الباحث القرآني

قَوْلُهُ: والمُطَلَّقاتُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ المُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ خُصِّصَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩] فَوَجَبَ بِناءُ العامِّ عَلى الخاصِّ، وخَرَجَتْ مِن هَذا العُمُومِ المُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وكَذَلِكَ خَرَجَتِ الحامِلُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] وكَذَلِكَ خَرَجَتِ الآيِسَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤] والتَّرَبُّصُ: الِانْتِظارُ، قِيلَ: هو خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ: أيْ لِيَتَرَبَّصْنَ، قَصَدَ بِإخْراجِهِ مُخْرَجَ الخَبَرِ تَأْكِيدَ وُقُوعِهِ، وزادَهُ تَأْكِيدًا وُقُوعُهُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: وهَذا باطِلٌ، وإنَّما هو خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَلى خِلافِ مُخْبِرِهِ. والقُرُوءُ جَمْعُ قُرْءٍ. ورُوِيَ عَنْ نافِعٍ أنَّهُ قَرَأ " قُرُوٍّ " بِتَشْدِيدِ الواوِ. وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِالهَمْزِ. وقَرَأ الحَسَنُ بِفَتْحِ القافِ وسُكُونِ الرّاءِ والتَّنْوِينِ. قالَ الأصْمَعِيُّ: الواحِدُ قُرْءٌ بِضَمِّ القافِ. وقالَ أبُو زَيْدٍ بِالفَتْحِ: وكِلاهُما قالَ أقَرَأتِ المَرْأةُ: حاضَتْ، وأقْرَأتْ: طَهُرَتْ. وقالَ الأخْفَشُ: أقَرَأتِ المَرْأةُ: إذا صارَتْ صاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإذا حاضَتْ قُلْتَ: قَرَأتْ بِلا ألِفٍ. وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ مِنَ العَرَبِ مَن يُسَمِّي الحَيْضَ قُرْءًا، ومِنهم مَن يُسَمِّي الطُّهْرَ قُرْءًا، ومِنهم مَن يَجْمَعُهُما جَمِيعًا فَيُسَمِّي الحَيْضَ مَعَ الطُّهْرِ قُرْءًا، ويَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ القُرْءَ في الأصْلِ: الوَقْتُ، يُقالُ: هَبَّتِ الرِّياحُ لِقُرْئِها ولِقارِئِها: أيْ لِوَقْتِها، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎كَرَهْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ إذا هَبَّتْ لِقارِئِها الرِّياحُ فَيُقالُ لِلْحَيْضِ قُرْءٌ، ولِلطُّهْرِ قُرْءٌ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما لَهُ وقْتٌ مَعْلُومٌ. وقَدْ أطْلَقَتْهُ العَرَبُ تارَةً عَلى الأطْهارِ، وتارَةً عَلى الحَيْضِ، فَمِن إطْلاقِهِ عَلى الأطْهارِ قَوْلُ الأعْشى: ؎أفِي كُلِّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ ∗∗∗ تَشَدُّ لْأقْصاها عَزِيمَ عَزائِكا ؎مُوَرِّثَةٍ مالًا وفي الحَيِّ رِفْعَةٌ ∗∗∗ لِما ضاعَ فِيها مِن قُرُوءِ نِسائِكا أيْ أطْهارِهِنَّ، ومِن إطْلاقِهِ عَلى الحَيْضِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎يا رُبَّ ذِي حَنْقٍ عَلَيَّ قارِضِ ∗∗∗ لَهُ قُرُوٌّ كَقُرُوِّ الحائِضِ يَعْنِي أنَّهُ طَعَنَهُ فَكانَ لَهُ دَمٌ كَدَمِ الحائِضِ. وقالَ قَوْمٌ: هو مَأْخُوذٌ مِن قُرِيَ الماءُ في الحَوْضِ وهو جَمْعُهُ ومِنهُ القُرْآنُ لِاجْتِماعِ المَعانِي فِيهِ. قالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: ؎ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أدْماءَ بِكْرٍ ∗∗∗ هِجانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقَرا جَنِينا أيْ لَمْ تَجْمَعْهُ في بَطْنِها. والحاصِلُ أنَّ القُرُوءَ في لُغَةِ العَرَبِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الحَيْضِ والطُّهْرِ، ولِأجْلِ هَذا الِاشْتِراكِ، اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في تَعْيِينِ ما هو المُرادُ بِالقُرُوءِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ، فَقالَ أهْلُ الكُوفَةِ: هي الحَيْضُ وهو قَوْلُ عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي مُوسى ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ وعِكْرِمَةَ والسُّدِّيِّ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وقالَ أهْلُ الحِجازِ: هي الأطْهارُ، وهو قَوْلُ عائِشَةَ وابْنِ عُمَرَ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ والزُّهْرِيِّ وأبانَ بْنِ عُثْمانَ والشّافِعِيِّ، واعْلَمْ أنَّهُ قَدْ وقَعَ الِاتِّفاقُ بَيْنَهم عَلى أنَّ القُرْءَ الوَقْتُ، فَصارَ مَعْنى الآيَةِ عِنْدَ الجَمِيعِ: والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ أوْقاتٍ فَهي عَلى هَذا مُفَسَّرَةٌ في العَدَدِ مُجْمَلَةٌ في المَعْدُودِ، فَوَجَبَ طَلَبُ البَيانِ لِلْمَعْدُودِ مِن غَيْرِها فَأهْلُ القَوْلِ الأوَّلِ اسْتَدَلُّوا عَلى أنَّ المُرادَ في هَذِهِ الآيَةِ الحَيْضُ بِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلاةَ أيّامَ أقْرائِكِ» وبُقُولِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «طَلاقُ الأمَةِ تَطْلِيقَتانِ وعِدَّتُها حَيْضَتانِ» وبِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ العِدَّةِ اسْتِبْراءُ الرَّحِمِ وهو يَحْصُلُ بِالحَيْضِ لا بِالطُّهْرِ. واسْتَدَلَّ أهْلُ القَوْلِ الثّانِي بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] ولا خِلافَ أنَّهُ يُؤْمَرُ بِالطَّلاقِ وقْتَ الطُّهْرِ. ولِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لْيُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ» وذَلِكَ لِأنَّ زَمَنَ الطُّهْرِ هو الَّذِي تُطَلَّقُ فِيهِ النِّساءُ. قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ما أدْرَكْنا أحَدًا مِن فُقَهائِنا إلّا يَقُولُ: بِأنَّ الأقْراءَ هي الأطْهارُ، فَإذا طَلَّقَ الرَّجُلُ في طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ فِيهِ اعْتَدَّتْ بِما بَقِيَ مِنهُ ولَوْ ساعَةً ولَوْ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، فَإذا رَأتِ الدَّمَ مِنَ الحَيْضَةِ الثّالِثَةِ خَرَجَتْ مِنَ العِدَّةِ انْتَهى. وعِنْدِي أنْ لا حُجَّةَ في بَعْضِ ما احْتَجَّ بِهِ أهْلُ القَوْلَيْنِ جَمِيعًا. أمّا قَوْلُ الأوَّلِينَ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «دَعِي الصَّلاةَ أيّامَ أقْرائِكِ» فَغايَةُ ما في هَذا أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أطْلَقَ الأقْراءَ عَلى الحَيْضِ، ولا نِزاعَ في جَوازِ ذَلِكَ كَما هو شَأْنُ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ فَإنَّهُ يُطْلَقُ تارَةً عَلى هَذا، وتارَةً عَلى هَذا وإنَّما النِّزاعُ في الأقْراءِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ وأمّا قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في الأمَةِ: «وعِدَّتُها حَيْضَتانِ» فَهو حَدِيثٌ أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ والدّارَقُطْنِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ والبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أيْضًا، ودَلالَتُهُ عَلى ما قالَهُ الأوَّلُونَ قَوِيَّةٌ. وأمّا قَوْلُهم: إنَّ المَقْصُودَ مِنَ العِدَّةِ اسْتِبْراءُ الرَّحِمِ وهو يَحْصُلُ بِالحَيْضِ لا بِالطُّهْرِ. فَيُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ إنَّما يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ في هَذِهِ العِدَّةِ شَيْءٌ مِنَ الحَيْضِ عَلى فَرْضِ تَفْسِيرِ الأقْراءِ بِالأطْهارِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هي مُشْتَمِلَةٌ عَلى الحَيْضِ كَما هي مُشْتَمِلَةٌ عَلى الأطْهارِ وأمّا اسْتِدْلالُ أهْلِ القَوْلِ الثّانِي بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] فَيُجابُ عَنْهُ بِأنَّ التَّنازُعَ في اللّامِ في قَوْلِهِ: لِعِدَّتِهِنَّ يَصِيرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، ولا تَقُومُ الحُجَّةُ بِمُحْتَمَلٍ. وأمّا اسْتِدْلالُهم بِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُراجِعْها» الحَدِيثَ فَهو في الصَّحِيحِ، ودَلالَتُهُ قَوِيَّةٌ عَلى ما ذَهَبُوا إلَيْهِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّها تَنْقَضِي العِدَّةُ بِثَلاثَةِ أطْهارٍ أوْ بِثَلاثِ حِيَضٍ، ولا مانِعَ مِن ذَلِكَ فَقَدَ جَوَّزَ جَمْعٌ مِن أهْلِ العِلْمِ حَمْلَ المُشْتَرَكَ عَلى مَعْنَيَيْهِ، وبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الأدِلَّةِ، ويَرْتَفِعُ الخِلافُ، ويَنْدَفِعُ النِّزاعُ. وقَدِ اسْتَشْكَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَمْيِيزَ الثَّلاثَةِ بِقَوْلِهِ: قُرُوءٍ وهي جَمْعُ كَثْرَةِ دُونَ أقْراءٍ (p-١٥٢)الَّتِي هي مِن جُمُوعِ القِلَّةِ. وأجابَ بِأنَّهم يَتَّسِعُونَ في ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الجَمْعَيْنِ مَكانَ الآخَرِ لِاشْتِراكِهِما في الجَمْعِيَّةِ. قَوْلُهُ: ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ قِيلَ: المُرادُ بِهِ الحَيْضُ، وقِيلَ: الحَمْلُ، وقِيلَ: كِلاهُما، ووَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الكِتْمانِ ما فِيهِ في بَعْضِ الأحْوالِ مِنَ الإضْرارِ بِالزَّوْجِ وإذْهابِ حَقِّهِ، فَإذا قالَتِ المَرْأةُ: حِضْتُ وهي لَمْ تَحِضْ ذَهَبَتْ بِحَقِّهِ مِنَ الِارْتِجاعِ، وإذا قالَتْ: لَمْ تَحِضْ وهي قَدْ حاضَتْ ألْزَمَتْهُ مِنَ النَّفَقَةِ ما لَمْ يَلْزَمْهُ فَأضَرَّتْ بِهِ، وكَذَلِكَ الحَمْلُ رُبَّما تَكْتُمُهُ لِتَقْطَعَ حَقَّهُ مِنَ الِارْتِجاعِ، ورُبَّما تَدَّعِيهِ لِتُوجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ، ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ المَقاصِدِ المُسْتَلْزِمَةِ لِلْإضْرارِ بِالزَّوْجِ. وقَدِ اخْتَلَفَتِ الأقْوالُ في المُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيها المَرْأةُ إذا ادَّعَتِ انْقِضاءَ عِدَّتِها. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ فِيهِ وعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكاتِماتِ، وبَيانُ أنَّ مَن كَتَمَتْ ذَلِكَ مِنهُنَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ اسْمَ الإيمانِ. والبُعُولَةُ جَمْعُ بَعْلٍ وهو الزَّوْجُ، سُمِّيَ بَعْلًا لِعُلُوِّهِ عَلى الزَّوْجَةِ لِأنَّهم يُطْلِقُونَهُ عَلى الرَّبِّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أتَدْعُونَ بَعْلًا﴾ [الصافات: ١٢٥] أيْ رَبًّا، ويُقالُ: بُعُولٌ وبُعُولَةٌ كَما يُقالُ في جَمْعِ الذَّكَرِ ذُكُورٌ وذُكُورَةٌ، وهَذِهِ التّاءُ لِتَأْنِيثِ الجَمْعِ وهو شاذٌّ لا يُقاسُ عَلَيْهِ بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّماعُ، والبُعُولَةُ أيْضًا تَكُونُ مَصْدَرًا مِن بَعَلَ الرَّجُلُ يَبْعَلُ، مِثْلُ مَنَعَ يَمْنَعُ: أيْ صارَ بَعْلًا. وقَوْلُهُ: ﴿أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أيْ بِرُجْعَتِهِنَّ، وذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَن كانَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مُراجَعَتُها فَيَكُونُ في حُكْمِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ لِأنَّهُ يَعُمُّ المُطَلَّقاتِ وغَيْرَهُنَّ. وقَوْلُهُ: في ذَلِكَ يَعْنِي في مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، فَإنِ انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ فَهي أحَقُّ بِنَفْسِها، ولا تَحِلُّ لَهُ إلّا بِنِكاحٍ مُسْتَأْنَفٍ بِوَلِيٍّ وشُهُودٍ ومَهْرٍ جَدِيدٍ، ولا خِلافَ في ذَلِكَ، والرَّجْعَةُ تَكُونُ بِاللَّفْظِ وتَكُونُ بِالوَطْءِ، ولا يَلْزَمُ المُراجِعُ شَيْءٌ مِن أحْكامِ النِّكاحِ بِلا خِلافٍ. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾ أيْ بِالمُراجَعَةِ: أيْ إصْلاحَ حالِهِ مَعَها وحالِها مَعَهُ، فَإنْ قَصَدَ الإضْرارَ بِها فَهي مُحَرَّمَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١] قِيلَ: وإذا قَصَدَ بِالرَّجْعَةِ الضِّرارَ فَهي صَحِيحَةٌ وإنِ ارْتَكَبَ بِذَلِكَ مُحَرَّمًا وظَلَمَ نَفْسَهُ، وعَلى هَذا فَيَكُونُ الشَّرْطُ المَذْكُورُ في الآيَةِ لِحَثِّ الأزْواجِ عَلى قَصْدِ الصَّلاحِ والزَّجْرِ لَهم عَنْ قَصْدِ الضِّرارِ، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ جَعْلَ قَصْدِ الإصْلاحِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ. قَوْلُهُ: ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ لَهُنَّ مِن حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ عَلى الرِّجالِ بِمِثْلِ ما لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ، فَيُحْسِنُ عِشْرَتَها بِما هو مَعْرُوفٌ مِن عادَةِ النّاسِ أنَّهم يَفْعَلُونَهُ لِنِسائِهِمْ، وهي كَذَلِكَ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِها بِما هو مَعْرُوفٌ مِن عادَةِ النِّساءِ أنَّهُنَّ يَفْعَلْنَهُ لِأزْواجِهِنَّ مِن طاعَةٍ وتَزَيُّنٍ وتَحَبُّبٍ ونَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أيْ مَنزِلَةٌ لَيْسَتْ لَهُنَّ وهو قِيامُهُ عَلَيْها في الإنْفاقِ، وكَوْنُهُ مِن أهْلِ الجِهادِ والعَقْلِ والقُوَّةِ، ولَهُ مِنَ المِيراثِ أكْثَرُ مِمّا لَها، وكَوْنُهُ يَجِبُ عَلَيْها امْتِثالُ أمْرِهِ والوُقُوفُ عِنْدَ رِضاهُ ولَوْ لَمْ يَكُنْ مِن فَضِيلَةِ الرِّجالِ عَلى النِّساءِ إلّا كَوْنُهُنَّ خُلِقْنَ مِنَ الرِّجالِ لِما ثَبَتَ أنَّ حَوّاءَ خُلِقَتْ مِن ضِلْعِ آدَمَ. وقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ أسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الأنْصارِيَّةِ قالَتْ: طُلِّقْتُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ولَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ، فَأنْزَلَ اللَّهُ حِينَ طُلِّقْتُ العِدَّةَ لِلطَّلاقِ فَقالَ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿واللّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِسائِكم إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤] فَنُسِخَ وقالَ: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩] . وأخْرَجَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وعَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والدّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ مِن طُرُقِ عائِشَةَ أنَّها قالَتِ: الأقْراءُ الأطْهارُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ المَذْكُورُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ قالَ: الأقْراءُ الحَيْضُ عَنْ أصْحابِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قالَ: ثَلاثُ حِيَضٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ قالَ: كانَتِ المَرْأةُ تَكْتُمُ حَمْلَها حَتّى تَجْعَلَهُ لِرَجُلٍ آخَرَ فَنَهاهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في الآيَةِ قالَ: الحَمْلُ والحَيْضُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ يَقُولُ: إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ تَطْلِيقَةً أوْ تَطْلِيقَتَيِنِ وهي حامِلٌ فَهو أحَقُّ بِرَجْعَتِها ما لَمْ تَضَعْ حَمْلَها، وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾ قالَ: في العِدَّةِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ، وزادَ ما لَمْ يُطَلِّقْها ثَلاثًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ في قَوْلِهِ: ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ قالَ: إذا أطَعْنَ اللَّهَ وأطَعْنَ أزْواجَهُنَّ فَعَلَيْهِ أنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَها، ويَكُفَّ عَنْها أذاهُ، ويُنْفِقَ عَلَيْها مِن سَعَتِهِ. وقَدْ أخْرَجَ أهْلُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الأحْوَصِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «ألا إنَّ لَكم عَلى نِسائِكم حَقًّا ولِنِسائِكم عَلَيْكم حَقًّا، أمّا حَقُّكم عَلى نِسائِكم أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم مَن تَكْرَهُونَ ولا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكم لِمَن تَكْرَهُونَ، ألا وحَقُّهُنَّ عَلَيْكم أنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ في كُسْوَتِهِنَّ وطَعامِهِنَّ» وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وأخْرَجَ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ القُشَيْرِيِّ أنَّهُ «سَألَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ما حَقُّ المَرْأةِ عَلى الزَّوْجِ ؟ قالَ: أنْ تُطْعِمَها إذا طَعِمْتَ، (p-١٥٣)وتَكْسُوَها إذا اكْتَسَيْتَ ولا تَضْرِبِ الوَجْهَ، ولا تَهْجُرْ إلّا في البَيْتِ» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ قالَ: فَضْلُ ما فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْها مِنَ الجِهادِ وفَضْلُ مِيراثِهِ عَلى مِيراثِها وكُلُّ ما فُضِّلَ بِهِ عَلَيْها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي مالِكٍ في الآيَةِ قالَ: يُطَلِّقُها ولَيْسَ لَها مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ. وأخْرَجا عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ قالَ: الإمارَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب