الباحث القرآني

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يحتمل أنْ يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسلُ، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ للنّبي ﷺ. قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 146) .]] : والوجه في هذا أَنْ يكون الخطاب للنبي ﷺ، وخرج بهذه الصيغة، لِيُفْهَمَ وجيزاً أَنَّ المقالة قد خُوطِبَ بها كُلُّ نبيٍّ، أو هي طريقتُهم التي ينبغي لهم الكونُ عليها كما تقول لعالم: يا علماءٌ إنَّكُم أَئمَّةٌ يُقْتَدَى بكم فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبريُّ [[ينظر: «الطبريّ» (9/ 220) .]] : الخطاب لعيسَى- عليه السلام-. قلت: والصحيح في تأويل الآية: أَنَّه أمر للمُرْسَلِينَ كما هو نَصٌّ صريح في الحديث الصحيح فلا معنى للتردد في ذلك، وقد روى مسلم والترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ اللهَ طَيِّب وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ 31 ب عَلِيمٌ/ [المؤمنون: الآية 51] . وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ [حرامٌ] [[سقط في ج.]] وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» [[أخرجه مسلم (2/ 703) كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (65/ 1015) ، والترمذي (5/ 220) كتاب التفسير: باب ومن سورة البقرة، حديث (2989) ، والدارمي (2/ 300) ، وأحمد (2/ 328) كلهم من طريق الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وإنما نعرفه من حديث فضيل بن مرزوق.]] اهـ. وقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وهذه الآية تُقَوَّى أَنَّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إنَّما هو مخاطبة لجميعهم، وأَنَّه بتقدير حضورهم، وإذا قدّرت: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ مخاطبة للنبي ﷺ- قلق اتصال هذه واتصال قوله: فَتَقَطَّعُوا، ومعنى الأُمَّةِ هنا: المِلّةُ والشريعة، والإِشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة مِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإسلام. وقوله سبحانه: فَتَقَطَّعُوا يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مُطَاوِعٍ كما تقول: تقطع الثوبُ بل هو فعل مُتَعَدٍّ بمعنى قطعوا، وقرأ نافع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 147) .]] : «زُبُراً» جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين: أحدهما: أَنَّ الأممَ تنازعت كتباً مُنَزَّلَةً فَاتَّبَعَتْ فرقة الصُّحُفَ، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجِيلَ، ثم حَرَّفَ الكُلُّ وَبَدَّلَ، وهذا قول قتادة [[أخرجه الطبريّ (9/ 221) برقم (25533) وذكره الغوي (3/ 311) ، وابن عطية (4/ 147) ، والسيوطي (5/ 20) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه.]] - والثاني: أنَّهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالةً ألَّفُوها قاله ابن زيد [[أخرجه الطبريّ (9/ 222) برقم (25537) ، وذكره ابن عطية (4/ 147) ، والسيوطي (5/ 20) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه.]] ، وقرأ أبو عمرو [[ينظر: مصادر القراءة السابقة.]] بخلاف: «زُبَراً» بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها: فرقاً كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكرُ الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش- خاطب الله سبحانه نبيّه محمدا ﷺ في شأنهم مُتَّصلاً بقوله: فَذَرْهُمْ أي: فذِرْ هؤلاء الذين هم بمنزلة مَنْ تقدم، والغمرة: ما عَمَّهُمْ من ضلالهم وفُعِلَ بهم فعلَ الماء الغمر بما حصل فيه، والخيراتُ هنا نَعِمُ الدنيا. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ... الآية: أسند الطبريُّ [[ينظر: «الطبريّ» (9/ 225) رقم (25562) .]] عن عائشة أنها قالت: قلتُ: يا رسولَ الله، قوله تعالى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا أَهي في الذي يَزْنِي وَيَسْرِقُ؟ قال: «لا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هِيَ في الرَّجُلِ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وقلبه وجل، يخاف ألّا يتقبّل منه» [[أخرجه الترمذي (5/ 327- 328) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (3175) ، وابن ماجه (2/ 1404) كتاب الزهد: باب التوقي على العمل، حديث (4198) ، وأحمد (6/ 159، 205) ، والطبريّ في «تفسيره» (9/ 225) رقم (25560) ، والحاكم (2/ 393- 394) كلهم من طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن عائشة به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 21) ، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «نعت الخائفين» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» .]] . قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 148) .]] : ولا نظرَ مع الحديث، والوَجَلُ: نحو الاشفاق والخوف، وصورة هذا الوَجِلِ إمَّا المُخَلِّطُ فينبغي أنْ يكونَ أبداً تحت خوف من أنْ يكونَ ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وإمَّا التَّقِيُّ أوِ التائب، فخوفه أمرَ الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموتِ، وفي قوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ: تنبيهٌ على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البِرِّ، ويخافون أَلاَّ يُنْجِيَهُم ذلك من عذاب رَبِّهِم [[أخرجه الطبريّ (9/ 224) برقم (25547) ، وذكره البغوي (3/ 311) ، وابن عطية (4/ 148) ، والسيوطي (5/ 22) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن.]] ، وهذه عبارة حسنة، ورُوِيَ عن الحَسَنِ أيضاً أَنَّهُ قال: المؤمن يجمع إحساناً وشفقةً، والمنافِقُ يجمع إساءَةً وأمناً [[أخرجه الطبريّ (9/ 224) برقم (25549) ، وذكره ابن عطية (4/ 148) ، والسيوطي (5/ 21) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن.]] . قلت: ولهذا الخَطْبِ العظيم أطال الأولياءُ في هذه الدار حُزْنَهُمْ وأجروا على الوجنات [[الوجنة: ما ارتفع من الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف. ينظر: «لسان العرب» (4774) .]] مدامعهم. قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سفيان قال: إنما الحُزْنُ على قَدْرِ البصيرة [[أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 42) رقم (128) .]] . قال ابن المبارك: وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال: ما عُبِدَ اللهُ بمثل طُولِ الحُزْنِ [[أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 41) رقم (126) .]] ، وقال ابن المبارك أيضاً: أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التَّيْمِيِّ قال: أَنَّ مَنْ أُوتي من العلم ما لا يُبْكِيهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أُوتِيَ عْلماً ينفعه لأَنَّ الله تعالى نعت 32 أالعلماء فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ/ إلى قوله: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [[أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 41) رقم (125) .]] [الإسراء: 107- 109] انتهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب