الباحث القرآني

﴿ولَمّا جاءَهُمْ﴾ يَعْنِي اليَهُودَ كِتابٌ يَعْنِي القُرْآنَ، ومُصَدِّقٌ وصْفٌ لَهُ، وهو في مُصْحَفِ أبِي مَنصُورٍ ونَصَبَهُ عَلى الحالِ وإنْ كانَ صاحِبُها نَكِرَةً فَقَدْ تَخَصَّصَتْ بِوَصْفِها بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ وتَصْدِيقُهُ لِما مَعَهم مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ أنَّهُ يُخْبِرُهم بِما فِيهِما ويُصَدِّقُهُ ولا يُخالِفُهُ. والِاسْتِفْتاحُ الِاسْتِنْصارُ، أيْ كانُوا مِن قَبْلُ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ عَلى أعْدائِهِمْ بِالنَّبِيِّ المَنعُوتِ في آخِرِ الزَّمانِ الَّذِي يَجِدُونَ صِفَتَهُ عِنْدَهم في التَّوْراةِ، وقِيلَ: الِاسْتِفْتاحُ هُنا بِمَعْنى الفَتْحِ، أيْ يُخْبِرُونَهم بِأنَّهُ سَيُبْعَثُ ويُعَرِّفُونَهم بِذَلِكَ، وجَوابُ " لَمّا " في قَوْلِهِ: ﴿ولَمّا جاءَهم كِتابٌ﴾ قِيلَ: هو قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا﴾ وما بَعْدَهُ، وقِيلَ: هو مَحْذُوفٌ، أيْ كَذَّبُوا أوْ نَحْوَهُ، كَذا قالَ الأخْفَشُ والزَّجّاجُ. وقالَ المُبَرِّدُ: إنَّ جَوابَ " لَمّا " الأُولى هو قَوْلُهُ: كَفَرُوا وأُعِيدَتْ " لَمّا " الثّانِيَةُ لِطُولِ الكَلامِ، واللّامُ في ( الكافِرِينَ ) لِلْجِنْسِ. ويَجُوزُ أنَّ تَكُونَ لِلْعَهْدِ ويَكُونَ هَذا مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، والأوَّلُ أظْهَرُ. و( ما ) في قَوْلِهِ: بِئْسَما مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، أيْ بِئْسَ الشَّيْءُ أوْ شَيْئًا ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ قالَهُ سِيبَوَيْهِ. وقالَ الأخْفَشُ: " ما " في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ. وقالَ الفَرّاءُ: " بِئْسَما " بِجُمْلَتِهِ شَيْءٌ واحِدٌ رُكِّبَ كَحَبَّذا. وقالَ الكِسائِيُّ: " ما " و" اشْتَرَوْا " بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ قائِمٍ بِنَفْسِهِ، والتَّقْدِيرُ: بِئْسَ اشْتِراؤُهم أنْ يَكْفُرُوا. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ يَكْفُرُوا﴾ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وخَبَرُهُ ما قَبْلُهُ. وقالَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ: إنْ شِئْتَ كانَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنَ الهاءِ في " بِهِ ": أيِ اشْتَرَوْا أنْفُسَهم بِأنْ يَكْفُرُوا. وقالَ في الكَشّافِ: إنَّ " ما " نَكِرَةٌ مَنصُوبَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِفاعِلِ بِئْسَ، بِمَعْنى شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ " أنْ يَكْفُرُوا "، و " اشْتَرَوْا " بِمَعْنى باعُوا. وقَوْلُهُ: بَغْيًا أيْ حَسَدًا. قالَ الأصْمَعِيُّ: البَغْيُ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ قَدْ بَغى الجُرْحُ: إذا فَسَدَ، وقِيلَ: أصْلُهُ الطَّلَبُ ولِذَلِكَ سُمِّيَتِ الزّانِيَةُ بَغِيًّا. وهُوَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: اشْتَرَوُا وقَوْلُهُ: أنْ يُنَزِّلَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: بَغْيًا أيْ لِأنْ يُنَزِّلَ. والمَعْنى: أنَّهم باعُوا أنْفُسَهم بِهَذا الثَّمَنِ البَخْسِ حَسَدًا ومُنافَسَةً ﴿أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ " أنْ يُنْزِلَ " بِالتَّخْفِيفِ. فَباءُوا أيْ رَجَعُوا وصارُوا أحِقّاءَ ﴿بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى باءُوا ومَعْنى الغَضَبِ، قِيلَ: الغَضَبُ الأوَّلُ لِعِبادَتِهِمُ العِجْلَ، والثّانِي لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ، وقِيلَ: كُفْرِهِمْ بِعِيسى ثُمَّ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ، وقِيلَ: كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ثُمَّ البَغْيِ عَلَيْهِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. والمُهِينُ مَأْخُوذٌ مِنَ الهَوانِ، قِيلَ: وهو ما اقْتَضى الخُلُودَ في النّارِ. وقَوْلُهُ: ﴿بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ هو القُرْآنُ، وقِيلَ: كُلُّ كِتابٍ، أيْ صَدِّقُوا بِالقُرْآنِ أوْ صَدِّقُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكُتُبِ ﴿قالُوا نُؤْمِنُ﴾ أيْ نُصَدِّقُ ﴿بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ أيِ التَّوْراةُ. وقَوْلُهُ: ﴿ويَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ﴾ قالَ الفَرّاءُ: بِما سِواهُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: بِما بَعْدَهُ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: ( وراءَ ) بِمَعْنى خَلْفَ، وقَدْ يَكُونُ بِمَعْنى قُدّامَ وهي مِنَ الأضْدادِ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ وراءَهم مَلِكٌ﴾ أيْ قُدّامَهم، وهَذِهِ الجُمْلَةُ أعْنِي ويَكْفُرُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ، أيْ قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا حالَ كَوْنِهِمْ كافِرِينَ بِما وراءَهُ مَعَ كَوْنِ هَذا الَّذِي هو وراءَ ما يُؤْمِنُونَ بِهِ هو الحَقُّ. وقَوْلُهُ: (p-٧٦)مُصَدِّقًا حالٌ مُؤَكَّدَةٌ وهَذِهِ أحْوالٌ مُتَداخِلَةٌ أعْنِي قَوْلَهُ: ويَكْفُرُونَ وقَوْلَهُ: ﴿وهُوَ الحَقُّ﴾ وقَوْلَهُ: مُصَدِّقًا ثُمَّ اعْتَرَضَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ لَمّا قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا بِهَذِهِ الجُمْلَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى الِاسْتِفْهامِ المُفِيدِ لِلتَّوْبِيخِ، أيْ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ عَلَيْكم فَكَيْفَ تَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ وقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ قَتْلِهِمْ فِيما أُنْزِلَ عَلَيْكم ؟ وهَذا الخِطابُ وإنْ كانَ مَعَ الحاضِرِينَ مِنَ اليَهُودِ فالمُرادُ بِهِ أسْلافُهم، ولَكِنَّهم لَمّا كانُوا يَرْضَوْنَ بِأفْعالِ سَلَفِهِمْ كانُوا مِثْلَهم. واللّامُ في قَوْلِهِ: ولَقَدْ جَوابٌ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ. و( البَيِّناتِ ) يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِها التَّوْراةُ أوِ التِّسْعُ الآياتُ المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ الجَمِيعُ، ثُمَّ عَبَدْتُمُ العِجْلَ بَعْدَ النَّظَرِ في تِلْكَ البَيِّناتِ حالَ كَوْنِكم ظالِمِينَ بِهَذِهِ العِبادَةِ الصّادِرَةِ مِنكم عِنادًا بَعْدَ قِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْكم. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ﴾ قالَ: هو القُرْآنُ ﴿مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ﴾ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وأبُو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ كِلاهُما في الدَّلائِلِ مِن طَرِيقِ عاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتادَةَ الأنْصارِيِّ قالَ: حَدَّثَنِي أشْياخٌ مِنّا قالُوا: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ أعْلَمَ بِشَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنّا، لِأنَّ مَعَنا يَهُودَ وكانُوا أهْلَ كِتابٍ وكُنّا أصْحابَ وثَنٍ، وكانُوا إذا بَلَغَهم مِنّا ما يَكْرَهُونَ قالُوا: إنَّ نَبِيًّا لَيُبْعَثُ الآنَ قَدْ أظَلَّ زَمانُهُ نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلُكم مَعَهُ قَتْلَ عادٍ وإرَمَ، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اتَّبَعْناهُ وكَفَرُوا بِهِ فَفِينا واللَّهِ وفِيهِمْ أنْزَلَ اللَّهُ ﴿وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ قالُوا: كانَتِ العَرَبُ تَمُرُّ بِاليَهُودِ فَيُؤْذُونَهم وكانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا في التَّوْراةِ فَيَسْألُونَ اللَّهَ أنْ يَبْعَثَهُ نَبِيًّا فَيُقاتِلُونَ مَعَهُ العَرَبَ، فَلَمّا جاءَ مُحَمَّدٌ كَفَرُوا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن غَيْرِ وجْهٍ بِألْفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ومَعانِيها مُتَقارِبَةٌ. ورُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ نَحْوُ ذَلِكَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ قالَ: هُمُ اليَهُودُ كَفَرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ بَغْيًا وحَسَدًا لِلْعَرَبِ ﴿فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ قالَ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ بِكُفْرِهِمْ بِالإنْجِيلِ وبِعِيسى وبِكُفْرِهِمْ بِالقُرْآنِ وبِمُحَمَّدٍ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿بَغْيًا أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ﴾ أيْ أنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مِن غَيْرِهِمْ ﴿فَباءُوا بِغَضَبٍ﴾ بِكُفْرِهِمْ بِهَذا النَّبِيِّ عَلى غَضَبٍ كانَ عَلَيْهِمْ بِما صَنَعُوهُ مِنَ التَّوْراةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ مُجاهِدٍ مَعْناهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ويَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ﴾ قالَ: بِما بَعْدَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: بِما وراءَهُ: أيِ القُرْآنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب