قوله تعالى: {مِن قَبْلُ} : متعلِّقٌ بأَنْزَل، والمضافُ إليه الظرفُ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرهُ: مِنْ قبلِك ِأو من قبلِ الكتاب. والكتابُ غَلَب على القرآن كالثريا. وهو في الأصْلِ مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي: المكتوبَ، وذكَر المنزَّلَ في قوله «نَزَّل عليك» ولم يذكره في قوله: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} تشريفاً لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: {هُدًى} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ من أجله، والعاملُ فيه أنْزَل أي: أَنْزَلَ هذين الكتابين لأجلِ هداية. ويجوز أن يكونَ متعلقاً من حيث المعنى بنَزَّلَ وأنزل معاً، وتكونُ المسألةُ من بابِ التنازع على إعمال الثاني، والحذفُ من الأولِ تقديرُه: نَزَّلَ عليك له أي: للهدى، فَحَذَفَه، ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بالفعلين معاً تعلُّقاً صناعياً لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علةً للفعلين معاً، كما تقول: «أكرمْتُ زيداً وضربْتُ عمراً إكراماً لك» يعني أن الإكرام علةٌ للإِكرامِ وللضرب.
والثاني: ان ينتصِبَ على الحالِ من التوراةِ والانجيلِ، ولم يُثنَّ لأنه مصدرٌ وفيه الأوجُه المشهورةُ من حَذْف المضافِ أي: ذوي هدىً أو على المبالغةِ بأَن جُعِلا نفسَ الهُدَى أو على جَعْلِهما بمعنى هاديين. وقيل: إنه حال من الكتاب والتوارة والإِنجيل، وقيل: حالٌ من الإِنجيل فقط وحُذِف مِمَّا قبله لدلالة هذا عليه. وقال بعضُهم: تَمَّ الكلامُ عند قولِه تعالى: {مِن قَبْلُ} فَيُوقَفُ عليه ويُبْتَدَأُ قولِه {هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان} أي: وأَنْزَل الفرقانَ هدىً للناس. وهذا التقديرُ غيرُ صحيحٍ لأنه يُؤدِّي إلى تقديم المعمولِ على حرفِ النسقِ وهو ممتنعٌ، لو قلت: «قام زيد مكتوفةً وضُرِبَتْ هندٌ» تعني: «وضُرِبَت هند مكتوفةً» لم يَصِحَّ البتة فكذلك هذا.
قوله: {لِّلنَّاسِ} يُحْتمل أن يتعلَّقَ بنفسِ «هُدَى» لأنَّ هذه المادة تتعدَّى باللامِ كقولِه تعالى: {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لهدىً.
قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} يُحْتَمل أن يرادَ به جميعُ الكتب السماوية، ولم يُجمع لأنه مصدرٌ بمعنى الفَرْق كالغفران والكفران، وهو يَحْتملُ أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع الفاعلِ أو المفعول والأولُ أظهرُ. وقال الزمخشري: «أو كَرَّر/ ذِكْرَ القران بما هو نعتٌ له ومُدِحَ مِنْ كونِه فارقاً بين الحقِّ والباطل بعد ما ذكَره باسم الجنس تعظيماً لشأنِه وإظهاراً لفضلِه» . قلت: قد يعتقد معتقدٌ أنّ في كلامِه هذا رَدَّاً لقولِه الأول حيث قال: «إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم و» أنزل «يقتضي الإنزال الدَّفْعيَّ، لأنه جَوَّز أن يُراد بالفرقان القرآنُ، وقد جاء معه» أنزل «، ولكن لا ينبغي أَنْ يُعْتَقد ذلك لأنه لم يَقُل: إنَّ» أَنْزل «للإِنزال الدفعيِّ فقط، بل يقول إن» نَزَّل «بالتشديد يقتضي التفريق و» أَنْزل «يحتمل ذلك ويَحْتمل الإنزالَ الدفعيَّ.
قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} يَحْتمل أنْ يرتفع» عذابٌ «بالفاعليةِ بالجارِّ قبلَه لوقوعه خبراً عن» إنَّ «، ويُحْتمل أن يرتفع على الابتداء، والجملةُ خبرٌ» إنَّ «والأولُ أَوْلَى، لأنه من قبيلِ الإِخبار بما يَقْرُبُ من المفردات. وانتقام: افتعال من النِّقْمة وهي السَّطْوَةُ والتسلطُ، ولذلك عَبَّر بعضُهم عنها بالمعاقبة يقال: نَقَم ونَقِمَ، بالفتح وهو الأفصحُ وبالكسرِ، وقد قُرىء بهما، وسيأتي مزيدٌ بيانٍ في المائدة.
{"ayah":"مِن قَبۡلُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۗ وَٱللَّهُ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامٍ"}