الباحث القرآني

﴿مِن قَبْلُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِ ﴿وأنْزَلَ﴾ أيْ أنْزَلَهُما مِن قَبْلِ تَنْزِيلِ الكِتابِ، وقِيلَ: مِن قَبْلِكَ والتَّصْرِيحُ بِهِ مَعَ ظُهُورِ الأمْرِ لِلْمُبالَغَةِ في البَيانِ كَذا قالُوا بِرُمَّتِهِمْ، وأنا أقُولُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِلرَّمْزِ إلى أنَّ إنْزالَهُما مُتَضَمِّنٌ لِلْإرْهاصِ لِبَعْثَتِهِ ﷺ حَيْثُ قَيَّدَ الإنْزالَ المُقَيَّدَ بِمَن قَبْلُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿هُدًى لِلنّاسِ﴾ أيْ أنْزَلَهُما كَذَلِكَ لِأجْلِ هِدايَةِ النّاسِ الَّذِينَ أُنْزِلا عَلَيْهِمْ إلى الحَقِّ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ الإيمانُ بِهِ ﷺ واتِّباعُهُ حَيْثُ يَبْعَثُ لِما اِشْتَمَلَتا عَلَيْهِ مِنَ البِشارَةِ بِهِ والحَثِّ عَلى طاعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والهِدايَةِ بِهِما بَعْدَ نَسْخِ أحْكامِهِما بِالقُرْآنِ إنَّما هي مِن هَذا الوَجْهِ لا غَيْرَ، والقَوْلُ بِأنَّهُ يُهْتَدى بِهِما أيْضًا فِيما عَدا الشَّرائِعِ المَنسُوخَةِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُصَدِّقُها القُرْآنُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ الهِدايَةَ إذْ ذاكَ بِالقُرْآنِ المُصَدِّقِ لا بِهِما كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ، ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ (هُدًى) عَلى أنَّهُ حالٌ مِنهُما والإفْرادُ لِما أنَّهُ مَصْدَرٌ جَعَلا نَفْسَ الهُدى مُبالَغَةً أوْ حُذِفَ مِنهُ المُضافُ أيْ ذَوِي هُدًى، وجَعْلُهُ حالًا مِن ”الكِتابِ“ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُرْتَكَبَ فِيهِ. ﴿وأنْزَلَ الفُرْقانَ﴾ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ القُرْآنُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ فَأحَلَّ فِيهِ حَلالَهُ وحَرَّمَ حَرامَهُ وشَرَعَ شَرائِعَهُ وحَدَّ حُدُودَهُ وفَرائِضَهُ وبَيَّنَ بَيانَهُ وأمَرَ بِطاعَتِهِ ونَهى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وذَكَرَ بِهَذا العُنْوانِ بَعْدَ ذِكْرِهِ بِاسْمِ الجِنْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ورَفْعًا لِمَكانِهِ، وأخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ الفاصِلُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ فِيما اِخْتَلَفَ فِيهِ الأحْزابُ مِن أمْرِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وغَيْرِهِ، وأُيِّدَ هَذا بِأنَّ صَدْرَ السُّورَةِ كَما قَدَّمْنا نَزَلَتْ في مُحاجَّةِ النَّصارى لِلنَّبِيِّ ﷺ في أمْرِ أخِيهِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وعَلَيْهِ يَكُونُ المُرادُ بِالفُرْقانِ بَعْضَ القُرْآنِ ولَمْ يُكْتَفَ بِانْدِراجِهِ في ضِمْنِ الكُلِّ اِعْتِناءً بِهِ، ومِثْلُ هَذا القَوْلِ ما رُوِيَ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: أنَّ المُرادَ بِهِ كُلُّ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ جِنْسُ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ عَبَّرَ عَنْها بِوَصْفٍ شامِلٍ لِما ذَكَرَ مِنها وما لَمْ يَذْكُرْ عَلى طَرِيقِ التَّتْمِيمِ بِالتَّعْمِيمِ إثْرَ تَخْصِيصِ بَعْضِ مَشاهِيرِها بِالذِّكْرِ، وقِيلَ: نَفْسُ الكُتُبِ المَذْكُورَةِ أُعِيدَ ذِكْرُها بِوَصْفٍ خاصٍّ لَمْ يُذْكَرْ فِيما سَبَقَ عَلى طَرِيقِ العَطْفِ بِتَكْرِيرِ لَفْظِ الإنْزالِ تَنْزِيلًا لِلتَّغايُرِ الوَصْفِيِّ مَنزِلَةَ التَّغايُرِ الذّاتِيِّ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الزَّبُورُ وتَقْدِيمُ الإنْجِيلِ عَلَيْهِ مَعَ تَأخُّرِهِ عَنْهُ نُزُولًا لِقُوَّةِ مُناسَبَتِهِ لِلتَّوْراةِ في الِاشْتِمالِ عَلى الأحْكامِ وشُيُوعِ اِقْتِرانِهِما في الذِّكْرِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ الزَّبُورَ مَواعِظُ فَلَيْسَ فِيهِ ما يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ مِنَ الأحْكامِ، وأُجِيبَ بِأنَّ المَواعِظَ لِما فِيها مِنَ الزَّجْرِ والتَّرْغِيبِ فارِقَةٌ أيْضًا ولِخَفاءِ الفَرْقِ فِيها خُصَّتْ بِالتَّوْصِيفِ بِهِ، وأُورِدُ عَلَيْهِ بِأنَّ ذِكْرَ الوَصْفِ دُونَ المَوْصُوفِ يَقْتَضِي شُهْرَتَهُ بِهِ حَتّى يُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ مَوْصُوفِهِ والخَفاءُ إنَّما يَقْتَضِي إثْباتَ الوَصْفِ دُونَ التَّعْبِيرِ بِهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ المُعْجِزاتُ المَقْرُونَةُ بِإنْزالِ الكُتُبِ المَذْكُورَةِ الفارِقَةِ بَيْنَ المُحِقِّ (p-78)والمُبْطِلِ، وعَلى أيٌّ تَقْدِيرٍ كانَ فَهو مَصْدَرٌ في الأصْلِ كالغُفْرانِ أُطْلِقَ عَلى الفاعِلِ مُبالَغَةً. ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الإضافَةُ لِلْعَهْدِ إشارَةً إلى ما تَقَدَّمَ مِن آياتِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَتُصَدِّقَ الآياتُ عَلى ما يَتَحَقَّقُ في ضِمْنِ ما تَقَدَّمَ وعَلى غَيْرِهِ كالمُعْجِزاتِ، وأضافَها إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ تَعْيِينًا لِحَيْثِيَّةِ كُفْرِهِمْ وتَهْوِيلًا لِأمْرِهِمْ وتَأْكِيدًا لِاسْتِحْقاقِهِمُ العَذابَ، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ إمّا مَن تَقَدَّمَ في سَبَبِ النُّزُولِ أوْ أهْلُ الكِتابَيْنِ أوْ جِنْسُ الكَفَرَةِ وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ يَدْخُلُ أُولَئِكَ فِيهِ دُخُولًا أوَّلِيًّا ﴿لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ اِبْتِداءٌ وخَبَرٌ في مَوْضِعِ خَبَرِ إنَّ، ويَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعَ العَذابُ بِالظَّرْفِ والتَّنْكِيرِ لِلتَّفْخِيمِ فَفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يُقَدَّرُ قَدْرَهُ وهو مَناطُ الحَصْرِ المُسْتَفادِ مِن تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، والتَّعْلِيقُ بِالمَوْصُولِ الَّذِي هو في حُكْمِ المُشْتَقِّ يُشْعِرُ بِالعِلِيَّةِ وهو مَعْنى تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ وتَرَكَ فِيهِ الفاءَ لِظُهُورِهِ فَهو أبْلَغُ إذا اِقْتَضاهُ المَقامُ. ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ﴾ أيْ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ ﴿ذُو انْتِقامٍ﴾ [ 4 ] اِفْتِعالٌ مِنَ النِّقْمَةِ وهي السَّطْوَةُ والتَّسَلُّطُ، يُقالُ: اِنْتَقَمَ مِنهُ إذا عاقَبَهُ بِجِنايَتِهِ، ومُجَرَّدُهُ نَقِمَ بِالفَتْحِ والكَسْرِ وجَعَلَهُ بَعْضُهم بِمَعْنى كَرِهَ لا غَيْرَ والتَّنْوِينُ لِلتَّفْخِيمِ، واخْتارَ هَذا التَّرْكِيبَ عَلى مُنْتَقِمٍ مَعَ اِخْتِصارِهِ لِأنَّهُ أبْلَغَ مِنهُ إذْ لا يُقالُ صاحِبُ سَيْفٍ إلّا لِمَن يُكْثِرُ القَتْلَ لا لِمَن مَعَهُ السَّيْفُ مُطْلَقًا، والجُمْلَةُ اِعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِلْوَعِيدِ مُؤَكِّدٌ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب