الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾
فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: المُبارَزَةُ في الحُرُوبِ، هي أنْ يَبْرُزَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم لِصاحِبِهِ وقْتَ القِتالِ، والأصْلُ فِيها أنَّ الأرْضَ الفَضاءَ الَّتِي لا حِجابَ فِيها يُقالُ لَها البَرازُ، فَكانَ البُرُوزُ عِبارَةً عَنْ حُصُولِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في الأرْضِ المُسَمّاةِ بِالبَرازِ، وهو أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِحَيْثُ يَرى صاحِبَهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّ العُلَماءَ والأقْوِياءَ مِن عَسْكَرِ طالُوتَ لَمّا قَرَّرُوا مَعَ العَوامِّ والضُّعَفاءِ أنَّهُ كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ، وأوْضَحُوا أنَّ الفَتْحَ والنُّصْرَةَ لا يَحْصُلانِ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ، لا جَرَمَ لَمّا بَرَزَ عَسْكَرُ طالُوتَ إلى عَسْكَرِ جالُوتَ ورَأوُا القِلَّةَ في جانِبِهِمْ، والكَثْرَةَ في جانِبِ عَدُوِّهِمْ، لا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ، فَقالُوا: ﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ ونَظِيرُهُ ما حَكى اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أنَّهم قالُوا حِينَ الِالتِقاءِ مَعَ المُشْرِكِينَ: ﴿وكَأيِّنْ مِن نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٤٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ قَوْلَهم إلّا أنْ قالُوا رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإسْرافَنا في أمْرِنا وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٧] وهَكَذا كانَ (p-١٥٨)يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في كُلِّ المَواطِنِ، ورُوِيَ عَنْهُ في قِصَّةِ بَدْرٍ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي ويَسْتَنْجِزُ مِنَ اللَّهِ وعْدَهُ، وكانَ مَتى لَقِيَ عَدُوًّا قالَ: ”«اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِن شُرُورِهِمْ وأجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ» “ وكانَ يَقُولُ: ”«اللَّهُمَّ بِكَ أصُولُ وبِكَ أجُولُ» “ .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الإفْراغُ: الصَّبُّ، يُقالُ: أفْرَغْتُ الإناءَ إذا صَبَبْتَ ما فِيهِ، وأصْلُهُ مِنَ الفَراغِ، يُقالُ: فُلانٌ فارِغٌ؛ مَعْناهُ أنَّهُ خالٍ مِمّا يَشْغَلُهُ، والإفْراغُ: إخْلاءُ الإناءِ مِمّا فِيهِ، وإنَّما يَخْلُو بِصَبِّ كُلِّ ما فِيهِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ يَدُلُّ عَلى المُبالَغَةِ في طَلَبِ الصَّبْرِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ إذا صَبَّ الشَّيْءَ في الشَّيْءِ فَقَدْ أثْبَتَ فِيهِ بِحَيْثُ لا يَزُولُ عَنْهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى التَّأْكِيدِ.
والثّانِي: أنَّ إفْراغَ الإناءِ هو إخْلاؤُهُ، وذَلِكَ يَكُونُ بِصَبِّ كُلِّ ما فِيهِ، فَمَعْنى: أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا: أيِ اصْبُبْ عَلَيْنا أتَمَّ صَبٍّ وأبْلَغَهُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ الأُمُورَ المَطْلُوبَةَ عِنْدَ المُحارَبَةِ مَجْمُوعُ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ:
فَأوَّلُها: أنْ يَكُونَ الإنْسانُ صَبُورًا عَلى مُشاهَدَةِ المَخاوِفِ والأُمُورِ الهائِلَةِ، وهَذا هو الرُّكْنُ الأعْلى لِلْمُحارِبِ، فَإنَّهُ إذا كانَ جَبانًا لا يَحْصُلُ مِنهُ مَقْصُودٌ أصْلًا.
وثانِيها: أنْ يَكُونَ قَدْ وجَدَ مِنَ الآلاتِ والأدَواتِ والِاتِّفاقاتِ الحَسَنَةِ مِمّا يُمَكِّنُهُ أنْ يَقِفَ ويَثْبُتَ ولا يَصِيرَ مُلْجَأً إلى الفِرارِ.
وثالِثُها: أنْ تَزْدادَ قُوَّتُهُ عَلى قُوَّةِ عَدُوِّهِ حَتّى يُمْكِنَهُ أنْ يَقْهَرَ العَدُوَّ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المَرْتَبَةُ الأُولى هي المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ .
والثّانِيَةُ: هي المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وثَبِّتْ أقْدامَنا﴾ .
والثّالِثَةُ: هي المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ .
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ الأصْحابُ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ وذَلِكَ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلصَّبْرِ إلّا القَصْدُ عَلى الثَّباتِ، ولا مَعْنى لِلثَّباتِ إلّا السُّكُونُ والِاسْتِقْرارُ، وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ القَصْدَ المُسَمّى بِالصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهو قَوْلُهُ: ﴿أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ وعَلى أنَّ الثَّباتَ والسُّكُونَ الحاصِلَ عِنْدَ ذَلِكَ القَصْدِ أيْضًا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى، وهو قَوْلُهُ: ﴿وثَبِّتْ أقْدامَنا﴾ وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ الإرادَةَ مِن فِعْلِ العَبْدِ وبِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، أجابَ القاضِي عَنْهُ بِأنَّ المُرادَ مِنَ الصَّبْرِ وتَثْبِيتِ القَدَمِ تَحْصِيلُ أسْبابِ الصَّبْرِ، وأسْبابِ ثَباتِ القَدَمِ، وتِلْكَ الأسْبابُ أُمُورٌ:
أحَدُها: أنْ يَجْعَلَ في قُلُوبِ أعْدائِهِمُ الرُّعْبَ والجُبْنَ مِنهم فَيَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنهُمُ الِاضْطِرابُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَراءَةِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، ويَصِيرَ داعِيًا لَهم إلى الصَّبْرِ عَلى القِتالِ وتَرْكِ الِانْهِزامِ.
وثانِيها: أنْ يَلْطُفَ بِبَعْضِ أعْدائِهِمْ في مَعْرِفَةِ بُطْلانِ ما هم عَلَيْهِ فَيَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلافُ والتَّفَرُّقُ ويَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَراءَةِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ.
وثالِثُها: أنْ يُحْدِثَ تَعالى فِيهِمْ وفي دِيارِهِمْ وأهالِيهِمْ مِنَ البَلاءِ مِثْلَ المَوْتِ والوَباءِ، وما يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِغالِهِمْ بِأنْفُسِهِمْ، ولا يَتَفَرَّغُونَ حِينَئِذٍ لِلْمُحارَبَةِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَراءَةِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
ورابِعُها: أنْ يَبْتَلِيَهم بِمَرَضٍ وضَعْفٍ يَعُمُّهم أوْ يَعُمُّ أكْثَرَهم، أوْ يَمُوتَ رَئِيسُهم ومَن يُدَبِّرُ أمْرَهم فَيَعْرِفَ المُؤْمِنُونَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ قُلُوبِهِمْ، ومُوجِبًا لِأنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الصَّبْرُ والثَّباتُ، هَذا كَلامُ القاضِي.
والجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنّا بَيَّنّا أنَّ الصَّبْرَ عِبارَةٌ عَنِ القَصْدِ إلى السُّكُوتِ، والثَّباتَ عِبارَةٌ عَنِ السُّكُونِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ إرادَةَ العَبْدِ ومُرادَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَكم وأنْتُمْ تَصْرِفُونَ الكَلامَ عَنْ ظاهِرِهِ وتَحْمِلُونَهُ عَلى أسْبابِ الصَّبْرِ وثَباتِ الأقْدامِ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَرْكَ الظّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لا يَجُوزُ.
(p-١٥٩)الوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ أنَّ هَذِهِ الأسْبابَ الَّتِي سَلَّمْتُمْ أنَّها بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى إذا حَصَلَتْ ووُجِدَتْ فَهَلْ لَها أثَرٌ في التَّرْجِيحِ الدّاعِي أوْ لَيْسَ لَها أثَرٌ فِيهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَها أثَرٌ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِها مِنَ اللَّهِ فائِدَةٌ، وإنْ كانَ لَها أثَرٌ في التَّرْجِيحِ فَعِنْدَ صُدُورِ هَذِهِ الأسْبابِ المُرَجَّحَةِ مِنَ اللَّهِ يَحْصُلُ الرُّجْحانُ، وعِنْدَ حُصُولِ الرُّجْحانِ يَمْتَنِعُ الطَّرَفُ المَرْجُوحُ، فَيَجِبُ حُصُولُ الطَّرَفِ الرّاجِحِ، لِأنَّهُ لا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ وهو المَطْلُوبُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَلَمَّا بَرَزُوا۟ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُوا۟ رَبَّنَاۤ أَفۡرِغۡ عَلَیۡنَا صَبۡرࣰا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق