَةَ البُعْدِ فافْهَمْ. واسْتَظْهَرَ أبُو حَيّانٍ عَطْفَهُ عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ فَقالَ الظّاهِرُ عَطْفُ ( رِسالاتِهِ ) عَلى ﴿اللَّهِ﴾ أيْ إلّا أنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ وعَنْ رِسالاتِهِ وظاهِرُهُ جَعْلُ ﴿مِنَ﴾ بِمَعْنى عَنْ وقَدْ تَقَدَّمَ مِنهُ أنَّها لِابْتِداءِ الغايَةِ. وقُرِئَ «قالَ لا أمْلِكُ» أيْ قالَ عَبْدُ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ أوْ لِلْجِنِّ وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ مِن حِكايَةِ الجِنِّ لِقَوْمِهِمْ. هَذا ووْجْهُ ارْتِباطِ الآيَةِ بِما قَبْلَها قِيلَ بِناءً عَلى أنَّ التَّلَبُّدَ لِلْعَداوَةِ أنَّهم لَمّا تَلَبَّدُوا عَلَيْهِ ﷺ مُتَظاهِرِينَ لِلْعَداوَةِ قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا رَشَدًا﴾ أيْ ما أرَدْتُ إلّا نَفْعَكم وقابَلْتُمُونِي بِالإساءَةِ ولَيْسَ في اسْتِطاعَتِي النَّفْعُ الَّذِي أرَدْتُ ولا الضُّرُّ الَّذِي أُكافِئُكم بِهِ إنَّما ذانِ إلى اللَّهِ تَعالى وفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وتَوْكِيلٌ إلى اللَّهِ جَلَّ وعَلا وأنَّهُ سُبْحانَهُ هو الَّذِي يَجْزِيهِ بِحُسْنِ صَنِيعِهِ وسُوءِ صَنِيعِهِمْ، ثُمَّ فِيهِ مُبالَغَةٌ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يَدَعُ التَّبْلِيغَ لِتَظاهُرِهِمْ هَذا فَإنَّ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هو التَّبْلِيغُ ولا يَدَعُ المُسْتَطاعَ ولِهَذا قالَ ﴿إلا بَلاغًا﴾ وجَعْلُهُ بَدَلًا مِن ﴿مُلْتَحَدًا﴾ شَدِيدُ الطِّباقِ عَلى هَذا والشَّرْطُ قَرِيبٌ مِنهُ، وأمّا إنْ كانَ الخِطابُ لِلْجِنِّ والتَّلَبُّدُ لِلتَّعَجُّبِ فالوَجْهُ أنَّهم لَمّا تَلَبَّدُوا لِذَلِكَ قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قُلْ لَهم ما لَكُمُ ازْدَحَمْتُمْ عَلَيَّ مُتَعَجِّبِينَ مِنِّي ومِن تَطامُنِ أصْحابِي عَلى العِبادَةِ أنِّي لَيْسَ إلَيَّ النَّفْعُ والضُّرُّ إنَّما أنا مُبَلِّغٌ عَنِ الضّارِّ النّافِعِ فَأقْبِلُوا أنْتُمْ مِثْلَنا عَلى العِبادَةِ ولا تُقْبِلُوا عَلى التَّعَجُّبِ فَإنَّ العَجَبَ مِمَّنْ يُعْرِضُ عَنِ المُنْعِمِ المُنْتَقِمِ الضّارِّ النّافِعِ ولَعَلَّ اعْتِبارَ قُوَّةِ الِارْتِباطِ يَقْتَضِي أوْلَوِيَّةَ كَوْنِ التَّلَبُّدِ كانَ لِلْعَداوَةِ ومَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ أيْ في الأمْرِ بِالتَّوْحِيدِ إذِ الكَلامُ فِيهِ فَلا يَصِحُّ اسْتِدْلالُ المُعْتَزِلَةِ ونَحْوِهِمْ بِالآيَةِ (p-95)عَلى تَخْلِيدِ العُصاةِ في النّارِ وجَوَّزَ أنْ يُرادَ بِالرَّسُولِ رَسُولُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ دُونَ رَسُولِ البَشَرِ فالمُرادُ بِعِصْيانِهِ أنْ لا يُبَلِّغَ المُرْسَلَ إلَيْهِ ما وصَلَ إلَيْهِ كَما وصَلَ وهو خِلافُ الظّاهِرِ ﴿فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها﴾ أيْ في النّارِ أوْ في جَهَنَّمَ وجَمْعُ ﴿خالِدِينَ﴾ بِاعْتِبارِ مَعْنى ( مَن ) كَما أنَّ الإفْرادَ قَبْلُ بِاعْتِبارِ لَفْظِها ولَوْ رُوعِيَ هُنا أيْضًا لَقِيلَ خالِدًا ﴿أبَدًا﴾ بِلا نِهايَةٍ. وقَرَأ طَلْحَةُ «فَأنَّ» بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى أنَّ التَّقْدِيرَ كَما قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ وغَيْرُهُ فَجَزاءُهُ أنَّ لَهُ إلَخِ وقَدْ نَصَّ النُّحاةُ عَلى أنَّ أنَّ بَعْدَ فاءِ الشَّرْطِ يَجُوزُ فِيها الفَتْحُ والكَسْرُ فَقَوْلُ ابْنِ مُجاهِدٍ ما قَرَأ بِهِ أحَدٌ وهو لَحْنٌ لِأنَّهُ بَعْدَ فاءِ الشَّرْطِ ناشِئٌ مِن قِلَّةِ تَتَبُّعِهِ وضَعْفِهِ في النَّحْوِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب