الباحث القرآني

﴿وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ﴾، قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: وإنْ عَزَمُوا السَّراحَ، وانْتِصابُ الطَّلاقِ: إمّا عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، وهو عَلى؛ لِأنَّ ”عَزَمَ“ يَتَعَدّى بِعَلى كَما قالَ: عَزَمْتُ عَلى إقامَةِ ذِي صَباحٍ وإمّا أنْ تُضَمَّنَ ”عَزَمَ“ مَعْنى ”نَوى“؛ فَيَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِهِ. ومَعْنى العَزْمِ هُنا التَّصْمِيمُ عَلى الطَّلاقِ، ويَظْهَرُ أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَلْيُوقِعُوهُ، أيِ: الطَّلاقَ، وفي قَوْلِهِ في هَذا التَّقْسِيمِ: ﴿فَإنْ فاءُوا﴾ [البقرة: ٢٢٦]، و﴿إنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ﴾؛ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الفُرْقَةَ الَّتِي تَقَعُ في الإيلاءِ لا تَقَعُ بِمُضِيِّ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ مِن غَيْرِ قَوْلٍ، بَلْ لا بُدَّ مِنَ القَوْلِ لِقَوْلِهِ: ﴿عَزَمُوا الطَّلاقَ﴾؛ لِأنَّ العَزْمَ عَلى فِعْلِ الشَّيْءِ لَيْسَ فِعْلًا لِلشَّيْءِ، ويُؤَكِّدُهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ إذْ لا يُسْمَعُ إلّا الأقْوالُ، وجاءَتْ هاتانِ الصِّفَتانِ بِاعْتِبارِ الشَّرْطِ وجَوابِهِ؛ إذْ قَدَّرْناهُ: فَلْيُوقِعُوهُ، أيِ الطَّلاقَ، فَجاءَ ﴿سَمِيعٌ﴾ بِاعْتِبارِ إيقاعِ الطَّلاقِ؛ لِأنَّهُ مِن بابِ المَسْمُوعاتِ، وهو جَوابُ الشَّرْطِ، وجاءَ ”عَلِيمٌ“ بِاعْتِبارِ العَزْمِ عَلى الطَّلاقِ؛ لِأنَّهُ مِن بابِ النِّيّاتِ، وهو الشَّرْطُ، ولا تُدْرَكُ النِّيّاتُ إلّا بِالعِلْمِ. وتَأخَّرَ هَذا الوَصْفُ لِمُؤاخاةِ رُءُوسِ الآيِ؛ ولِأنَّ العِلْمَ أعَمُّ مِنَ السَّمْعِ، فَمُتَعَلِّقُهُ أعَمُّ، ومُتَعَلِّقُ السَّمْعِ أخَصُّ، وأبْعَدَ مَن قالَ: فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِإيلائِهِ، لِبُعْدِ انْتِظامِهِ مَعَ الشَّرْطِ قَبْلَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ ما تَقُولُ في قَوْلِهِ: فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وعَزْمُهُمُ الطَّلاقَ مِمّا لا يُعْلَمُ ولا يُسْمَعُ ؟ قُلْتُ: الغالِبُ أنَّ العازِمَ لِلطَّلاقِ، وتَرْكِ الفَيْئَةِ والفِرارِ لا يَخْلُو مِن مُقارَنَةٍ ودَمْدَمَةٍ، ولا بُدَّ مِن أنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ ويُناجِيَها بِذَلِكَ، وذَلِكَ حَدِيثٌ لا يَسْمَعُهُ إلّا اللَّهُ، كَما يَسْمَعُ وسْوَسَةَ الشَّيْطانِ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ صِفَةَ السَّمْعِ جاءَتْ هُنا لِأنَّ المَعْنى: وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ: أوْقَعُوهُ، أيِ: الطَّلاقَ، والإيقاعُ لا يَكُونُ إلّا بِاللَّفْظِ، فَهو مِن بابِ المَسْمُوعاتِ، والصِّفَةُ تَتَعَلَّقُ بِالجَوابِ لا بِالشَّرْطِ، فَلا تَحْتاجُ إلى تَأْوِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وفي قَوْلِهِ: ﴿وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ﴾ دَلالَةٌ عَلى مُطْلَقِ الطَّلاقِ، فَلا يَدُلُّ عَلى خُصُوصِيَّةِ طَلاقٍ بِكَوْنِهِ رَجْعِيًّا أوْ بائِنًا، وقَدِ اخْتُلِفَ في الطَّلاقِ الدّاخِلِ عَلى المُولِي في ذَلِكَ، فَقالَ عُثْمانُ، وعَلِيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ: هي طَلْقَةٌ بائِنَةٌ لا رَجْعَةَ لَهُ فِيها. وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ، وأبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ومَكْحُولٌ، والزُّهْرِيُّ، ومالِكٌ، وابْنُ شُبْرُمَةَ: هي رَجْعِيَّةٌ. وفي الحُكْمِ لِلْمُولِي بِأحَدِ الأمْرَيْنِ -: إمّا الفَيْئَةِ وإمّا الطَّلاقِ - دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الكَفّارَةِ في الإيلاءِ قَبْلَ الفَيْءِ عَلى قَوْلِ مَن يُوجِبُ الكَفّارَةَ؛ لِأنَّهُ لَوْ جازَ ذَلِكَ لَبَطَلَ الإيلاءُ بِغَيْرِ فَيْءٍ ولا عَزِيمَةِ طَلاقٍ؛ لِأنَّهُ إنْ حَنِثَ لَمْ يَلْزَمْ بِالحِنْثِ شَيْءٌ، ومَتى لَمْ يَلْزَمِ الحالِفَ بِالحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ فَفي جَوازِ تَقْدِيمِ الكَفّارَةِ إسْقاطُ حُكْمِ الإيلاءِ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ. ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ (p-١٨٤)ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ أنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الكَفّارَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَتَرَبَّصُوا إلى مُضِيِّ المُدَّةِ. ﴿فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وعِيدٌ عَلى إصْرارِهِمْ وتَرْكِهِمُ الفَيْئَةَ، وعَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ مَعْناهُ: فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وإنْ عَزَمُوا بَعْدَ مُضِيِّ المُدَّةِ. انْتَهى. وكانَ قَدْ تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ فاءُوا﴾ [البقرة: ٢٢٦] ما نَصُّهُ: فَإنْ فاءُوا في الأشْهُرِ؛ بِدَلِيلِ قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: ”فَإنْ فاءُوا فِيهِنَّ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ“، يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ ما عَسى يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِن طَلَبِ ضِرارِ النِّساءِ بِالإيلاءِ، وهو الغالِبُ، وإنْ كانَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى رِضًى مِنهُنَّ، خَوْفًا مِن طَلَبِ ضِرارِ النِّساءِ بِالإيلاءِ، وهو الغالِبُ، وإنْ كانَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى رِضًى مِنهُنَّ خَوْفًا عَلى الوَلَدِ مِنَ الغَيْلِ، أوْ لِبَعْضِ الأسْبابِ لِأجْلِ الفَيْئَةِ الَّتِي هي مِثْلُ التَّوْبَةِ، فَنَزَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الآيَةَ عَلى مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ، وغايَرَ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الفِعْلَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ؛ إذْ جَعَلَ بَعْدَ ﴿فاءُوا﴾ [البقرة: ٢٢٦] في مُدَّةِ الأشْهُرِ، وبَعْدَ ”عَزَمُوا“ بَعْدَ مُضِيِّ المُدَّةِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ أنَّ الفَيْئَةَ والعَزْمَ عَلى الطَّلاقِ لا يَكُونانِ إلّا بَعْدَ مُضِيِّ الأشْهُرِ، ولَمّا أحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذا اعْتَرَضَ عَلى نَفْسِهِ فَقالَ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَوْقِعُ الفاءِ إذا كانَتِ الفَيْئَةُ قَبْلَ انْتِهاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ؟ قُلْتُ: مَوْقِعٌ صَحِيحٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ فاءُوا﴾ [البقرة: ٢٢٦]، و(إنْ عَزَمُوا) تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦]، والتَّفْصِيلُ يَعْقُبُ المُفَصَّلَ، كَما تَقُولُ: أنا نَزِيلُكم هَذا الشَّهْرَ، فَإنْ أحْمَدْتُكم أقَمْتُ عِنْدَكم، إلى آخِرِهِ. وإلّا لَمْ أقُمْ إلّا رَيْثَما أتَحَوَّلُ. انْتَهى كَلامُهُ. ولَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ ما مَثَّلَ بِهِ لَيْسَ مُطابِقًا لِما في الآيَةِ، ألا تَرى أنَّ المِثالَ فِيهِ إخْبارٌ عَنِ المُفَصَّلِ حالُهُ ؟ وهو قَوْلُهُ: أنا نَزِيلُكم هَذا الشَّهْرَ، وما بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالجَوابِ الدّالِّ عَلى اخْتِلافِ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ الجَزاءِ، والآيَةُ لَيْسَ كَذَلِكَ التَّرْكِيبُ فِيها؛ لِأنَّ الَّذِينَ يُؤْلُونَ لَيْسَ مُخْبَرًا عَنْهم، ولا مُسْنَدًا إلَيْهِمْ حُكْمٌ، وإنَّما المُخْبَرُ عَنْهُ هو ”تَرَبُّصُهم“، فالمَعْنى: تَرَبُّصُ المُولِي أرْبَعَةَ أشْهُرٍ مَشْرُوعٌ لَهم بَعْدَ إيلائِهِمْ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ فاءُوا﴾ [البقرة: ٢٢٦]، ﴿وإنْ عَزَمُوا﴾، فالظّاهِرُ أنَّهُ يَعْقُبُ تَرَبُّصَ المُدَّةِ المَشْرُوعَةِ بِأسْرِها؛ لِأنَّ الفَيْئَةَ تَكُونُ فِيها، والعَزْمَ بَعْدَها؛ لِأنَّ هَذا التَّقْيِيدَ المُغايِرَ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وإنَّما تَطابُقُ الآيَةِ أنْ نَقُولَ: لِلضَّيْفِ إكْرامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَإنْ أقامَ فَنَحْنُ كُرَماءُ مُؤْثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ عَلى الرَّحِيلِ فَلَهُ أنْ يَرْحَلَ. فالَّذِي يَتَبادَرُ إلَيْهِ الذِّهْنُ أنَّ الشَّرْطَيْنِ مُقَدَّرانِ بَعْدَ إكْرامِهِ الثَّلاثَةَ الأيّامِ، وأمّا أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَإنْ أقامَ في مُدَّةِ الثَّلاثَةِ الأيّامِ، وإنْ عَزَمَ عَلى الرَّحِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذا الِاخْتِلافُ في الطَّرَفَيْنِ لا يَتَبادَرُ إلَيْهِ الذِّهْنُ، وإنْ كانَ مِمّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وفُرِّقَ بَيْنَ الظّاهِرِ والمُحْتَمَلِ، ولا يُفَرِّقُ بَيْنَ الآيَةِ وتَمْثِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إلّا مَنِ ارْتاضَ ذِهْنُهُ في التَّراكِيبِ العَرَبِيَّةِ، وعَرِيَ مِن حَمْلِ كِتابِ اللَّهِ عَلى الفُرُوعِ المَذْهَبِيَّةِ، بِاتِّباعِهِ الحَقَّ واجْتِنابِهِ العَصَبِيَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب