الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ إخْراجَ الألْبانِ مِنَ النِّعَمِ، وإخْراجَ السَّكَرِ والرِّزْقِ الحَسَنِ مِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ دَلائِلُ قاهِرَةٌ، وبَيِّناتٌ باهِرَةٌ عَلى أنَّ لِهَذا العالَمِ إلَهًا قادِرًا مُخْتارًا حَكِيمًا، فَكَذَلِكَ إخْراجُ العَسَلِ مِنَ النَّحْلِ دَلِيلٌ قاطِعٌ وبُرْهانٌ ساطِعٌ عَلى إثْباتِ هَذا المَقْصُودِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ يُقالُ: وحى وأوْحى، وهو الإلْهامُ، والمُرادُ مِنَ الإلْهامِ أنَّهُ تَعالى قَرَّرَ في أنْفُسِها هَذِهِ الأعْمالَ العَجِيبَةَ الَّتِي تَعْجِزُ عَنْها العُقَلاءُ مِنَ البَشَرِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّها تَبْنِي البُيُوتَ المُسَدَّسَةَ مِن أضْلاعٍ مُتَساوِيَةٍ، لا يَزِيدُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ طِباعِها، والعُقَلاءُ مِنَ البَشَرِ لا يُمْكِنُهم بِناءُ مِثْلِ تِلْكَ البُيُوتِ إلّا بِآلاتٍ وأدَواتٍ مِثْلَ المِسْطَرِ والفِرْجارِ.
والثّانِي: أنَّهُ ثَبَتَ في الهَنْدَسَةِ أنَّ تِلْكَ البُيُوتَ لَوْ كانَتْ مُشَكَّلَةً بِأشْكالٍ سِوى المُسَدَّساتِ فَإنَّهُ يَبْقى بِالضَّرُورَةِ فِيما بَيْنَ تِلْكَ البُيُوتِ فُرَجٌ خالِيَةٌ ضائِعَةٌ، (p-٥٧)أمّا إذا كانَتْ تِلْكَ البُيُوتُ مُسَدَّسَةً فَإنَّهُ لا يَبْقى فِيما بَيْنَها فُرَجٌ ضائِعَةٌ، فَإهْداءُ ذَلِكَ الحَيَوانِ الضَّعِيفِ إلى هَذِهِ الحِكْمَةِ الخَفِيَّةِ والدَّقِيقَةِ اللَّطِيفَةِ مِنَ الأعاجِيبِ.
والثّالِثُ: أنَّ النَّحْلَ يَحْصُلُ فِيما بَيْنَها واحِدٌ يَكُونُ كالرَّئِيسِ لِلْبَقِيَّةِ، وذَلِكَ الواحِدُ يَكُونُ أعْظَمَ جُثَّةً مِنَ الباقِي، ويَكُونُ نافِذَ الحكم عَلى تِلْكَ البَقِيَّةِ، وهم يَخْدِمُونَهُ ويَحْمِلُونَهُ عِنْدَ الطَّيَرانِ، وذَلِكَ أيْضًا مِنَ الأعاجِيبِ.
والرّابِعُ: أنَّها إذا نَفَرَتْ مِن وكْرِها ذَهَبَتْ مَعَ الجَمْعِيَّةِ إلى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإذا أرادُوا عَوْدَها إلى وكْرِها ضَرَبُوا الطُّنْبُورَ والمَلاهِي وآلاتِ المُوسِيقى، وبِواسِطَةِ تِلْكَ الألْحانِ يَقْدِرُونَ عَلى رَدِّها إلى وكْرِها، وهَذا أيْضًا حالَةٌ عَجِيبَةٌ، فَلَمّا امْتازَ هَذا الحَيَوانُ بِهَذِهِ الخَواصِّ العَجِيبَةِ الدّالَّةِ عَلى مَزِيدِ الذَّكاءِ والكِياسَةِ، وكانَ حُصُولُ هَذِهِ الأنْواعِ مِنَ الكِياسَةِ لَيْسَ إلّا عَلى سَبِيلِ الإلْهامِ وهي حالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالوَحْيِ، لا جَرَمَ قالَ تَعالى في حَقِّها: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ الوَحْيَ قَدْ ورَدَ في حَقِّ الأنْبِياءِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلّا وحْيًا﴾ [الشورى: ٥١] وفي حَقِّ الأوْلِياءِ أيْضًا قالَ تَعالى: ﴿وإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ﴾ [المائدة: ١١١] وبِمَعْنى الإلْهامِ في حَقِّ البَشَرِ قالَ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى﴾ [القصص: ٧] وفي حَقِّ سائِرِ الحَيَواناتِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ﴾ ولِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ مَعْنًى خاصٌّ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ: سُمِّيَ هَذا الحَيَوانُ نَحْلًا، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى نَحَلَ النّاسَ العَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِن بُطُونِها، وقالَ غَيْرُهُ: النَّحْلُ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وهي مُؤَنَّثَةٌ في لُغَةِ الحِجازِ، ولِذَلِكَ أنَّثَها اللَّهُ تَعالى، وكَذَلِكَ كَلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ واحِدِهِ إلّا الهاءُ.
* * *
ثم قال تَعالى: ﴿أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿أنِ اتَّخِذِي﴾ هي ”أنِ“ المُفَسِّرَةُ، لِأنَّ الإيحاءَ فِيهِ مَعْنى القَوْلِ، وقُرِئَ: (بِيُوتًا) بِكَسْرِ الباءِ ﴿ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ أيْ: يَبْنُونَ ويَسْقُفُونَ، وفِيهِ لُغَتانِ قُرِئَ بِهِما، ضَمُّ الرّاءِ وكَسْرُها مِثْلُ يَعْكُفُونَ ويَعْكِفُونَ.
واعْلَمْ أنَّ النَّحْلَ نَوْعانِ:
النوع الأوَّلُ: ما يَسْكُنُ في الجِبالِ والغِياضِ ولا يَتَعَهَّدُها أحَدٌ مِنَ النّاسِ.
والنوع الثّانِي: الَّتِي تَسْكُنُ بُيُوتَ النّاسِ وتَكُونُ في تَعَهُّداتِ النّاسِ، فالأوَّلُ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ﴾ .
والثّانِي: هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ وهو خَلايا النَّحْلِ.
فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ وهَلّا قِيلَ في الجِبالِ وفي الشَّجَرِ ؟ .
قُلْنا: أُرِيدَ بِهِ مَعْنى البَعْضِيَّةِ، وأنْ لا تَبْنِيَ بُيُوتَها في كُلِّ جَبَلٍ وشَجَرٍ، بَلْ في مَساكِنَ تُوافِقُ مَصالِحَها وتَلِيقُ بِها.
المسألة الثّانِيَةُ: ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا﴾ أمْرٌ، وقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الحَيَواناتِ عُقُولٌ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَتَوَّجَهَ عَلَيْها مِنَ اللَّهِ تَعالى أمْرٌ ونَهْيٌ. وقالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلِ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ فِيها غَرائِزَ وطَبائِعَ تُوجِبُ هَذِهِ الأحْوالَ، والكَلامُ (p-٥٨)المُسْتَقْصى في هَذِهِ المسألة مَذْكُورٌ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨] .
ثم قال تَعالى: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ لَفْظَةُ ”مِن“ هَهُنا لِلتَّبْعِيضِ أوْ لِابْتِداءِ الغايَةِ، ورَأيْتُ في ”كُتُبِ الطِّبِّ“ أنَّهُ تَعالى دَبَّرَ هَذا العالَمَ عَلى وجْهٍ، وهو أنَّهُ يَحْدُثُ في الهَواءِ طَلٌّ لَطِيفٌ في اللَّيالِي، ويَقَعُ ذَلِكَ الطَّلُّ عَلى أوْراقِ الأشْجارِ، فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الأجْزاءُ الطَّلِّيَّةُ لَطِيفَةً صَغِيرَةً مُتَفَرِّقَةً عَلى الأوْراقِ والأزْهارِ، وقَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ مِنها أجْزاءٌ مَحْسُوسَةٌ.
أمّا القِسْمُ الثّانِي: فَهو مِثْلُ التَّرَنْجَبِينِ فَإنَّهُ طَلٌّ يَنْزِلُ مِنَ الهَواءِ ويَجْتَمِعُ عَلى أطْرافِ الطَّرْفاءِ في بَعْضِ البُلْدانِ وذَلِكَ مَحْسُوسٌ.
وأمّا القِسْمُ الأوَّلُ: فَهو الَّذِي ألْهَمَ اللَّهُ تَعالى هَذا النَّحْلَ حَتّى أنَّها تَلْتَقِطُ تِلْكَ الذَّرّاتِ مِنَ الأزْهارِ وأوْراقِ الأشْجارِ بِأفْواهِها وتَأْكُلُها وتَغْتَذِي بِها، فَإذا شَبِعَتِ التَقَطَتْ بِأفْواهِها مَرَّةً أُخْرى شَيْئًا مِن تِلْكَ الأجْزاءِ وذَهَبَتْ بِها إلى بُيُوتِها ووَضَعَتْها هُناكَ، لِأنَّها تُحاوِلُ أنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِها غِذاءَها، فَإذا اجْتَمَعَ في بُيُوتِها مِن تِلْكَ الأجْزاءِ الطَّلِّيَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَذاكَ هو العَسَلُ، ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ النَّحْلَ تَأْكُلُ مِنَ الأزْهارِ الطَّيِّبَةِ والأوْراقِ المُعَطَّرَةِ أشْياءَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يَقْلِبُ تِلْكَ الأجْسامَ في داخِلِ بَدَنِها عَسَلًا، ثُمَّ إنَّها تَقِيءُ مَرَّةً أُخْرى فَذاكَ هو العَسَلُ، والقَوْلُ الأوَّلُ أقْرَبُ إلى العَقْلِ وأشَدُّ مُناسَبَةً إلى الِاسْتِقْراءِ، فَإنَّ طَبِيعَةَ التَّرَنْجَبِينِ قَرِيبَةٌ مِنَ العَسَلِ في الطَّعْمِ والشَّكْلِ، ولا شَكَّ أنَّهُ طَلٌّ يَحْدُثُ في الهَواءِ ويَقَعُ عَلى أطْرافِ الأشْجارِ والأزْهارِ فَكَذا هَهُنا. وأيْضًا فَنَحْنُ نُشاهِدُ أنَّ هَذا النَّحْلَ إنَّما يَتَغَذّى بِالعَسَلِ، ولِذَلِكَ فَإنّا إذا اسْتَخْرَجْنا العَسَلَ مِن بُيُوتِ النَّحْلِ نَتْرُكُ لَها بَقِيَّةً مِن ذَلِكَ لِأجْلِ أنْ تَغْتَذِيَ بِها، فَعَلِمْنا أنَّها إنَّما تَغْتَذِي بِالعَسَلِ وأنَّها إنَّما تَقَعُ عَلى الأشْجارِ والأزْهارِ لِأنَّها تَغْتَذِي بِتِلْكَ الأجْزاءِ الطَّلِّيَّةِ العَسَلِيَّةِ الواقِعَةِ مِنَ الهَواءِ عَلَيْها.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ كَلِمَةُ ”مِن“ هَهُنا تَكُونُ لِابْتِداءِ الغايَةِ، ولا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ عَلى هَذا القَوْلِ.
ثم قال تَعالى: ﴿فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ﴾ والمَعْنى: ثُمَّ كُلِي كُلَّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِينَها، فَإذا أكَلْتِها فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ في الطُّرُقِ الَّتِي ألْهَمَكِ وأفْهَمَكِ في عَمَلِ العَسَلِ، أوْ يَكُونُ المُرادُ: فاسْلُكِي في طَلَبِ تِلْكَ الثَّمَراتِ سُبُلَ رَبِّكِ. أما قوله: ﴿ذُلُلًا﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ.
الأوَّلُ: أنَّهُ حالٌ مِنَ السُّبُلِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذَلَّلَها لَها ووَطَّأها وسَهَّلَها، كَقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: ١٥] .
الثّانِي: أنَّهُ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿فاسْلُكِي﴾ أيْ: وأنْتِ أيُّها النَّحْلُ ذُلُلٌ مُنْقادَةٌ لِما أُمِرْتِ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ.
* * *
ثم قال تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها﴾ وفِيهِ بَحْثانِ:
البحث الأوَّلُ: أنَّ هَذا رُجُوعٌ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ هَذِهِ الأحْوالِ أنْ يَحْتَجَّ الإنْسانُ المُكَلَّفُ بِهِ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ وحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لِأحْوالِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ، فَكَأنَّهُ تَعالى لَمّا خاطَبَ النَّحْلَ بِما سَبَقَ ذِكْرُهُ خاطَبَ الإنْسانَ وقالَ: إنّا ألْهَمْنا هَذا النَّحْلَ لِهَذِهِ العَجائِبِ، لِأجْلِ أنْ يَخْرُجَ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ.
البحث الثّانِي: أنَّهُ قَدْ ذَكَرْنا أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: العَسَلُ عِبارَةٌ عَنْ أجْزاءٍ طَلِّيَّةٍ تَحْدُثُ في الهَواءِ وتَقَعُ (p-٥٩)عَلى أطْرافِ الأشْجارِ وعَلى الأوْراقِ والأزْهارِ، فَيَلْقُطُها الزُّنْبُورُ بِفَمِهِ، فَإذا ذَهَبْنا إلى هَذا الوجه كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها﴾ أيْ: مِن أفْواهِها، وكُلُّ تَجْوِيفٍ في داخِلِ البَدَنِ فَإنَّهُ يُسَمّى بَطْنًا، ألا تَرى أنَّهم يَقُولُونَ: بُطُونُ الدِّماغِ، وعَنَوْا أنَّها تَجاوِيفُ الدِّماغِ، وكَذا هَهُنا يَخْرُجُ مِن بُطُونِها أيْ: مِن أفْواهِها، وأمّا عَلى قَوْلِ أهْلِ الظّاهِرِ، وهو أنَّ النَّحْلَةَ تَأْكُلُ الأوْراقَ والثَّمَراتِ ثُمَّ تَقِيءُ فَذَلِكَ هو العَسَلُ فالكَلامُ ظاهِرٌ.
ثم قال تَعالى: ﴿شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ العَسَلَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثَةِ:
فالصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُهُ شَرابًا والأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّهُ تارَةً يُشْرَبُ وحْدَهُ وتارَةً يُتَّخَذُ مِنَ الأشْرِبَةِ.
والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ والمَعْنى: أنَّ مِنهُ أحْمَرَ وأبْيَضَ وأصْفَرَ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُها وغَرابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: ٢٧] والمَقْصُودُ مِنهُ: إبْطالُ القَوْلِ بِالطَّبْعِ، لِأنَّ هَذا الجِسْمَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَساوِيَ الطَّبِيعَةِ لَمّا حَدَثَ عَلى ألْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ حُدُوثَ تِلْكَ الألْوانِ بِتَدْبِيرِ الفاعِلِ المُخْتارِ، لا لِأجْلِ إيجادِ الطَّبِيعَةِ.
والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: وهو الصَّحِيحُ أنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَسَلِ.
فَإنْ قالُوا: كَيْفَ يَكُونُ شِفاءً لِلنّاسِ وهو يَضُرُّ بِالصَّفْراءِ ويُهَيِّجُ المَرارَةَ ؟ .
قُلْنا: إنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ إنَّهُ شِفاءُ لِكُلِّ النّاسِ ولِكُلِّ داءٍ وفي كُلِّ حالٍ، بَلْ لَمّا كانَ شِفاءً لِلْبَعْضِ مِن بَعْضِ الأدْواءِ صَلُحَ بِأنْ يُوصَفَ بِأنَّهُ فِيهِ شِفاءٌ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ شِفاءٌ في الجُمْلَةِ أنَّهُ قَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ المَعاجِينِ إلّا وتَمامُهُ وكَمالُهُ إنَّما يَحْصُلُ بِالعَجْنِ بِالعَسَلِ، وأيْضًا فالأشْرِبَةُ المُتَّخَذَةُ مِنهُ في الأمْراضِ البَلْغَمِيَّةِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ.
والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ أنَّ المُرادَ: أنَّ القُرْآنَ شِفاءٌ لِلنّاسِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقِصَّةُ تُوَلُّدِ العَسَلِ مِنَ النَّحْلِ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأ وقالَ: ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ أيْ: في هَذا القُرْآنِ حَصَلَ ما هو شِفاءٌ لِلنّاسِ مِنَ الكُفْرِ والبِدْعَةِ، مِثْلَ هَذا الَّذِي في قِصَّةِ النَّحْلِ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنَّ العَسَلَ شِفاءٌ مِن كُلِّ داءٍ، والقُرْآنَ شِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ ضَعِيفٌ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ يَجِبُ عَوْدُهُ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ، وما ذاكَ إلّا قَوْلُهُ: ﴿شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ وأمّا الحكم بِعَوْدِ هَذا الضَّمِيرِ إلى القُرْآنِ مَعَ أنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيما سَبَقَ، فَهو غَيْرُ مُناسِبٍ.
والثّانِي: ما رَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: «أنَّهُ جاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالَ: إنَّ أخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقالَ: ”اسْقِهِ عَسَلًا“ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”اذْهَبْ واسْقِهِ عَسَلًا“ فَذَهَبَ فَسَقاهُ، فَكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقالٍ، فَقالَ: ”صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ» “ وحَمَلُوا قَوْلَهُ: ”«صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ» “ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ وذَلِكَ إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَ هَذا صِفَةً لِلْعَسَلِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: ما المُرادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ» “ ؟ .
(p-٦٠)قُلْنا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِمَ بِنُورِ الوَحْيِ أنَّ ذَلِكَ العَسَلَ سَيَظْهَرُ نَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمّا لَمْ يَظْهَرْ نَفْعُهُ في الحالِ، مَعَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عالِمًا بِأنَّهُ سَيَظْهَرُ نَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كانَ هَذا جارِيًا مَجْرى الكَذِبِ، فَلِهَذا السَّبَبِ أطْلَقَ عَلَيْهِ هَذا اللَّفْظَ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّ تَقْرِيرَ هَذِهِ الآيَةِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: اخْتِصاصُ النَّحْلِ بِتِلْكَ العُلُومِ الدَّقِيقَةِ والمَعارِفِ الغامِضَةِ؛ مِثْلُ بِناءِ البُيُوتِ المُسَدَّسَةِ وسائِرِ الأحْوالِ الَّتِي ذَكَرْناها.
والثّانِي: اهْتِداؤُها إلى جَمِيعِ تِلْكَ الأجْزاءِ العَسَلِيَّةِ مِن أطْرافِ الأشْجارِ والأوْراقِ.
والثّالِثُ: خَلْقُ اللَّهِ تَعالى الأجْزاءَ النّافِعَةَ في جَوِّ الهَواءِ، ثُمَّ إلْقاؤُها عَلى أطْرافِ الأشْجارِ والأوْراقِ، ثُمَّ إلْهامُ النَّحْلِ إلى جَمْعِها بَعْدَ تَفْرِيقِها، وكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ دالَّةٌ عَلى أنَّ إلَهَ العالَمِ بَنى تَرْتِيبَهُ عَلى رِعايَةِ الحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":68,"ayahs":["وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِی مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا یَعۡرِشُونَ","ثُمَّ كُلِی مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ فَٱسۡلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلࣰاۚ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ"],"ayah":"ثُمَّ كُلِی مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ فَٱسۡلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلࣰاۚ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق