الباحث القرآني

(واخْتَلَفُوا) فِي: ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ﴾ فَقَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِضَمِّ الزايِ وكَسْرِ الياءِ مِن (زُيِّنَ) ورَفْعِ لامِ (قَتْلُ)، ونَصْبِ دالِ (أوْلادَهُمْ) وخَفْضِ هَمْزَةِ (شُرَكائِهِمْ) بِإضافَةِ (قَتْلُ) إلَيْهِ، وهو فاعِلٌ في المَعْنى، وقَدْ فَصَلَ بَيْنَ المُضافِ، وهو (قَتْلُ) وبَيْنَ (شُرَكائِهِمْ)، وهو المُضافُ إلَيْهِ بِالمَفْعُولِ، وهو (أوْلادَهُمْ)، وجُمْهُورُ نُحاةِ البَصْرِيِّينَ عَلى أنَّ هَذا لا يَجُوزُ إلّا في ضَرُورَةِ الشِعْرِ، وتُكُلِّمَ في هَذِهِ القِراءَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَتّى قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: والَّذِي حَمَلَهُ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ رَأى في بَعْضِ المَصاحِفِ (شُرَكائِهِمْ) مَكْتُوبًا بِالياءِ، ولَوْ قَرَأ بِجَرِّ (الأوْلادِ والشُرَكاءِ) لِأنَّ الأوْلادَ شُرَكاؤُهم في أمْوالِهِمْ لَوَجَدَ في ذَلِكَ مَندُوحَةً. (قُلْتُ): والحَقُّ في غَيْرِ ما قالَهُ الزَمَخْشَرِيُّ ونَعُوذُ بِاللَهِ مِن قِراءَةِ القُرْآنِ بِالرَأْيِ والتَشَهِّي وهَلْ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ القِراءَةُ بِما يَجِدُ في الكِتابَةِ مِن غَيْرِ نَقْلٍ ؟ بَلِ الصَوابُ جَوازُ مِثْلِ هَذا الفَصْلِ، وهو الفَصْلُ بَيْنَ المَصْدَرِ وفاعِلِهِ المُضافِ إلَيْهِ بِالمَفْعُولِ في الفَصِيحِ الشائِعِ الذائِعِ اخْتِيارًا، ولا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِضَرُورَةِ الشِعْرِ ويَكْفِي في ذَلِكَ دَلِيلًا هَذِهِ القِراءَةُ الصَحِيحَةُ المَشْهُورَةُ الَّتِي بَلَغَتِ التَواتُرَ كَيْفَ وقارِئُها ابْنُ عامِرٍ مِن كِبارِ التابِعِينَ الَّذِينَ أخَذُوا عَنِ الصَحابَةِ كَعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ وأبِي الدَرْداءِ - رَضِيَ اللَهُ عَنْهُما -، وهو مَعَ ذَلِكَ عَرَبِيٌّ صَرِيحٌ مِن صَمِيمِ العَرَبِ فَكَلامُهُ حَجَّةٌ وقَوْلُهُ دَلِيلٌ لِأنَّهُ كانَ قَبْلَ أنْ يُوجَدَ اللَحْنُ ويُتَكَلَّمَ بِهِ فَكَيْفَ، وقَدْ قَرَأ بِما تَلَقّى وتَلَقَّنَ، ورَوى وسَمِعَ ورَأى إذْ كانَتْ كَذَلِكَ في المُصْحَفِ العُثْمانِيِّ المُجْمَعِ عَلى اتِّباعِهِ وأنا (p-٢٦٤)رَأيْتُها فِيهِ كَذَلِكَ مَعَ أنَّ قارِئَها لَمْ يَكُنْ خامِلًا، ولا غَيْرَ مُتَّبَعٍ، ولا في طَرَفٍ مِنَ الأطْرافِ لَيْسَ عِنْدَهُ مَن يُنْكِرُ عَلَيْهِ إذا خَرَجَ عَنِ الصَوابِ، فَقَدْ كانَ في مِثْلِ دِمَشْقَ الَّتِي هي إذْ ذاكَ دارُ الخِلافَةِ، وفِيهِ المُلْكُ والمَأْتى إلَيْها مِن أقْطارِ الأرْضِ في زَمَنِ خَلِيفَةٍ هو أعْدَلُ الخُلَفاءِ وأفْضَلُهم بَعْدَ الصَحابَةِ الإمامُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ - رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ - أحَدُ المُجْتَهِدِينَ المُتَّبَعِينَ المُقْتَدى بِهِمْ مِنَ الخُلَفاءِ الراشِدِينَ، وهَذا الإمامُ القارِئُ أعْنِي ابْنَ عامِرٍ مُقَلَّدٌ في هَذا الزَمَنِ الصالِحِ قَضاءَ دِمَشْقَ ومَشْيَخَتَها، وإمامَةَ جامِعِها الأعْظَمِ الجامِعِ الأُمَوِيِّ أحَدِ عَجائِبِ الدُنْيا، والوُفُودُ بِهِ مِن أقْطارِ الأرْضِ لِمَحَلِّ الخِلافَةِ ودارِ الإمارَةِ، هَذا ودارُ الخِلافَةِ في الحَقِيقَةِ حِينَئِذٍ بَعْضُ هَذا الجامِعِ لَيْسَ بَيْنَهُما سِوى بابٍ يَخْرُجُ مِنهُ الخَلِيفَةُ ولَقَدْ بَلَغَنا عَنْ هَذا الإمامِ أنَّهُ كانَ في حَلْقَتِهِ أرْبَعُمِائَةِ عَرِيفٍ يَقُومُونَ عَنْهُ بِالقِراءَةِ، ولَمْ يَبْلُغْنا عَنْ أحَدٍ مِنَ السَلَفِ - رَضِيَ اللَهُ عَنْهم - عَلى اخْتِلافِ مَذاهِبِهِمْ وتَبايُنِ لُغاتِهِمْ وشِدَّةِ ورَعِهِمْ أنَّهُ أنْكَرَ عَلى ابْنِ عامِرٍ شَيْئًا مِن قِراءَتِهِ، ولا طَعَنَ فِيها، ولا أشارَ إلَيْها بِضَعْفٍ ولَقَدْ كانَ الناسُ بِدِمَشْقَ وسائِرِ بِلادِ الشامِ حَتّى الجَزِيرَةِ الفُراتِيَّةِ وأعْمالِها لا يَأْخُذُونَ إلّا بِقِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ، ولا زالَ الأمْرُ كَذَلِكَ إلى حُدُودِ الخَمْسِمِائَةِ. وأوَّلُ مَن نَعْلَمُهُ أنْكَرَ هَذِهِ القِراءَةَ، وغَيْرَها مِنَ القِراءَةِ الصَحِيحَةِ ورَكِبَ هَذا المَحْذُورَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَبَرِيُّ بَعْدَ الثَلاثِمِائَةٍ، وقَدْ عُدَّ ذَلِكَ مِن سَقَطاتِ ابْنِ جَرِيرٍ حَتّى قالَ السَخاوِيُّ: قالَ لِي شَيْخُنا أبُو القاسِمِ الشاطِبِيُّ: إيّاكَ وطَعْنَ ابْنِ جَرِيرٍ عَلى ابْنِ عامِرٍ، ولِلَّهِ دَرُّ إمامِ النُحاةِ أبِي عَبْدِ اللَهِ بْنِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَهُ حَيْثُ قالَ في كافِيَتِهِ الشافِيَةِ: ؎ وحُجَّتِي قِراءَةُ ابْنِ عامِرِ ∗∗∗ فَكَمْ لَها مَن عاضِدٍ وناصِرِ وَهَذا الفَصْلُ الَّذِي ورَدَ في هَذِهِ القِراءَةِ فَهو مَنقُولٌ مِن كَلامِ العَرَبِ مِن فَصِيحِ كَلامِهِمْ جَيِّدٌ مِن جِهَةِ المَعْنى أيْضًا. أمّا وُرُودُهُ في كَلامِ العَرَبِ فَقَدْ ورَدَ في أشْعارِهِمْ كَثِيرًا، أنْشَدَ مِن ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ والأخْفَشُ وأبُو عُبَيْدَةَ وثَعْلَبٌ، وغَيْرُهم ما لا يُنْكَرُ، مِمّا يَخْرُجُ بِهِ كِتابُنا عَنِ المَقْصُودِ، وقَدْ صَحَّ مِن كَلامِ رَسُولِ اللَهِ ﷺ (p-٢٦٥)" «فَهَلْ أنْتُمْ تارِكُو لِي صاحِبِي » " فَفَصَلَ بِالجارِّ والمَجْرُورِ بَيْنَ اسْمِ الفاعِلِ ومَفْعُولِهِ مَعَ ما فِيهِ مِن الضَمِيرِ المَنوِيِّ، فَفَصْلُ المَصْدَرِ بِخُلُوِّهِ مِنَ الضَمِيرِ - أوْلى بِالجَوازِ، وقُرِئَ (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَهَ مُخْلِفَ وعْدَهُ رُسُلِهِ). وَأمّا قُوَّتُهُ مِن جِهَةِ المَعْنى، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مالِكٍ ذَلِكَ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: (أحَدُها): كَوْنُ الفاصِلِ فَضْلَةً فَإنَّهُ لِذَلِكَ صالِحٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِهِ. (الثانِي): أنَّهُ غَيْرُ أجْنَبِيٍّ مَعْنًى لِأنَّهُ مَعْمُولٌ لِلْمُضافِ وهو المَصْدَرُ. (الثالِثُ): أنَّ الفاصِلَ مُقَدَّرُ التَأْخِيرِ لِأنَّ المُضافَ إلَيْهِ مُقَدَّمُ التَقْدِيمِ لِأنَّهُ فاعِلٌ في المَعْنى حَتّى إنَّ العَرَبَ لَوْ لَمْ تَسْتَعْمِلْ مِثْلَ هَذا الفَصْلِ لاقْتَضى القِياسُ اسْتِعْمالَهُ لِأنَّهم قَدْ فَصَلُوا في الشِعْرِ بِالأجْنَبِيِّ كَثِيرًا فاسْتَحَقَّ بِغَيْرِ أجْنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ فَيُحْكَمُ بِجَوازِهِ مُطْلَقًا، وإذا كانُوا قَدْ فَصَلُوا بَيْنَ المُضافَيْنِ بِالجُمْلَةِ في قَوْلِ بَعْضِ العَرَبِ: هو غُلامُ - إنْ شاءَ اللَهُ - أخِيكَ، فالفَصْلُ بِالمُفْرَدِ أسْهَلُ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ القِراءَةَ قَدْ كانُوا يُحافِظُونَ عَلَيْها، ولا يَرَوْنَ غَيْرَها، قالَ ابْنُ ذَكْوانَ: (شُرَكائِهِمْ) بِياءٍ ثابِتَةٍ في الكِتابِ والقِراءَةِ قالَ: وأخْبَرَنِي أيُّوبُ يَعْنِي ابْنَ تَمِيمٍ شَيْخَهُ قالَ: قَرَأْتُ عَلى أبِي عَبْدِ المَلِكِ قاضِي الجُنْدِ ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ﴾ قالَ أيُّوبُ: فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ في مُصْحَفِي وكانَ قَدِيمًا (شُرَكائِهِمْ) فَمَحى أبُو عَبْدِ المَلِكِ الياءَ وجَعَلَ مَكانَ الياءِ واوًا، وقالَ أيُّوبُ: ثُمَّ قَرَأْتُ عَلى يَحْيى بْنِ الحارِثِ شُرَكاؤُهم فَرَدَّ عَلى يَحْيى (شُرَكائِهِمْ) فَقُلْتُ لَهُ: إنَّهُ كانَ في مُصْحَفِي بِالياءِ فَحُكَّتْ وجُعِلَتْ واوًا فَقالَ يَحْيى: أنْتَ رَجْلٌ مَحَوْتَ الصَوابَ وكَتَبْتَ الخَطَأ فَرَدَدْتُها في المُصْحَفِ عَلى الأمْرِ الأوَّلِ، وقَرَأ الباقُونَ زَيَّنَ بِفَتْحِ الزايِ والياءِ قَتْلَ بِنَصْبِ اللامِ أوْلادِهِمْ بِخَفْضِ الدالِ شُرَكاؤُهم بِرَفْعِ الهَمْزَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب