(لا يحل لك النساء من بعد) أي من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك واجتمعن في عصمتك وهن التسع اللاتي توفي عنهن. وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية قاله أبو السعود.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال، الأول: أنها محكمة، وأنه حرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة؛ لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله له بذلك، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن سيرين وابن بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وابن زيد وابن جرير. وقال أبو أمامة بن سهل حنيف: لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن.
وقال أُبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير وقيل لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهن لا يصح أن يتصفن بأمهات المؤمنين، وهذا القول فيه بعد؛ لأنه يكون التقدير لا يحل لك النساء من بعد المسلمات ولم يجر للمسلمات ذكر، وقيل هذه الآية منسوخة بالسنة، وبقوله: (تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)، وبهذا قالت أم سلمة وعائشة وعلي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وغيرهم. وهذا هو الراجح وسيأتي ما يدل عليه من الأدلة، عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مُتْنَ أما كان يحل له أن يتزوج؟ قال وما يمنعه من ذلك؟ قلت قوله: لا يحل لك النساء من بعد، قال إنما أحل له ضرباً من النساء ووصف له صفة فقال: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله (وامرأة مؤمنة) ثم قال: لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة.
وعن ابن عباس قال نُهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات: (لا يحل لك النساء من بعد) الآية، فأحل له الفتيات المؤمنات وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات دين غير الإسلام وقال: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله: (خالصة لك من دون المؤمنين)؟ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء.
وعنه قال نُهي النبي أن يتزوج بعد نسائه الأولى شيئاًً، وعنه في الآية قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه، وعن أنس قال: لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن فقال: (لا يحل لك النساء من بعد).
وعن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله: (ترجي من تشاء منهن) الآية، وأخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، والترمذي وصححه، والنسائي والحاكم وصححه.
عن عائشة قالت: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، لقوله: (ترجي من تشاء منهن) الآية، وعن ابن عباس مثله، وعن أبي رزين: (لا يحل لك النساء من بعد) قال: من المشركات إلا ما سبيت فملكت يمينك.
(ولا أن تبدل بهن من أزواج) أي ليس لك أن تطلق واحدة منهن أو أكثر وتتزوج بدل من طلقت منهن أي من المسلمات غيرهن من الكتابيات؛ لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية و (من) مزيدة لتأكيد النفي وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم.
وقال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله تقول خذ زوجتي وأعطني زوجتك، وقد أنكر ابن جرير والنحاس ما ذكره ابن زيد؛ قال ابن جرير: ما فعلت العرب هذا قط، ويدفع هذا الإنكار منهما؛ ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله عز وجل ولا أن تبدل بهن، وأخرجه أيضاًً عنه البزار وابن مردويه.
وأخرجا عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي؛ أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله هذه الآية. قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة فدخل بغير إذن؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أم المؤمنين، قال أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله؟ قال: يا عيينة إن الله حرم ذلك، فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه.
(ولو أعجبك حسنهن) وهذا كقولك: اعطوا السائل ولو على فرس. أي: في كل حال، ولو على هذه الحالة المنافية للإعطاء، وقيل: تقديره مفروضاً إعجابك بهن، أي لا يحل لك التبدل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهن وجمالها ممن أردت أن تجعلها بدلاً من إحداهن، وهذا التبدل أيضاًً من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح ونسخها إما بالسنة أو بقوله: (إنا أحللنا لك أزواجك)، وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف.
قال ابن عباس: يعني أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر؛ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنهي عن ذلك.
(إلا ما ملكت يمينك) استثناء من النساء لأنه يتناول الحرائر والإماء وقيل: منقطع، والمعنى تحل لك الإماء، وقد ملك صلى الله عليه وسلم بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس ملك القبط وهم أهل مصر والإسكندرية وولدت له إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان ومات في حياة أبيه، وله سبعون يوماً وقيل: سنة وعشرة أشهر وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه بل أمرهم فصلوا قاله ابن حجر في شرح الهمزية، وقد اختلف العلماء في تحليل الأمة الكافرة على قولين:
الأول: أنها تحل للنبي صلى الله عليه وسلم لعموم هذه الآية وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن.
والثاني: أنها لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم تنزيهاً لقدره عن مباشرة الكافرة، ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية وتعليل المنع بالتنزه ضعيف فلا تنزه عما أحله الله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح لا باعتبار غير ذلك فالمشركون نجس بنص القرآن، وممكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فإنه نهي عام.
(وكان الله على كل شيء رقيباً) أي مراقباً حافظاً وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل]. أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاًً].
قال الحميدي: يعني هو الصغر وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يُؤدَم بينكما، أخرجه الترمذي وقال حسن.
{"ayah":"لَّا یَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاۤءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَاۤ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ رَّقِیبࣰا"}