الباحث القرآني

وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ: بِالْبَيِّناتِ: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وسائر الآيات، وخُذُوا ما/ آتَيْناكُمْ: يعني: التوراة والشرع بِقُوَّةٍ، أي: 29 ب بعزمٍ، ونشاطٍ. وجِدٍّ. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ: أي: حبَّ العجْلِ، والمعنى: جُعِلَتْ قلوبهم تَشْربه، وهذا تشبيهٌ ومجازٌ عبارة عن تمكُّن أمر العِجْل في قلوبهم. وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ يحتمل أن تكون باء السببِ، ويحتمل أن تكون بمعنى «مَعَ» . وقوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أمر لمحمّد ﷺ أن يوبِّخهم لأنَّه بئس هذه الأشياء التي فَعَلْتُمْ، وأمركم بها إِيمانُكُم الذي زعمتُمْ في قولكم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ... الآية: أمر لمحمّد ﷺ أنْ يوبِّخهم، والمعنى: إِن كان لكم نعيمُهَا وحُظْوَتُهَا، وخيرها، فذلك يقتضي حرْصَكُم على الوصُول إِليها، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، والدَّارُ: اسمُ «كان» ، و «خالصة» : خبرها ومِنْ دُونِ النَّاسِ يحتملُ أن يراد ب «النَّاس» : محمّد ﷺ، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم، وهذه آية بيّنة أعطاها الله رسوله محمّدا ﷺ لأن اليهود قالَتْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وشبه ذلك من القول، فأمر اللَّه نبيَّه أن يدعوهم إلى تمنِّي الموت، وأن يعلمهم أنه من تمنَّاه منهم مات، ففعل النبيّ ﷺ ذلك، فعلموا صدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عن تمنِّيه فَرَقاً من اللَّه لِقبحِ أفعالهم ومعرفتهم بكذبِهم، وحرصاً منهم على الحَيَاة، وقيل: إِن اللَّه تعالى منعهم من التمنِّي، وقصرهم على الإِمساك عنه لتظهر الآية لنبيّه ﷺ. ت: قال عِيَاضٌ [[ينظر: «الشفا» (ص 382- 383) .]] : ومن الوجوه البَيِّنة في إِعجاز القُرْآن آيٌ وردتْ بتعجيز قومٍ في قضايا [[قضايا: جمع قضية، وهي الحادثة الواقعة في حكم قضاء الله (تعالى) وقدره.]] ، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فَعَلُوا ولا قَدَرُوا على ذلك كقوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً [[خالصة: خاصة بكم.]] ... الآية: قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج [[«معاني القرآن» (1/ 176) .]] في هذه الآية: أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة لأنهُ قال لهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم «والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ» [[ينظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 182) ، الغصة: ما تقف في الحلق، فتمنع النفس حتى تهلكه، وغص بريقه: وقع الموت به سريعا. وقد ورد هذا موقوفا على ابن عباس، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم وينظر: «الدر المنثور» (1/ 173) .]] ، يعني: يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ [[عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر، أبو محمد، الأموي، المعروف بالأصيلي: عالم بالحديث، والفقه. من أهل «أصيلة» (في «المغرب» ) أصله من كورة «شبدونة» ولد فيها سنة 324 هـ، ورحل به أبوه إلى «أصيلا» من بلاد العدوة، فنشأ فيها، ويقال: ولد في «أصيلا» . رحل في طلب العلم، فطاف في «الأندلس» والمشرق، ودخل «بغداد» سنة 351 هـ، وعاد إلى «الأندلس» في آخر أيام المستنصر، فمات ب «قرطبة» ، له كتاب «الدلائل على أمهات المسائل» في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة. ينظر: «الأعلام» (4/ 63) ، و «جذوة المقتبس» (239) .]] : من أَعجب أمرهم أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه [[يقدم عليه أي: على تمني الموت. ولا يجيب إليه: أي إلى تمنيه، إذا قيل له: تمنه.]] ، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من «الشّفا» . والمراد بقوله: فَتَمَنَّوُا: أريدوهُ بقلوبكم، واسْألوهُ، هذا قَوْلُ جماعة من المفسِّرين، وقال ابن عبَّاس: المراد به السؤالُ فقطْ، وإِن لم يكن بالقَلْب [[ذكره السيوطي في «الدر» (1/ 172) بلفظ: «فاسألوا الموت» ، وعزاه لابن جرير. وذكره ابن عطية الأندلسي في «التفسير» (1/ 181) بلفظ: «السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب» . قاله ابن عباس.]] ، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنَّونه أبداً، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إِلى الأيدي إِذ الأَكْثَرُ من كسب [[الكسب أصله في اللغة: الجمع، قاله الجوهري: وهو طلب الرزق، يقال: كسبت شيئا واكتسبته بمعنى، وكسبت أهلي خيرا، وكسبت الرجل مالا فكسب، وهذا مما جاء على فعلته ففعل. والكواسب: الجوارح، وتكسب: تكلف الكسب، والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه: أحدها: عقد القلب وعزمه، كقوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] أي بما عزمتم عليه وقصدتموه. الوجه الثاني: من الكسب: كسب المال من التجارة، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة: 267] . فالأول للتجار، والثاني للزراع. الوجه الثالث: من الكسب: السعي والعمل، كقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] وقوله: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 39] وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الأنعام: 70] فهذا كله للعمل، واختلف الناس في الكسب والاكتساب، هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟ -- فقالت طائفة: معناهما واحد. قال أبو الحسن علي بن أحمد: وهو الصحيح عند أهل اللغة لا فرق بينهما، وقال ذو الرمة: [البسيط] ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب. وقال الآخرون: الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، ولا يقال: يكتسب، قال الحطيئة: [البسيط] ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر قلت: والاكتساب: افتعال، وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا، وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أو في سعي. وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها فيه اجتهاد واهتمام. والقائلون بالكسب اختلفوا في حقيقته، فقالت المعتزلة: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا، وليس للرب منع فيه، ولا هو خالق فعله، ولا مكونه، ولا مريد له. وقالت الأشعرية: هو مقارنة قدرة العبد لفعله الاختياري في محل واحد هو العبد، بمعنى أنه متى خلق الله القدرة التي هي العرض مقارنة لذلك الفعل، كان ذلك الفعل اختياريا ومكسوبا للعبد بدون أن يكون لقدرته فيه مدخل أصلا، وإن لم يخلق الله تلك القدرة المقارنة للفعل، بل خلق الفعل في العبد فقط، كان ذلك الفعل اضطراريا، ولم يكن مكسوبا للعبد. وهذا الفريق صرح بأن العبد مجبور في الباطن مختار في الظاهر، فهو عنده مجبور في صورة مختار. ولا يخفى أن هذا المذهب ومذهب الجبرية واحد معنى، فيلزم على كل من المذهبين ما يلزم على الآخر، والتستر بقالب الاختيار، وصورته الظاهرية، المخالفة للواقع لا يفيد. وقال العلامة الأمير: الكسب هو صرف إرادة العبد إلى الفعل، وهو أمر اعتباري، لا يحتاج لخلق وإيجاد، وبيان ذلك: أن العبد إذا توجهت إرادته لفعل من أفعاله كالصلاة، أوجد الله (تعالى) في العبد شيئين مقترنين أحدهما فعله بالمعنى الحاصل بالمصدر أي حركاته وسكناته. والثاني قدرته المتعلقة بفعله تعلق مقارنة، وتعلقه المذكور هو فعله بالمعنى المصدري، فالسبب هو توجه إرادة العبد، والمسبب شيئان وجوديان أوجدهما المولى تعالى مقترنين وهما فعل العبد وقدرته، فلا يناسب حينئذ جعل أحدهما علة أو شرطا لآخر، وإنما السبب أو الشرط في إيجاد المؤثر لهما إرادة العبد، لكنه عادي لا عقلي. فإذا قصد العبد فعل الخير خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الخير، وخلق الخير معها. وإن قصد فعل الشر خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الشر، وخلق الشر معها. فكان هو المفوت لقدرة فعل الخير لقصده فعل الشر فيستحق الذم. ينظر: «أفعال العباد» لشيخنا عبد الرحمن إبراهيم ص 51- 54.]] العبد الخير والشرَّ، إِنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك. وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: ظاهره الخبر، ومضمَّنه الوعيدُ لأن اللَّه سبحانه عليمٌ بالظالمينَ، وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب