الباحث القرآني

﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالجُنُودِ﴾ بَيْنَ هَذِهِ الجُمْلَةِ والجُمْلَةِ قَبْلَها مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجاءَهُمُ التّابُوتُ، وأقَرُّوا لَهُ بِالمُلْكِ، وتَأهَّبُوا لِلْخُرُوجِ، ﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ﴾ أيِ: انْفَصَلَ مِن مَكانِ إقامَتِهِ، يُقالُ: فَصَلَ عَنِ المَوْضِعِ انْفَصَلَ، وجاوَزَهُ. قِيلَ: وأصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ كَثُرَ، فَحُذِفَ المَفْعُولُ حَتّى صارَ في حُكْمِ غَيْرِ المُتَعَدِّي: كانْفَصَلَ، والباءُ في (بِالجُنُودِ)، (p-٢٦٤)لِلْحالِ، أيْ: والجُنُودُ مُصاحِبُوهُ، وكانَ عَدَدُهم سَبْعِينَ ألْفًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. أوْ ثَمانِينَ ألْفًا قالَهُ عِكْرِمَةُ. أوْ مِائَةَ ألْفٍ، قالَهُ مُقاتِلٌ. أوْ ثَلاثِينَ ألْفًا. قالَ عِكْرِمَةُ: لَمّا رَأى بَنُو إسْرائِيلَ التّابُوتَ سارَعُوا إلى طاعَتِهِ والخُرُوجِ مَعَهُ، فَقالَ لَهم طالُوتُ: لا يَخْرُجُ مَعِي مَن بَنى بِناءً لَمْ يَفْرَغْ مِنهُ، ولا مَن تَزَوَّجَ امْرَأةً لَمْ يَدْخُلْ بِها، ولا صاحِبُ زَرْعٍ لَمْ يَحْصُدْهُ، ولا صاحِبُ تِجارَةٍ لَمْ يَرْحَلْ بِها، ولا مَن لَهُ أوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، ولا كَبِيرٌ، ولا عَلِيلٌ. فَخَرَجَ مَعَهُ مَن تَقَدَّمَ الِاخْتِلافُ في عَدَدِهِمْ عَلى شَرْطِهِ، فَسارَ بِهِمْ، فَشَكَوْا قِلَّةَ الماءِ وخَوْفَ العَطَشِ، وكانَ الوَقْتُ قَيْظًا، وسَلَكُوا مَفازَةً، فَسَألُوا اللَّهَ أنْ يُجْرِيَ لَهم نَهَرًا. ﴿قالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكم بِنَهَرٍ﴾ قالَ وهْبٌ: هو الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: هو نَهَرٌ بَيْنَ الأُرْدُنِّ وفِلَسْطِينَ. وقِيلَ: نَهَرُ فِلَسْطِينَ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وابْنُ عَبّاسٍ، أيْضًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (بِنَهَرٍ)، بِفَتْحِ الهاءِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ الأعْرَجُ، وأبُو السَّمّاكِ، وغَيْرُهم: بِإسْكانِ الهاءِ في جَمِيعِ القُرْآنِ. وظاهِرُ قَوْلِ طالُوتَ: إنَّ اللَّهَ يُوحِي، إمالَةٌ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ نَبِيٌّ، أوْ يُوحِي إلى نَبِيِّهِمْ، وإخْبارُ النَّبِيِّ طالُوتَ بِذَلِكَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا مِمّا ألْهَمَ اللَّهُ طالُوتَ إلَيْهِ، فَجَرَتْ بِهِ جُنْدُهُ، وجُعِلَ الإلْهامُ ابْتِلاءً مِنَ اللَّهِ لَهم، ومَعْنى هَذا الِابْتِلاءِ اخْتِبارُهم، فَمَن ظَهَرَتْ طاعَتُهُ في تَرْكِ الماءِ عَلِمَ أنَّهُ يُطِيعُ، فِيما عَدا ذَلِكَ، ومَن غَلَبَتْهُ شَهْوَتُهُ في الماءِ، وعَصى الأمْرَ فَهو بِالعِصْيانِ في الشَّدائِدِ أحْرى، انْتَهى كَلامُهُ. وبَعْدَ أنْ يُخْبِرَ طالُوتُ عَنْ ما خَطَرَ بِبالِهِ بِأنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ عَلى طَرِيقِ الجَزْمِ عَنِ اللَّهِ ﴿فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ) أيْ: لَيْسَ مِن أتْباعِي في هَذِهِ الحَرْبِ ولا أشْياعِي، ولَمْ يُخْرِجْهم بِذَلِكَ عَنِ الإيمانِ نَحْوَ: «مَن غَشَّنا فَلَيْسَ مِنّا»، «لَيْسَ مِنّا مَن شَقَّ الجُيُوبَ ولَطَمَ الخُدُودَ» أوْ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِي ومُتَّحِدٍ مَعِي، مِن قَوْلِهِمْ: فُلانٌ مِنِّي كَأنِّي بَعْضُهُ، لِاخْتِلاطِهِما واتِّحادِهِما قالَ النّابِغَةُ: ؎إذا حاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُورًا فَإنِّي لَسْتُ مِنكَ ولَسْتَ مِنِّي ﴿ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي﴾ أيْ: مَن لَمْ يَذُقْهُ، وطَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ ذَوْقُهُ، ومِنهُ التَّطَعُّمُ، يُقالُ: تَطَعَّمْتُ مِنهُ أيْ: ذُقْتُهُ، وتَقُولُ العَرَبُ لِمَن لا تَمِيلُ نَفْسُهُ إلى مَأْكُولٍ تُطْعَمُ مِنهُ: يَسْهُلُ أكْلُهُ، قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: العَرَبُ تَقُولُ: أطْعَمْتُكَ الماءَ تُرِيدُ أذَقْتُكَ، وطَعَمْتُ الماءَ أطْعَمُهُ بِمَعْنى ذُقْتُهُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ عَلَيْكم ∗∗∗ وإنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدًا النُّقاخُ: العَذْبُ، والبَرْدُ النَّوْمُ، ويُقالُ: ما ذُقْتُ غِماضًا. وفي حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ: ”في ماءِ زَمْزَمَ طَعامُ طُعْمٍ“ وفي الحَدِيثِ: «لَيْسَ لَنا طَعامٌ إلّا الأسْوَدَيْنِ التَّمْرَ والماءَ» . والطَّعْمُ يَقَعُ عَلى الطَّعامِ والشَّرابِ، واخْتِيرَ هَذا اللَّفْظُ لِأنَّهُ أبْلَغُ؛ لِأنَّ نَفْيَ الطَّعْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الشُّرْبِ، ونَفْيَ الشُّرْبِ لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الطَّعْمِ؛ لِأنَّ الطَّعْمَ يَنْطَلِقُ عَلى الذَّوْقِ، والمَنعُ مِنَ الطَّعْمِ أشُقُّ في التَّكْلِيفِ مِنَ المَنعِ مِنَ الشُّرْبِ، إذْ يَحْصُلُ بِإلْقائِهِ في الفَمِ، وإنْ لَمْ يَشْرَبْهُ، نَوْعُ راحَةٍ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الماءَ طَعامٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ أيْضًا ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. واخْتُلِفَ في جَرَيانِ الرِّبا فِيهِ، فَقالَ الشّافِعِيُّ: لا يَجُوزُ بَيْعُ الماءِ بِالماءِ مُتَفاضِلًا، ولا يَجُوزُ فِيهِ الأجَلُ. وقالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وحَكى ابْنُ العَرَبِيِّ: أنَّ الصَّحِيحَ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ جَرَيانُ الرِّبا فِيهِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: هو مِمّا يُكالُ ويُوزَنُ، فَعَلى هَذا لا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّفاضُلُ. وكَأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنهُ﴾ يَدُلُّ ظاهِرُهُ عَلى مُباشَرَةِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهَرِ حَتّى لَوْ أُخِذَ بِالكُوزِ، وشُرْبُهُ لا يَكُونُ داخِلًا في مَن شَرِبَ مِنهُ، إذا لَمْ يُباشِرِ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وفي مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - أنَّهُ إنْ قالَ: إنْ شَرِبْتُ مِنَ القِرْبَةِ فَعَبْدِي حُرٌّ، يُحْمَلُ عَلى الكُرُوعِ، وإنِ اغْتَرَفَ مِنهُ، أوْ شَرِبَ بِإناءٍ لَمْ يَحْنَثْ. قالُوا: لِأنَّهُ تَعالى حَظَرَ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وحَظَرَ مَعَ ذَلِكَ أنْ يُطْعَمَ مِنهُ، واسْتَثْنى مِنَ الطَّعْمِ مِنهُ الِاغْتِرافَ، فَحَظْرُ الشُّرْبِ باقٍ، ودَلَّ عَلى أنَّ الِاغْتِرافَ لَيْسَ بِشُرْبٍ، وأتى بِقَوْلِهِ: (ومَن لَمْ) مُعَدًّى لِضَمِيرِ الماءِ، لا إلى النَّهَرِ، لِيُزِيلَ ذَلِكَ (p-٢٦٥)الإبْهامَ، ولِيُعْلَمَ أنَّ المَقْصُودَ هو المَنعُ مِن وُصُولِهِمْ إلى الماءِ مِنَ النَّهَرِ، بِمُباشَرَةِ الشُّرْبِ مِنهُ أوْ بِواسِطَةٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي﴾ سَدُّ الذَّرائِعِ؛ لِأنَّ أدْنى الذَّوْقِ يَدْخُلُ في لَفْظِ الطَّعْمِ، فَإذا وقَعَ النَّهْيُ عَنِ الطَّعْمِ فَلا سَبِيلَ إلى وُقُوعِ الشُّرْبِ مِمَّنْ يَتَجَنَّبُ الطَّعْمَ، ولِهَذِهِ المُبالَغَةِ، لَمْ يَأْتِ الكَلامُ: ومَن لَمْ يَشْرَبْ مِنهُ، انْتَهى كَلامُهُ. ﴿إلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ هَذا اسْتِثْناءٌ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى، وهي قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ والمَعْنى: أنَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ دُونَ الكُرُوعِ فَهو مِنِّي، والِاسْتِثْناءُ إذا اعْتَقَبَ جُمْلَتَيْنِ أوْ جُمَلًا، يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلى كُلِّ واحِدَةٍ مِنها، فَإنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالأخِيرَةِ، وهَذا عَلى خِلافٍ في هَذِهِ المَسْألَةِ مَذْكُورٌ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ، فَإنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلى تَعَلُّقِها بِبَعْضِ الجُمَلِ كانَ الِاسْتِثْناءُ مِنهُ، وهُنا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى تَعَلُّقِها بِالجُمْلَةِ الأُولى، وإنَّما قُدِّمَتِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ عَلى الِاسْتِثْناءِ مِنَ الأوْلى؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ تَدَلُّ عَلَيْها الأُولى بِالمَفْهُومِ؛ لِأنَّهُ حِينَ ذَكَرَ أنَّ اللَّهَ يَبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ، وأنَّ مَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيْسَ مِنهُ، فُهِمَ مِن ذَلِكَ أنَّ مَن لَمْ يَشْرَبْ مِنهُ فَإنَّهُ مِنهُ، فَصارَتِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ كالفَصْلِ بَيْنَ الأُولى والِاسْتِثْناءِ مِنها إذا دَلَّتْ عَلَيْها الأُولى، حَتّى إنَّها لَوْ لَمْ يَكُنْ مُصَرَّحًا بِها لَفُهِمَتْ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى، وقَدْ وقَعَ في بَعْضِ التَّصانِيفِ ما نَصُّهُ: إلّا مَنِ اغْتَرَفَ. اسْتِثْناءٌ مِنَ الأُولى، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ اسْتِثْناءً مِنَ الثّانِيَةِ، انْتَهى. ولا يَظْهَرُ كَوْنُهُ اسْتِثْناءً مِنَ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ؛ لِأنَّهُ حَكَمَ عَلى أنَّ مَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنهُ، فَيَلْزَمُ في الِاسْتِثْناءِ مِن هَذا أنَّ مَنِ اغْتَرَفَ مِنهُ بِيَدِهِ غُرْفَةً فَلَيْسَ مِنهُ، والأمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مَفْسُوحٌ لَهُمُ الِاغْتِرافُ غُرْفَةً بِاليَدِ دُونَ الكُرُوعِ فِيهِ، وهو ظاهِرُ الِاسْتِثْناءِ مِنَ الأُولى؛ لِأنَّهُ حَكَمَ فِيها أنَّ مَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيْسَ مِنهُ، فَيَلْزَمُ في الِاسْتِثْناءِ أنَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنهُ فَإنَّهُ مِنهُ؛ إذْ هو مَفْسُوحٌ لَهُ في ذَلِكَ، وهَكَذا الِاسْتِثْناءُ يَكُونُ مِنَ النَّفْيِ إثْباتًا، ومِنَ الإثْباتِ نَفْيًا، عَلى الصَّحِيحِ مِنَ المَذاهِبِ في هَذِهِ المَسْألَةِ. وفي الِاسْتِثْناءِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبَها، أوْ لِلشُّرْبِ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو: (غَرْفَةً)، بِفَتْحِ الغَيْنِ، وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّها، فَقِيلَ: هُما بِمَعْنى المَصْدَرِ، وقِيلَ: هُما بِمَعْنى المَغْرُوفِ، وقِيلَ: الغَرْفَةُ بِالفَتْحِ المَرَّةُ، وبِالضَّمِّ ما تَحْمِلُهُ اليَدُ، فَإذا كانَ مَصْدَرًا فَهو عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ، إذْ لَوْ جاءَ عَلى الصَّدْرِ لَقالَ: اغْتِرافَةً، ويَكُونُ مَفْعُولُ اغْتَرَفَ مَحْذُوفًا، أيْ: ماءً، وإذا كانَ بِمَعْنى المَغْرُوفِ كانَ مَفْعُولًا بِهِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكانَ أبُو عَلِيٍّ يُرَجِّحُ ضَمَّ الغَيْنِ، ورَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ أيْضًا: أنَّ غَرْفَةً بِالفَتْحِ إنَّما هو مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ اغْتِرافٍ، انْتَهى. وهَذا التَّرْجِيحُ الَّذِي يَذْكُرُهُ المُفَسِّرُونَ والنَّحْوِيُّونَ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ لا يَنْبَغِي؛ لِأنَّ هَذِهِ القِراءاتِ كُلَّها صَحِيحَةٌ ومَرْوِيَّةٌ ثابِتَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولِكُلٍّ مِنها وجْهٌ ظاهِرٌ حَسَنٌ في العَرَبِيَّةِ، فَلا يُمْكِنُ فِيها تَرْجِيحُ قِراءَةٍ عَلى قِراءَةٍ، ويَتَعَلَّقُ (بِيَدِهِ) بِقَوْلِهِ: (اغْتَرَفَ) . قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِغُرْفَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِالمَحْذُوفِ. وظاهِرُ: (غُرْفَةً بِيَدِهِ) الِاقْتِصارُ عَلى غَرْفَةٍ واحِدَةٍ، وأنَّها تَكُونُ بِاليَدِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُقاتِلٌ: كانَتِ الغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنها هو ودَوابُّهُ وخَدَمُهُ ويَحْمِلُ مِنها، قالَ مُقاتِلٌ: ويَمْلَأُ مِنها قِرْبَتَهُ، قِيلَ: فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيها البَرَكَةَ حَتّى تَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلاءِ، وكانَ هَذا مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمانِ، قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: لَمْ يُرِدْ غُرْفَةَ الكَفِّ، وإنَّما أرادَ المَرَّةَ الواحِدَةَ بِقِرْبَةٍ أوْ جَرَّةٍ أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ، وهَذا الِابْتِلاءُ الَّذِي ابْتَلى اللَّهُ بِهِ جُنُودَ طالُوتَ ابْتِلاءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ مُنِعُوا مِنَ الماءِ مَعَ وُجُودِهِ وكَثْرَتِهِ في شِدَّةِ الحَرِّ والقَيْظِ، وأنَّ مَن أُبِيحَ لَهُ شَيْءٌ مِنهُ فَإنَّما هو مِقْدارُ ما يَغْرِفُ بِيَدِهِ، فَأيْنَ يَصِلُ مِنهُ ذَلِكَ ؟ وهَذا أشَدُّ في التَّكْلِيفِ مِمّا ابْتُلِيَ بِهِ أهْلُ أيْلَةَ مِن تَرْكِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ، مَعَ إمْكانِ ذَلِكَ فِيهِ، وكَثْرَةِ ما يَرِدُ إلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الحِيتانِ. ﴿فَشَرِبُوا مِنهُ إلّا قَلِيلًا﴾ أيْ: كَرَعُوا فِيهِ، ظاهِرُهُ أنَّ الأكْثَرَ شَرِبُوا، وأنَّ القَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا، ويُحْمَلُ الشُّرْبُ الَّذِي (p-٢٦٦)وقَعَ مِن أكْثَرِهِمْ عَلى أنَّهُ الشُّرْبُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، ووَقَعَ بِهِ المُخالَفَةُ، ويَكُونُ الِاسْتِثْناءُ عَلى أنَّ ذَلِكَ القَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا ذَلِكَ الشُّرْبَ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، فَبَقِيَ تَحْتَ القَلِيلِ قِسْمانِ: أحَدُهُما: لَمْ يَطْعَمْهُ ألْبَتَّةَ والثّانِي: الَّذِي اغْتَرَفُوا بِأيْدِيهِمْ، وهَذا التَّقْسِيمُ رُوِيَ مَعْناهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ الأكْثَرَ شَرِبُوا عَلى قَدْرِ يَقِينِهِمْ، فَشَرِبَ الكُفّارُ شُرْبَ الهِيمِ، وشَرِبَ العاصُونَ دُونَ ذَلِكَ، وانْصَرَفَ مِنَ القَوْمِ سِتَّةٌ وسَبْعُونَ ألْفًا، وبَقِيَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَشْرَبْ شَيْئًا، وأخَذَ بَعْضُهُمُ الغُرْفَةَ؛ فَأمّا مَن شَرِبَ فَلَمْ يُرْوَ، بَلْ بَرِحَ بِهِ العَطَشُ، وأمّا مَن تَرَكَ الماءَ فَحَسُنَتْ حالُهُ، وكانَ أجْدَرَ مِمَّنْ أخَذَ الغُرْفَةَ. وقِيلُ الَّذِينَ شَرِبُوا وخالَفُوا أمْرَ اللَّهِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم وشِفاهُهم، فَلَمْ يُرْوَوْا، وبَقُوا عَلى شَطِّ النَّهَرِ، وجَبُنُوا عَنْ لِقاءِ العَدُوِّ، فَلَمْ يُجاوِزُوا ولَمْ يَشْهَدُوا الفَتْحَ. وقِيلَ: بَلْ كُلُّهم جاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ القِتالَ إلّا القَلِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا. والقَلِيلُ المُسْتَثْنى أرْبَعَةُ آلافٍ، قالَهُ عِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ، وقِيلَ: ثَلاثُمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشَرَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وأُبَيٌّ والأعْمَشُ: (إلّا قَلِيلٌ) بِالرَّفْعِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا مِن مَيْلِهِمْ مَعَ المَعْنى والإعْراضِ عَنِ اللَّفْظِ جانِبًا، وهو بابٌ جَلِيلٌ مِن عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، فَلَمّا كانَ مَعْنى (فَشَرِبُوا مِنهُ) في مَعْنى (فَلَمْ يُطِيعُوهُ) حُمِلَ عَلَيْهِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنهم. ونَحْوَهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: ؎(وعَضُّ زَمانٍ يا ابْنَ مَرَوانَ) لَمْ يَدَعْ ∗∗∗ مِنَ المالِ إلّا مُسْحَتًا أوْ مُجَلَّفُ كَأنَّهُ قالَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ المالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفٌ انْتَهى كَلامُهُ. والمَعْنى أنَّ هَذا المُوجَبَ الَّذِي هو: فَشَرِبُوا مِنهُ، هو في مَعْنى المَنفِيِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، فارْتَفَعَ (قَلِيلٌ) عَلى هَذا المَعْنى، ولَوْ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ مَعْنى النَّفْيِ لَمْ يَكُنْ لِيَرْتَفِعَ ما بَعْدَ إلّا، فَيَظْهَرُ أنَّ ارْتِفاعَهُ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن جِهَةِ المَعْنى، فالمُوجَبُ فِيهِ كالمَنفِيِّ، وما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن أنَّهُ ارْتَفَعَ ما بَعْدَ إلّا عَلى التَّأْوِيلِ هُنا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الِاتِّباعَ بَعْدَ المُوجَبِ، فَلِذَلِكَ تَأوَّلَهُ، ونَقُولُ: إذا تَقَدَّمَ مُوجَبٌ جازَ في الَّذِي بَعْدَ إلّا وجْهانِ: أحَدُهُما: النَّصْبُ عَلى الِاسْتِثْناءِ وهو الأفْصَحُ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ ما بَعْدَ إلّا تابِعًا لِإعْرابِ المُسْتَثْنى مِنهُ، إنْ رَفْعًا فَرَفْعٌ، أوْ نَصْبًا فَنَصْبٌ، أوْ جَرًّا فَجَرٌّ، فَتَقُولُ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ، ورَأيْتُ القَوْمَ إلّا زَيْدًا، ومَرَرْتُ بِالقَوْمِ إلّا زَيْدٍ، وسَواءٌ كانَ ما قَبْلَ إلّا مُظْهَرًا أوْ مُضْمَرًا. واخْتَلَفُوا في إعْرابِهِ، فَقِيلَ: هو تابِعٌ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِما قَبْلَهُ، فَمِنهم مَن حَمَلَ هَذا عَلى ظاهِرِ العِبارَةِ. وقالَ: يُنْعَتُ بِما بَعْدَ (إلّا) الظّاهِرُ والمُضْمَرُ، ومِنهم مَن قالَ: لا يُنْعَتُ بِهِ إلّا النَّكِرَةُ أوِ المَعْرِفَةُ بِلامِ الجِنْسِ، فَإنْ كانَ مَعْرِفَةً بِالإضافَةِ نَحْوَ: قامَ إخْوَتُكَ، أوْ بِالألِفِ واللّامِ (p-٢٦٧)لِلْعَهْدِ، أوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ التَّعارِيفِ غَيْرَ لامِ الجِنْسِ، فَلا يَجُوزُ الِاتِّباعُ، ويَلْزَمُ النَّصْبُ عَلى الِاسْتِثْناءِ. ومِنهم مَن قالَ: إنَّ النَّحْوِيِّينَ يَعْنُونَ بِالنَّعْتِ هُنا عَطْفَ البَيانِ، ومِنَ الِاتِّباعِ بَعْدَ المُوجَبِ قَوْلُهُ: ؎وكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ∗∗∗ لَعَمْرُ أبِيكَ إلّا الفَرْقَدانِ وهَذِهِ المَسْألَةُ مُسْتَوْفاةٌ في عِلْمِ النَّحْوِ، وإنَّما أرَدْنا أنْ نُنَبِّهَ عَلى أنَّ تَأْوِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذا المُوجَبَ بِمَعْنى النَّفْيِ، لا نَضْطَرُّ إلَيْهِ، وأنَّهُ كانَ غَيْرَ ذاكِرٍ لِما قَرَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ في المُوجَبِ. * * * ﴿فَلَمّا جاوَزَهُ هو والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ ظاهِرُهُ أنَّهُ ما جازَ النَّهَرَ إلّا هو والمُؤْمِنُونَ، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والسُّدِّيِّ: أنَّ الَّذِينَ شَرِبُوا وخالَفُوا انْحَرَفُوا، ولَمْ يُجاوِزُوا، وقِيلَ: بَلْ كُلُّهم جاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ القِتالَ إلّا القَلِيلُ. (وجاوَزَ) فاعِلٌ فِيهِ بِمَعْنى فَعَلَ أيْ: جازَ. والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: عِدَّةُ أهْلِ بَدْرٍ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ: جازَ مَعَهُ أرْبَعَةُ آلافٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنهم مَن شَرِبَ، قالا: فَلَمّا نَظَرُوا إلى جالُوتَ وجُنُودِهِ، قالُوا: لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ، ورَجَعَ مِنهم ثَلاثَةُ آلافٍ وسِتُّمِائَةٍ وبِضْعَةٌ وثَمانُونَ، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّهُ إنَّما جاوَزَ النَّهَرَ مَن لَمْ يَشْرَبْ إلّا غُرْفَةً. ومَن لَمْ يَشْرَبْ جُمْلَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ بَصائِرُ هَؤُلاءِ، فَبَعْضٌ كَعَّ، وقَلِيلٌ صَمَّمَ، و(هو) تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ المُسْتَكِنِ في (جاوَزَهُ) (والَّذِينَ) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْحالِ ويَلْزَمُ مِنَ الحالِ أنْ يَكُونُوا جاوَزُوا مَعَهُ، والأظْهَرُ أنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ، وإدْغامُ (جاوَزَهُ) في هو ضَعِيفٌ، ولا يُسْتَحْسَنُ إلّا إنْ كانَتِ الهاءُ مُخْتَلَسَةٌ لا إمالَةَ لَها. ﴿قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ﴾ قائِلُ ذَلِكَ الكَفَرَةُ الَّذِينَ انْخَزَلُوا، وهو الفاعِلُ في شَرِبُوا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ. وقِيلَ: مَن قَلَّتْ بَصِيرَتُهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وهُمُ الَّذِينَ جاوَزُوا النَّهَرَ وهُمُ القَلِيلُ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ والزَّجّاجُ. (طاقَةَ): مِنَ الطَّوْقِ، وهو القُوَّةُ، وهو مِن: أطاقَ، كَأطاعَ طاعَةً، وأجابَ جابَةً، وأغارَ غارَةً. ويَتَعَلَّقُ (لَنا) بِمَحْذُوفٍ إذْ هو في مَوْضِعِ الخَبَرِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِطاقَةٍ؛ لِأنَّهُ كانَ يَكُونُ طاقَةً مُطَوَّلًا، فَيَلْزَمُ تَنْوِينُهُ، و(اليَوْمَ) مَنصُوبٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ لَنا، و(بِجالُوتَ) مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وأجازَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ (بِجالُوتَ)، في مَوْضِعِ الخَبَرِ، ولَيْسَ المَعْنى عَلى ذَلِكَ. ﴿قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو اللَّهِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلى بابِهِ، ومَعْنى (مَلاقُو اللَّهِ) أيْ: يُسْتَشْهَدُونَ في ذَلِكَ اليَوْمِ لِعَزْمِهِمْ عَلى صِدْقِ القِتالِ، وتَصْمِيمِهِمْ عَلى لِقاءِ أعْدائِهِمْ، كَما جَرى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حِزامٍ في أُحُدٍ وغَيْرِهِ، قالَهُ الزَّجّاجُ في آخَرِينَ، وقِيلَ: مُلاقُو ثَوابِ اللَّهِ بِسَبَبِ الطّاعَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ لا يَعْلَمُ عاقِبَةَ أمْرِهِ فَلا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ ظانًّا، وقِيلَ: مُلاقُو طاعَةِ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ لا يَقْطَعُ أنَّ عَمَلَهُ هَذا إطاعَةٌ؛ لِأنَّهُ رُبَّما شابَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، وقِيلَ: مَلاقُو وعْدِ اللَّهِ إيّاهم بِالنَّصْرِ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَهو مَظْنُونٌ في المَرَّةِ الأُولى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الظَّنُّ بِمَعْنى الإيقانِ؛ أيْ: يُوقِنُونَ بِالبَعْثِ والرُّجُوعِ إلى اللَّهِ، قالَهُ السُّدِّيُّ في آخَرِينَ. * * * ﴿كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ﴾ . هَذا القَوْلُ تَحْرِيضٌ مِنَ العازِمِينَ عَلى القِتالِ وحَضٌّ عَلَيْهِ، واسْتِشْعارٌ لِلصَّبْرِ واقْتِداءٌ بِمَن صَدَّقَ اللَّهَ. والمَعْنى: أنا لا نَكْتَرِثُ بِ جالُوتَ وجُنُودِهِ وإنْ كَثُرُوا، فَإنَّ الكَثْرَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلِانْتِصارِ، فَكَثِيرًا ما انْتَصَرَ القَلِيلُ عَلى الكَثِيرِ؛ ولَمّا كانَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ في الأزْمانِ الماضِيَةِ وعَلِمُوا بِذَلِكَ، أُخْبِرُوا بِصِيغَةِ: كَمْ، المُقْتَضِيَةُ لِلتَّكْثِيرِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: (وكَأيِّنْ)، وهي مُرادِفَةٌ لَكم في التَّكْثِيرِ، ولَمْ يَأْتِ تَمْيِيزُها في القُرْآنِ (p-٢٦٨)إلّا مَصْحُوبًا بِمِن، ولَوْ حُذِفَتْ (مِن) لانْجَرَّ تَمْيِيزُ كَمِ الخَبَرِيَّةِ بِالإضافَةِ، وقِيلَ: بِإضْمارِ (مِن) ويَجُوزُ نَصْبُهُ حَمْلًا عَلى كَمِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ، وانْتَصَبَ تَمْيِيزُ كَأيِّنْ، فَتَقُولُ: كَأيِّنْ رَجُلًا جاءَكَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أطْرُدُ اليَأْسَ بِالرَّجا فَكَأيِّنْ أمَلًا حُمَّ يُسْرَهُ بَعْدَ عُسْرِ و(كَمْ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، و(مِن) في (مِن فِئَةٍ) قِيلَ: زائِدَةٌ ولَيْسَ مِن مَواضِعِ زِيادَتِها. وقِيلَ: في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ (كَمْ)، و(فِئَةٍ) هُنا مُفْرَدٌ في مَعْنى الجَمْعِ، كَأنَّهُ قِيلَ: كَثِيرٌ مِن فِئاتٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ. وقَرَأ الأعْشى فِيهِ بِإبْدالِ الهَمْزَةِ ياءً، نَحْوَ: مِيرَةٍ في مِئْرَةٍ، وهو إبْدالٌ نَفِيسٌ، وخَبَرُ (كَمْ) قَوْلُهُ: (غَلَبَتْ) ومَعْنى (بِإذْنِ اللَّهِ) بِتَمْكِينِهِ وتَسْوِيفِهِ الغَلَبَةَ. وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ قِتالِ الجَمْعِ القَلِيلِ لِلْجَمْعِ الكَثِيرِ، وإنْ كانُوا أضْعافَ أضْعافِهِمْ، إذا عَلِمُوا أنَّ في ذَلِكَ نِكايَةً لَهم، وأمّا جَوازُ الفِرارِ مِنَ الجَمْعِ الكَثِيرِ إذا زادُوا عَنْ ضِعْفِهِمْ فَسَيَأْتِي بَيانُهُ في سُورَةِ الأنْفالِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ﴿واللَّهُ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ تَحْرِيضٌ عَلى الصَّبْرِ في القِتالِ، فَإنَّ اللَّهَ مَعَ مَن صَبَرَ لِنُصْرَةِ دِينِهِ، يَنْصُرُهُ ويُعِينُهُ ويُؤَيِّدُهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن تَمامِ كَلامِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا مِنَ اللَّهِ، قالَهُ القَفّالُ. ﴿ولَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وجُنُودِهِ﴾ صارُوا بِالبَرازِ مِنَ الأرْضِ، وهو ما ظَهَرَ واسْتَوى، والمُبارَزَةُ في الحَرْبِ أنْ يَظْهَرَ كُلُّ قَرْنٍ لِصاحِبِهِ بِحَيْثُ يَراهُ قَرْنُهُ، وكانَ جُنُودُ طالُوتَ ثَلاثَمِائَةِ ألْفِ فارِسٍ، وقِيلَ: مِائَةَ ألْفٍ، وقالَ عِكْرِمَةُ: تِسْعِينَ ألْفًا. ﴿قالُوا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ الصَّبْرُ هُنا: حَبْسُ النَّفْسِ لِلْقِتالِ، فَزِعُوا إلى الدُّعاءِ لِلَّهِ تَعالى فَنادَوْا بِلَفْظِ الرَّبِّ الدّالِّ عَلى الإصْلاحِ وعَلى المُلْكِ، فَفي ذَلِكَ إشْعارٌ بِالعُبُودِيَّةِ. وقَوْلُهم: ﴿أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ سُؤالٌ بِأنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ حَتّى يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ، ويَكُونَ لَهم كالظَّرْفِ وهم كالمَظْرُوفِينَ فِيهِ. ﴿وثَبِّتْ أقْدامَنا﴾ فَلا تَزَلُّ عَنْ مَداحِضِ القِتالِ، وهو كِنايَةٌ عَنْ تَشْجِيعِ قُلُوبِهِمْ وتَقْوِيَتِها، ولَمّا سَألُوا ما يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّبْرِ سَألُوا تَثْبِيتَ أقْدامِهِمْ وإرْساخَها. ﴿وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ أيْ: أعِنّا عَلَيْهِمْ، وجاءُوا بِالوَصْفِ المُقْتَضِي لِخُذْلانِ أعْدائِهِمْ، وهو الكُفْرُ، وكانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، وفي قَوْلِهِمْ: (رَبَّنا) إقْرارٌ لِلَّهِ تَعالى بِالوَحْدانِيَّةِ، وإقْرارٌ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب