الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ ﴿وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ ومَعِينٍ﴾ ﴿يا أيُّها الرُسُلُ كُلُوا مِنَ الطَيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ "الكِتابُ" هو التَوْراةُ، و"لَعَلَّهُمْ" يُرِيدُ بَنِي إسْرائِيلَ لِأنَّ التَوْراةَ إنَّما نَزَلَتْ بَعْدَ هَلاكِ فِرْعَوْنَ والقَبَطَ، والتَرَجِّي في "لَعَلَّ" في حَيِّزِ البَشَرِ، أيْ: كانَ مِن فِعْلِنا مَعَهم ما يَرْجُو مَعَهُ ابْنُ آدَمَ إيمانَهم وهُداهُمْ، والقَضاءُ قَدْ حَكَمَ بِما حَكَمَ. و "ابْنُ مَرْيَمَ" عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، وقِصَّتُهُما كُلُّها آيَةٌ عُظْمى بِمَجْمُوعِها، وهي آياتٌ مَعَ التَفْصِيلِ، وأخَذَها مِن كِلا الوَجْهَيْنِ مُتَمَكِّنٌ، و"آوى" مَعْناهُ: ضَمَّ، واسْتِعْمالُ اللَفْظَةِ في الأماكِنِ، أيْ: أقْرَرْناهُما، و "الرَبْوَةُ": المُرْتَفَعُ مِنَ الأرْضِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "رَبْوَةٍ"، وقَرَأ عاصِمْ، وابْنُ عامِرٍ بِفَتْحِها، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ وأبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ونَصْرٌ عن عاصِمْ بِكَسْرِها. وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقِ: "رُباوَةٍ" بِضَمِّ الراءِ، وقَرَأ الشُهُبُ العَقِيلِيِّ بِفَتْحِها، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِها، وكُلُّها لُغاتٌ قُرِئَ بِها، و"القَرارُ": التَمَكُّنُ، فَمَعْنى هَذا أنَّها مُسْتَوِيَةٌ بَسِيطَةٌ لِلْحَرْثِ والغِراسَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- وقالَ قَتادَةُ: "القَرارُ" هُنا: الحُبُوبُ والثِمارُ. ومَعْنى الآيَةِ أنَّها مِنَ البِقاعِ الَّتِي كَمُلَتْ خِصالُها فَهي أهْلٌ أنْ يَسْتَقِرَّ فِيها، وقَدْ يُمْكِنُ (p-٢٩٨)أنْ يَسْتَقِرَّ عَلى الكَمالِ في البِقاعِ الَّتِي ماؤُها آبارٌ، فَبَيَّنَ بَعْدُ أنَّ ماءَ هَذِهِ الرَبْوَةِ يُرى مُعَيَّنًا جارِيًا عَلى وجْهِ الأرْضِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- وهَذا كَمالُ الكَمالِ. و"المَعِينُ": الظاهِرُ الجَرْيَ لِلْعَيْنِ، فالمِيمُ زائِدَةٌ، وهو الَّذِي يُعايِنُ جَرْيَهُ، لا كالبِئْرِ ونَحْوِهُ، وكَذَلِكَ أدْخَلَ الخَلِيلُ هَذِهِ اللَفْظَةَ في بابِ (عَ، يَ، نَ)، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن قَوْلِهِمْ: "مَعُنَ الماءُ" إذا كَثُرَ، ومِنهُ قَوْلُهُمُ: المَعْنُ المَعْرُوفُ والجُودُ، فالمِيمُ فاءُ الفِعْلِ، وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ عَلى هَذا قَوْلَ عَبِيدِ بْنِ الأبْرَصِ: ؎ واهِيَةٌ أو مُعِينٌ مُمْعِنٌ وهَضَبَةٌ دُونَها لُهُوبُ وقَدِ قالَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ-: «يَرْحَمُ اللهُ هاجَرَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ لَكانَتْ عَيْنًا مُعَيَّنًا». وهَذا يَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ، وهَذِهِ الرَبْوَةُ هي المَوْضِعُ الَّذِي فَرَّتْ إلَيْهِ مَرْيَمُ حِينَ اسْتَحْيَتْ في قِصَّةِ عِيسى -عَلَيْهِ السَلامُ- وهو الَّذِي قِيلَ لَها فِيهِ: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٤]، هَذا قَوْلُ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ. واخْتَلَفَ الناسُ في مَوْضِعِ الرَبْوَةِ -فَقالَ ابْنُ المُسَيِّبِ سَعِيدُ: هي الغُوطَةُ بِدِمِشْقَ - وهَذا أشْهَرُ الأقْوالِ لِأنَّ صِفَةَ الغُوطَةِ أنَّها ذاتُ قَرارٍ ومَعِينٍ عَلى الكَمالِ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-: هي الرَمْلَةُ في فِلَسْطِينَ، وأسْنَدَهُ الطَبَرِيُّ عن كُرَيْبٍ، عن مُرَّةَ البَهْزِيِّ، (p-٢٩٩)عَنِ النَبِيِّ -ﷺ- ويُعارِضُ هَذا القَوْلَ أنَّ الرَمَلَةَ لَيْسَ يَجْرِي بِها ماءٌ البَتَّةَ، وذَكَرُهُ الطَبَرِيُّ وضَعَّفَ القَوْلَ بِهِ، وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ: الرَبْوَةُ بَيْتُ المَقْدِسِ، وزَعَمَ أنَّ في التَوْراةِ أنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ أقْرَبُ الأرْضِ إلى السَماءِ، وأنَّهُ يَزِيدُ عَلى أعْلى الأرْضِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَتَرَجَّحُ أنَّ الرَبْوَةَ في بَيْتِ لَحْمٍ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ لِأنَّ وِلّادَةَ عِيسى هُنالِكَ كانَتْ، وحِينَئِذٍ كانَ الإيواءُ، وقالَ أبُو زَيْدٍ: الرَبْوَةُ بِأرْضِ مِصْرَ، وذَلِكَ أنَّها رُبى يَجْرِي فَيْضُ النِيلِ إلَيْها فَيَمْلَأُ الأرْضَ ولا يَنالُ تِلْكَ الرُبى وفِيها القُرى وبِها نَجاتُها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُضَعِّفُ هَذا القَوْلَ أنَّهُ لَمْ يُرْوَ أنَّ عِيسى -عَلَيْهِ السَلامُ- ومَرْيَمَ كانا بِأرْضِ مِصْرَ ولا حُفِظَتْ لَهُما بِهِما قِصَّةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرُسُلُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: وقُلْنا يا أيُّها الرُسُلُ، فَتَكُونُ هَذِهِ بَعْضُ القَصَصِ الَّتِي ذَكَرَ، وكَيْفَ كانَ قَوْلُ المَعْنى، فَلَمْ يُخاطَبُوا قَطُّ مُجْتَمَعَيْنِ وإنَّما خُوطِبَ كُلُّ واحِدٍ في عَصْرِهِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: الخِطابَ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الرُسُلُ﴾ لِمُحَمَّدٍ -ﷺ- ثُمُ اخْتَلَفَتْ -فَقالَ بَعْضُها: أقامَهُ مَقامَ الرُسُلِ، كَما قالَ: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ الناسُ إنَّ الناسُ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] وقِيلَ غَيْرُ هَذا مِمّا لا يَثْبُتُ مَعَ النَظَرِ. والوَجْهُ في هَذا أنْ يَكُونَ الخُطّابُ لِمُحَمَّدٍ -ﷺ- وخَرَجَ بِهَذِهِ الصِيغَةِ لِيُفْهِمْ وجِيزًا أنَّ هَذِهِ المَقالَةَ قَدْ خُوطِبَ بِها كُلُّ نَبِيٍّ، أو هي طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُمُ الكَوْنُ عَلَيْها، وهَذا كَما تَقُولُ لِتاجِرٍ: يا تُجّارُ يَنْبَغِي أنَّ تُجانِبُوا الرِبا، فَأنْتَ تُخاطِبُهُ بِالمَعْنى، وقَدِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أنَّ هَذِهِ (p-٣٠٠)المَقالَةَ تَصْلُحُ لِجَمِيعِ صِنْفِهِ، وقالَ الطَبَرِيُّ: الخِطابُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرُسُلُ﴾ لِعِيسى -عَلَيْهِ السَلامُ- ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَأْكُلُ مِن غَزْلَ أُمِّهِ، والمَشْهُورُ أنَّهُ كانَ يَأْكُلُ مِن بَقْلِ البَرِّيَّةِ، ووَجْهُ خِطابِهِ لِعِيسى -عَلَيْهِ السَلامُ- ما ذَكَرْناهُ مِن تَقْدِيرٍ لِمُحَمَّدٍ -ﷺ- و"الطَيِّباتُ" هُنا: الحَلالُ بِلَذَّةٍ وغَيْرِ ذَلِكَ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تَنْبِيهٌ ما عَلى التَحَفُّظِ، وضَرْبٍ مِنَ الوَعِيدِ بِالمُباحَثَةِ -صَلّى اللهُ عَلى جَمِيعِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ- وإذا كانَ هَذا مَعَهم فَما ظَنُّ كُلُّ الناسِ بِأنْفُسِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب