الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأسْقَيْناكُمُوهُ وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ أنْبَتَ في الأرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وجَعَلَ فِيها مَعايِشَ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ ما هو كالسَّبَبِ لِذَلِكَ فَقالَ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ . وهَذا هو النوع الرّابِعُ مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الخَزائِنُ جَمْعُ الخِزانَةِ، وهو اسْمُ المَكانِ الَّذِي يُخْزَنُ فِيهِ الشَّيْءُ أيْ: يُحْفَظُ والخِزانَةُ أيْضًا عَمَلُ الخازِنِ، ويُقالُ: خَزَنَ الشَّيْءَ يَخْزِنُهُ إذا أحْرَزَهُ في خِزانَةٍ، وعامَّةُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ هو المَطَرُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ هو السَّبَبُ لِلْأرْزاقِ ولِمَعايِشِ بَنِي آدَمَ وغَيْرِهِمْ مِنَ الطُّيُورِ والوُحُوشِ، فَلَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ يُعْطِيهِمُ المُعايِشَ بَيَّنَ أنَّ خَزائِنَ المَطَرِ الَّذِي هو سَبَبُ المَعايِشِ عِنْدَهُ، أيْ: في أمْرِهِ وحُكْمِهِ وتَدْبِيرِهِ، وقَوْلِهِ: ﴿وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَحِمَهُما اللَّهُ: يُرِيدُ قَدْرَ الكِفايَةِ، وقالَ الحكم: ما مِن عامٍ بِأكْثَرَ مَطَرًا مِن عامٍ آخَرَ، ولَكِنَّهُ يُمْطَرُ قَوْمٌ ويُحْرَمُ قَوْمٌ آخَرُونَ، ورُبَّما كانَ في البَحْرِ، يَعْنِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى يُنْزِلُ المَطَرَ كُلَّ عامٍ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، غَيْرَ أنَّهُ يَصْرِفُهُ إلى مَن يَشاءُ حَيْثُ شاءَ كَما شاءَ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَفْظُ الآيَةِ لا يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى، فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُنْزِلُهُ في جَمِيعِ الأعْوامِ عَلى قَدْرٍ واحِدٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ تَفْسِيرُ الآيَةِ بِهَذا المَعْنى تَحَكُّمًا مِن غَيْرِ دَلِيلٍ. وأقُولُ أيْضًا: تَخْصِيصُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ بِالمَطَرِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ الأشْياءِ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وهو المَوْجُودُ القَدِيمُ الواجِبُ لِذاتِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِ تِلْكَ الأشْياءِ مَقْدُورَةً لَهُ تَعالى. وحاصِلُ الأمْرِ فِيهِ أنَّ المُرادَ أنَّ جَمِيعَ المُمْكِناتِ مَقْدُورَةٌ لَهُ، ومَمْلُوكَةٌ يُخْرِجُها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ كَيْفَ شاءَ إلّا أنَّهُ تَعالى وإنْ كانَتْ مَقْدُوراتُهُ غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ إلّا أنَّ الَّذِي يُخْرِجُهُ مِنها إلى الوُجُودِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَناهِيًا؛ لِأنَّ دُخُولَ ما لا نِهايَةَ لَهُ في الوُجُودِ مُحالٌ فَقَوْلُهُ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِ مَقْدُوراتِهِ غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ وقَوْلُهُ: ﴿وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ ما يَدْخُلُ مِنها في الوُجُودِ فَهو مُتَناهٍ، ومَتى كانَ الخارِجُ مِنها إلى الوُجُودِ مُتَناهِيًا كانَ لا مَحالَةَ مُخْتَصًّا في الحُدُوثِ بِوَقْتٍ مُقَدَّرٍ مَعَ جَوازِ حُصُولِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ أوْ بَعْدَهُ بَدَلًا عَنْهُ، (p-١٣٩)وكانَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوازِ حُصُولِهِ في سائِرِ الأحْيازِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ الحَيِّزِ، وكانَ مُخْتَصًّا بِصِفاتٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ أنَّهُ كانَ يَجُوزُ في العَقْلِ حُصُولُ سائِرِ الصِّفاتِ بَدَلًا عَنْ تِلْكَ الصِّفاتِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ اخْتِصاصُ تِلْكَ الأشْياءِ المُتَناهِيَةِ بِذَلِكَ الوَقْتِ المُعَيَّنِ والحَيِّزِ المُعَيَّنِ، والصِّفاتِ المُعَيَّنَةِ بَدَلًا عَنْ أضْدادِها لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ لَوْلا القادِرُ المُخْتارُ الَّذِي خَصَّصَ تِلْكَ الأشْياءَ بِتِلْكَ الأحْوالِ الجائِزَةِ لامْتَنَعَ اخْتِصاصُها بِتِلْكَ الصِّفاتِ الجائِزَةِ، والمُرادُ مِنَ الإنْزالِ الإحْداثُ والإنْشاءُ والإبْداعُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٦] وقَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾ [الحَدِيدِ: ٢٥] واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ أنَّ المَعْدُومَ شَيْءٌ قالَ: لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الأشْياءِ خَزائِنُ، وأنْ تَكُونَ تِلْكَ الخَزائِنُ حاصِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن تِلْكَ الخَزائِنِ المَوْجُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى هي تِلْكَ المَوْجُوداتُ مِن حَيْثُ إنَّها مَوْجُودَةٌ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ الإحْداثُ والإبْداعُ والإنْشاءُ والتَّكْوِينُ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ حُصُولُ تِلْكَ الخَزائِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُتَقَدِّمًا عَلى حُدُوثِها ودُخُولِها في الوُجُودِ، وإذا بَطَلَ هَذا وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ تِلْكَ الذَّواتِ والحَقائِقَ والماهِيّاتِ كانَتْ مُتَقَرِّرَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، بِمَعْنى أنَّها كانَتْ ثابِتَةً مِن حَيْثُ إنَّها حَقائِقُ وماهِيّاتٌ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أنْزَلَ بَعْضَها أيْ: أخْرَجَ بَعْضَها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ. ولِقائِلٍ أنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لا شَكَّ أنَّ لَفْظَ الخَزائِنِ إنَّما ورَدَ هَهُنا عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ والتَّخْيِيلِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى إيجادِ تِلْكَ الأشْياءِ وتَكْوِينِها وإخْراجِها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ ؟ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلالُ، والمُباحَثاتُ الدَّقِيقَةُ باقِيَةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. أما قوله تَعالى: ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ﴾ فاعْلَمْ أنَّ هَذا هو النوع الخامِسُ مِن دَلائِلَ التَّوْحِيدِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في وصْفِ الرِّياحِ بِأنَّها لَواقِحُ. أقْوالٌ: القَوْلُ الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرِّياحُ لَواقِحُ لِلشَّجَرِ ولِلسَّحابِ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ، وأصْلُ هَذا مِن قَوْلِهِمْ: لَقِحَتِ النّاقَةُ وألْقَحَها الفَحْلُ إذا ألْقى الماءَ فِيها فَحَمَلَتْ، فَكَذَلِكَ الرِّياحُ جارِيَةٌ مَجْرى الفَحْلِ لِلسَّحابِ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرِّياحَ؛ لِتَلْقِيحِ السَّحابِ، فَتَحْمِلُ الماءَ وتَمُجُّهُ في السَّحابِ، ثُمَّ إنَّهُ يَعْصِرُ السَّحابَ ويُدِرُّهُ كَما تُدِرُّ اللِّقْحَةُ، فَهَذا هو تَفْسِيرُ إلْقاحِها لِلسَّحابِ، وأمّا تَفْسِيرُ إلْقاحِها لِلشَّجَرِ فَما ذَكَرُوهُ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قالَ ﴿لَواقِحَ﴾ وهي مُلَقَّحَةٌ ؟ والجَوابُ: ما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو عُبَيْدَةَ أنَّ (لَواقِحَ) هَهُنا بِمَعْنى مَلاقِحَ جَمْعُ مُلَقَّحَةٍ، وأنْشَدَ لِسُهَيْلٍ يَرْثِي أخاهُ: ؎لَبَّيْكَ يَزِيدُ يائِسٌ ذُو ضَراعَةٍ وأشْعَثُ مِمّا طَوَّحَتْهُ الطَّوائِحُ (p-١٤٠)أرادَ المَطُوحاتِ، وقَرَّرَ ابْنُ الأنْبارِيِّ ذَلِكَ فَقالَ: تَقُولُ العَرَبُ أبْقَلَ النَّبْتُ فَهو باقِلٌ يُرِيدُونَ هو مُبَقَّلٌ، وهَذا يَدُلُّ عَلى جَوازِ وُرُودِ لاقِحٍ عِبارَةً عَنْ مُلَقِّحٍ. والوجه الثّانِي: في الجَوابِ قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ لَها لَواقِحٌ وإنْ ألْقَحَتْ غَيْرَها؛ لِأنَّ مَعْناها النِّسْبَةُ وهو كَما يُقالُ: دِرْهَمٌ وازِنٌ، أيْ: ذُو وزْنٍ، ورامِحٌ وسائِفٌ، أيْ: ذُو رُمْحٍ وذُو سَيْفٍ قالَ الواحِدِيُّ: هَذا الجَوابُ لَيْسَ بِمُغْنٍ؛ لِأنَّهُ كانَ يَجِبُ أنْ يَصِحَّ اللّاقِحُ بِمَعْنى ذاتِ اللِّقاحِ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ اللّاقِحَ هو المَنسُوبُ إلى اللِّقْحَةِ، ومَن أفادَ غَيْرَهُ اللِّقْحَةَ فَلَهُ نِسْبَةٌ إلى اللِّقْحَةِ فَصَحَّ هَذا الجَوابُ واللَّهُ أعْلَمُ. والوجه الثّالِثُ: في الجَوابِ أنَّ الرِّيحَ في نَفْسِها لاقِحٌ وتَقْرِيرُهُ بِطَرِيقَيْنِ: الطَّرِيقُ الأوَّلُ: أنَّ الرِّيحَ حاصِلَةٌ لِلسَّحابِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إذا أقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا﴾ [الأعْرافِ: ٥٧] أيْ: حَمَلَتْ فَعَلى هَذا المَعْنى تَكُونُ الرِّيحُ لاقِحَةً، بِمَعْنى أنَّها حامِلَةٌ تَحْمِلُ السَّحابَ والماءَ. والطَّرِيقُ الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلرِّيحِ لَقِحَتْ إذا أتَتْ بِالخَيْرِ، كَما قِيلَ لَها عَقِيمٌ إذا لَمْ تَأْتِ بِالخَيْرِ، وهَذا كَما تَقُولُ العَرَبُ: قَدْ لَقِحَتِ الحَرْبُ، وقَدْ نَتَجَتْ ولَدًا أنْكَدَ يُشَبِّهُونَ ما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِن ضُرُوبِ الشَّرِّ بِما تَحْمِلُهُ النّاقَةُ فَكَذا هَهُنا واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: الرِّيحُ هَواءٌ مُتَحَرِّكٌ وحَرَكَةُ الهَواءِ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا لا بُدَّ لَهُ مِن سَبَبٍ، وذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ نَفْسُ كَوْنِهِ هَواءً ولا شَيْئًا مِن لَوازِمِ ذاتِهِ، وإلّا لَدامَتْ حَرَكَةُ الهَواءِ بِدَوامِ ذاتِهِ وذَلِكَ مُحالٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِتَحْرِيكِ الفاعِلِ المُخْتارِ، والأحْوالُ الَّتِي تَذْكُرُها الفَلاسِفَةُ في سَبَبِ حَرَكَةِ الهَواءِ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيحِ قَدْ حَكَيْناها في هَذا الكِتابِ مِرارًا فَأبْطَلْناها، وبَيَّنّا أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنها سَبَبًا لِحُدُوثِ الرِّياحِ، فَبَقِيَ أنْ يَكُونَ مُحَرِّكُها هو اللَّهُ سُبْحانَهُ. وأما قوله: ﴿فَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأسْقَيْناكُمُوهُ وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾ فَفِيهِ مَباحِثٌ: الأوَّلُ: أنَّ ماءَ المَطَرِ هَلْ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أوْ يَنْزِلُ مِن ماءِ السَّحابِ ؟ وبِتَقْدِيرِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّحابِ كَيْفَ أطْلَقَ اللَّهُ عَلى السَّحابِ لَفْظَ السَّماءِ ؟ وثانِيها: أنَّهُ لَيْسَ السَّبَبُ في حُدُوثِ المَطَرِ ما يَذْكُرُهُ الفَلاسِفَةُ بَلِ السَّبَبُ فِيهِ أنَّ الفاعِلَ المُخْتارَ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّحابِ إلى الأرْضِ لِغَرَضِ الإحْسانِ إلى العِبادِ كَما قالَ هَهُنا: ﴿فَأسْقَيْناكُمُوهُ﴾ قالَ الأزْهَرِيُّ: تَقُولُ العَرَبُ لِكُلِّ ما كانَ في بُطُونِ الأنْعامِ ومِنَ السَّماءِ أوْ نَهْرٍ يَجْرِي أسْقَيْتُهُ أيْ: جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وجَعَلْتُ لَهُ مِنها مَسْقًى، فَإذا كانَتِ السُّقْيا لِسَقْيِهِ قالُوا: سَقاهُ، ولَمْ يَقُولُوا: أسْقاهُ. والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا اخْتِلافُ القُرّاءِ في قَوْلِهِ: ﴿نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ﴾ [النَّحْلِ: ٦٦] فَقَرَأُوا بِاللُّغَتَيْنِ، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في قَوْلِهِ: ﴿وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنْسانِ: ٢١] وفي قَوْلِهِ: ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشُّعَراءِ: ٧٩] قالَ أبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حَتّى رُوِيَ، وأسْقَيْتُهُ نَهْرًا، أيْ: جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ وقَوْلَهُ: ﴿فَأسْقَيْناكُمُوهُ﴾ أيْ: جَعَلْناهُ سَقْيًا لَكم، ورُبَّما قالُوا في أسْقى سَقى، كَقَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ سَحابًا: ؎أقُولُ وصَوْبُهُ مِنِّي بَعِيدٌ ∗∗∗ يَحُطُّ السَّيْبُ مِن قُلَلِ الجِبالِ ؎سَقى قَوْمِي بَنِي نَجْدٍ وأسْقى ∗∗∗ نُمَيْرًا والقَبائِلَ مِن هِلالِ (p-١٤١)فَقَوْلُهُ: سَقى قَوْمِي لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ ما يَرْوِي عِطاشَهم، ولَكِنْ يُرِيدُ رِزْقَهم سُقْيًا لِبِلادٍ هم يُخَصِّبُونَ بِها، وبَعِيدٌ أنْ يَسْألَ لِقَوْمِهِ ما يَرْوِي العِطاشَ ولِغَيْرِهِمْ ما يُخَصِّبُونَ بِهِ. وأمّا سُقْيا السُّقْيَةِ فَلا يُقالُ فِيها أسْقاهُ، وأمّا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: ؎وأسْقِيهِ حَتّى كادَ مِمّا أبُّنُهُ ∗∗∗ تُكَلِّمُنِي أحْجارُهُ ومَلاعِبُهُ فَمَعْنى أسْقِيهِ أدْعُو لَهُ بِالسِّقاءِ، وأقُولُ سَقاهُ اللَّهُ وقَوْلُهُ: ﴿وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾ يَعْنِي بِهِ ذَلِكَ الماءَ المُنَزَّلَ مِنَ السَّماءِ يَعْنِي: لَسْتُمْ لَهُ بِحافِظِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب