الباحث القرآني
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ (الكِتابَ) هُنا: القُرْآنُ، بِاتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ، وتَكَرَّرَ كَثِيرًا، والمُرادُ القُرْآنُ، فَصارَ عِلْمًا، بِالغَلَبَةِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ (نَزَّلَ) مُشَدَّدًا و(الكِتابَ) بِالنَّصْبِ، وقَرَأ النَّخَعِيُّ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ (نَزَلَ) مُخَفَّفًا، و(الكِتابُ) بِالرَّفْعِ، وفي هَذِهِ القِراءَةِ تَحْتَمِلُ الآيَةُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً، والثّانِي: أنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِما قَبْلَها، أيْ: نَزَلَ الكِتابُ عَلَيْكَ مِن عِنْدِهِ، وأتى هُنا بِذِكْرِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُهُ: (عَلَيْكَ) ولَمْ يَأْتِ بِذِكْرِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ التَّوْراةُ، ولا المُنَزَّلُ عَلَيْهِ الإنْجِيلُ، تَخْصِيصًا لَهُ وتَشْرِيفًا بِالذِّكْرِ، وجاءَ بِذِكْرِ الخِطابِ لِما في الخِطابِ مِنَ المُؤانَسَةِ، وأتى بِلَفْظَةِ: عَلى، لِما فِيها مِنِ الِاسْتِعْلاءِ، كَأنَّ الكِتابَ تَجَلَّلَهُ وتَغَشّاهُ ﷺ، ومَعْنى (بِالحَقِّ) بِالعَدْلِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: العَدْلُ فِيما اسْتَحَقَّهُ عَلَيْكَ مَن حَمْلِ أثْقالِ النُّبُوَّةِ، الثّانِي: بِالعَدْلِ فِيما اخْتَصَّكَ بِهِ مِن شَرَفِ النُّبُوَّةِ.
وقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيما اخْتُلِفَ فِيهِ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، وقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيما تَضَمَّنَهُ مِنَ الأخْبارِ عَنِ القُرُونِ الخالِيَةِ، وقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيما تَضَمَّنَهُ مِنَ الوَعْدِ بِالثَّوابِ عَلى الطّاعَةِ، ومِنَ الوَعِيدِ بِالعِقابِ عَلى المَعْصِيَةِ، وقِيلَ: مَعْنى (بِالحَقِّ) بِالحُجَجِ والبَراهِينِ القاطِعَةِ.
والباءُ تَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ أيْ: بِسَبَبِ إثْباتِ الحَقِّ، وتَحْتَمِلُ الحالَ، أيْ: مُحِقًّا نَحْوُ: خَرَجَ زَيْدٌ بِسِلاحِهِ، أيْ مُتَسَلِّحًا.
﴿مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أيْ: مِن كُتُبِ الأنْبِياءِ، وتَصْدِيقُهُ إيّاها أنَّها أخْبَرَتْ بِمَجِيئِهِ، ووُقُوعُ المُخْبَرِ بِهِ يَجْعَلُ المُخْبِرَ صادِقًا، وهو يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ القُرْآنِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ يُوافِقْها، قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ، وقِيلَ: المُرادُ مِنهُ أنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ، إلّا بِالدُّعاءِ إلى تَوْحِيدِهِ، والإيمانِ، وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، والأمْرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ، والشَّرائِعِ الَّتِي هي صَلاحُ أهْلِ كُلِّ زَمانٍ، فالقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِتِلْكَ الكُتُبِ في كُلِّ ذَلِكَ، والقُرْآنُ، وإنْ كانَ ناسِخًا لِشَرائِعِ أكْثَرِ الكُتُبِ، فَهي مُبَشِّرَةٌ بِالقُرْآنِ وبِالرَّسُولِ، ودالَّةٌ عَلى أنَّ أحْكامَها تَثْبُتُ إلى حِينِ بِعْثَةِ اللَّهِ تَعالى رَسُولَهُ ﷺ وأنَّها تَصِيرُ مَنسُوخَةً عِنْدَ نُزُولِ القُرْآنِ، فَقَدْ وافَقَتِ القُرْآنَ، وكانَ مُصَدِّقًا لَها؛ لِأنَّ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى ثُبُوتِ الإلَهِيَّةِ لا تَخْتَلِفُ. وانْتِصابُ (مُصَدِّقًا) عَلى الحالِ مِنَ (p-٣٧٨)الكِتابِ، وهي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وهي لازِمَةٌ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهو كَما قالَ:
؎أنا ابْنُ دارَةَ مَعْرُوفًا بِهِ نَسَبِي وهَلْ بِدارَةَ يا لِلنّاسِ مِن عارِ
وقِيلَ: انْتِصابُ (مُصَدِّقًا) عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن مَوْضِعِ (بِالحَقِّ) وقِيلَ: حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ، و(لِما) مُتَعَلِّقٌ بِـ (مُصَدِّقًا) واللّامُ لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ؛ إذْ: مُصَدِّقًا، يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ؛ لِأنَّ فِعْلَهُ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، والمَعْنى هُنا بِقَوْلِهِ ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ المُتَقَدِّمُ في الزَّمانِ، وأصْلُ هَذا أنْ يُقالَ لِما يَتَمَكَّنُ الإنْسانُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، كالشَّيْءِ الَّذِي يَحْتَوِي عَلَيْهِ، ويُقالُ: هو بَيْنَ يَدَيْهِ إذا كانَ قُدّامُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ.
﴿وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ مِن قَبْلُ﴾ فَخَّمَ راءَ (التَّوْراةَ) ابْنُ كَثِيرٍ وعاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ، وأضْجَعَها أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ، وقَرَأها بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ حَمْزَةُ ونافِعٌ، ورَوى المُسَيِّبِيُّ عَنْ نافِعٍ فَتْحَها، وقَرَأ الحَسَنُ (والأنْجِيلَ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أعْجَمِيٌّ؛ لِأنَّ أفْعِيلًا لَيْسَ مِن أبْنِيَةِ كَلامِ العَرَبِ، بِخِلافِ إفْعِيلٍ، فَإنَّهُ مَوْجُودٌ في أبْنِيَتِهِمْ: كَإخْرِيطٍ، وإصْلِيتٍ.
وتَعَلَّقَ (مِن قَبْلُ) بِقَوْلِهِ: (وأنْزَلَ) والمُضافُ إلَيْهِ المَحْذُوفُ هو الكِتابُ المَذْكُورُ، أيْ: مِن قَبْلُ الكِتابِ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ مِن قَبْلِكَ، فَيَكُونُ المَحْذُوفُ ضَمِيرَ الرَّسُولِ، وغايَرَ بَيْنَ نَزَّلَ وأنْزَلَ، وإنْ كانا بِمَعْنًى واحِدٍ؛ إذِ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَما أنَّ الهَمْزَةَ لِلتَّعْدِيَةِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: نَزَّلَ الكِتابَ، وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ ؟ قُلْتُ لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا، ونَزَلَ الكِتابانِ جُمْلَةً، انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلى هَذا القَوْلِ، وأنَّ التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ لا تَدُلُّ عَلى التَّكْثِيرِ، ولا التَّنْجِيمِ، وقَدْ جاءَ في القُرْآنِ: نَزَّلَ وأنْزَلَ، قالَ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ [النحل: ٤٤] و﴿وأنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ ويَدُلُّ عَلى أنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ قِراءَةُ مَن قَرَأ (ما كانَ مِمَّنْ يَنْزِلُ) مُشَدِّدًا بِالتَّخْفِيفِ، إلّا ما اسْتُثْنِيَ، فَلَوْ كانَ أحَدُهُما يَدُلُّ عَلى التَّنْجِيمِ، والآخَرُ يَدُلُّ عَلى النُّزُولِ دُفْعَةً واحِدَةً، لِتَناقُضِ الإخْبارِ، وهو مُحالٌ.
﴿هُدًى لِلنّاسِ﴾ قِيلَ: هو قَيْدٌ في الكِتابِ والتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، والظّاهِرُ أنَّهُ قَيْدٌ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، ولَمْ يُثَنَّ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، وقِيلَ: هو قَيْدٌ في الإنْجِيلِ وحْدَهُ، وحُذِفَ مِنَ التَّوْراةِ، ودَلَّ عَلَيْهِ هَذا القَوْلُ الَّذِي لِلْإنْجِيلِ وقِيلَ: تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (مِن قَبْلُ) ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقالَ: ﴿هُدًى لِلنّاسِ وأنْزَلَ الفُرْقانَ﴾ فَيَكُونُ الهُدى لِلْفُرْقانِ فَحَسْبُ، ويَكُونُ عَلى هَذا (الفُرْقانَ) القُرْآنَ، وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ (هُدًى) إذْ ذاكَ يَكُونُ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: (وأنْزَلَ الفُرْقانَ هُدًى) وما بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، مُجَرَّدَةً وضَرَبْتُ هِنْدًا، تُرِيدُ وضَرَبْتُ هِنْدًا مُجَرَّدَةً لَمْ يَجُزْ، وانْتِصابُهُ عَلى الحالِ، وقِيلَ: هو مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، والهُدى: هو البَيانُ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ أنَّ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ هُدًى بِالفِعْلِ، فَيَكُونُ النّاسُ هُنا مَخْصُوصًا، إذْ لَمْ تَقَعِ الهِدايَةُ لِكُلِّ النّاسِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أرادَ أنَّهُما هُدًى في ذاتِهِما، وأنَّهُما داعِيانِ لِلْهُدى، فَيَكُونُ النّاسُ عامًّا، أيْ: هُما مَنصُوبانِ وداعِيانِ لِمَنِ اهْتَدى بِهِما، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ وُقُوعُ الهِدايَةِ بِالفِعْلِ لِجَمِيعِ النّاسِ، وقِيلَ: النّاسُ قَوْمُ مُوسى وعِيسى، وقِيلَ: نَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِشَرائِعَ مَن قَبْلَنا، فالنّاسُ عامٌّ، قالَ الكَعْبِيُّ: هَذا يُبْطِلُ قَوْلَ مَن زَعَمَ أنَّ القُرْآنَ عَمِيٌّ عَلى الكافِرِ، ولَيْسَ هُدًى لَهُ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْنى ﴿وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: ٤٤] أنَّهم عِنْدَ نُزُولِهِ اخْتارُوا العَمى عَلى وجْهِ المَجازِ، لِقَوْلِ نُوحٍ: ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلّا فِرارًا﴾ [نوح: ٦] انْتَهى.
قِيلَ: وخَصَّ الهُدى بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ هُنا، وإنْ كانَ القُرْآنُ هُدًى؛ لِأنَّ المُناظَرَةَ كانَتْ مَعَ النَّصارى وهم لا يَهْتَدُونَ بِالقُرْآنِ، بَلْ وصَفَ بِأنَّهُ حَقٌّ في نَفْسِهِ، قَبِلُوهُ أوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، وأمّا التَّوْراةُ والإنْجِيلُ فَهم يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُما، فَلِذَلِكَ اخْتُصّا في الذِّكْرِ بِالهُدى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ هُنا لِلنّاسِ، وقالَ في القُرْآنِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ؛ لِأنَّ هَذا خَبَرٌ مُجَرَّدٌ، و(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) خَبَرٌ مُقْتَرِنٌ بِهِ الِاسْتِدْعاءُ، والصَّرْفُ إلى الإيمانِ، فَحَسُنَتِ الصِّفَةُ لِيَقَعَ مِنَ السّامِعِ النَّشاطُ والبِدارُ، وذَكَرَ الهُدى الَّذِي هو إيجادُ الهِدايَةِ في (p-٣٧٩)القَلْبِ، وهُنا إنَّما ذَكَرَ الهُدى الَّذِي هو الدُّعاءُ، أوِ الهُدى الَّذِي هو في نَفْسِهِ مُعَدٌّ أنْ يَهْتَدِيَ بِهِ النّاسُ، فَسُمِّيَ هُدًى بِذَلِكَ.
قالَ ابْنُ فُورَكَ: التَّقْدِيرُ هَنا هُدًى لِلنّاسِ المُتَّقِينَ، ويُرَدُّ هَذا العامُّ إلى ذَلِكَ الخاصِّ، وفي هَذا نَظَرٌ، انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، ومُلَخَّصُهُ: أنَّهُ غايَرَ بَيْنَ مَدْلُولَيِ الهُدى، فَحَيْثُ كانَ بِالفِعْلِ ذُكِرَ المُتَّقُونَ، وحَيْثُ كانَ بِمَعْنى الدُّعاءِ، أوْ بِمَعْنى أنَّهُ هُدًى في ذاتِهِ، ذُكِرَ العامُّ.
وأمّا المَوْضِعانِ فَكِلاهُما خَبَرٌ لا فَرْقَ في الخَبَرِيَّةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ .
﴿وأنْزَلَ الفُرْقانَ﴾ (الفُرْقانَ): جِنْسُ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ؛ لِأنَّها كُلَّها فُرْقانٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، مِن كُتُبِهِ أوْ مِن هَذِهِ الكُتُبِ، أوْ أرادَ الكِتابَ الرّابِعَ، وهو الزَّبُورُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ [النساء: ١٦٣] أوِ (الفُرْقانَ): القُرْآنُ، وكَرَّرَ ذِكْرَهُ بِما هو نَعْتٌ لَهُ ومَدْحٌ مِن كَوْنِهِ فارِقًا بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، بَعْدَما ذَكَرَهُ بِاسْمِ الجِنْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وإظْهارًا لِفَضْلِهِ، واخْتارَ هَذا القَوْلَ الأخِيرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قالَ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ: فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ في أمْرِ عِيسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، الَّذِي جادَلَ فِيهِ الوَفْدَ، وقالَ قَتادَةُ، والرَّبِيعُ، وغَيْرُهُما: فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ في أحْكامِ الشَّرائِعِ، وفي الحَلالِ والحَرامِ، ونَحْوِهِ، وقِيلَ: الفُرْقانُ: كُلُّ أمْرٍ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ فِيما قَدُمَ وحَدَثَ، فَدَخَلَ في هَذا التَّأْوِيلِ: طُوفانُ نُوحٍ، وفَرْقُ البَحْرِ لِغَرَقِ فِرْعَوْنَ، ويَوْمُ بَدْرٍ، وسائِرُ أفْعالِ اللَّهِ المُفَرِّقَةِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ وقِيلَ: (الفُرْقانَ) النَّصْرُ، وقالَ الرّازِيُّ: المُخْتارُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِـ (الفُرْقانَ) هُنا المُعْجِزاتِ الَّتِي قَرَنَها اللَّهُ بِإنْزالِ هَذِهِ الكُتُبِ؛ لِأنَّهم إذا ادَّعُوا أنَّها نازِلَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ افْتَقَرُوا إلى تَصْحِيحِ دَعْواهم بِالمُعْجِزاتِ، وكانَتْ هي الفُرْقانَ؛ لِأنَّها تُفَرِّقُ بَيْنَ دَعْوى الصّادِقِ والكاذِبِ، فَلَمّا ذَكَرَ أنَّهُ أنْزَلَها، أنْزَلَ مَعَها ما هو الفُرْقانُ، وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أنْزَلَ بِإنْزالِ القُرْآنِ الفَصْلَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ فِيما اخْتَلَفَ فِيهِ الأحْزابُ وأهْلُ المِلَلِ، وقِيلَ: (الفُرْقانَ) هُنا الأحْكامُ الَّتِي بَيَّنَها اللَّهُ لِيُفَرِّقَ بِها بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ.
فَهَذِهِ ثَمانِيَةُ أقْوالٍ في تَفْسِيرِ (الفُرْقانَ)، و(الفُرْقانَ) مَصْدَرٌ في الأصْلِ، وهَذِهِ التَّفاسِيرُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الفاعِلِ، أيِ: الفارِقُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ المَفْعُولُ أيِ: المَفْرُوقُ، قالَ تَعالى: ﴿وقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ﴾ [الإسراء: ١٠٦] .
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ لَمّا قَرَّرَ تَعالى أمْرَ الإلَهِيَّةِ، وأمْرَ النُّبُوَّةِ بِذِكْرِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، تَوَعَّدَ مَن كَفَرَ بِآياتِ اللَّهِ مِن كُتُبِهِ المُنَزَّلَةِ، وغَيْرِها، بِالعَذابِ الشَّدِيدِ مِن عَذابِ الدُّنْيا، كالقَتْلِ، والأسْرِ، والغَلَبَةِ، وعَذابِ الآخِرَةِ: كالنّارِ، و﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عامٌّ داخِلٌ فِيهِ مَن نَزَلَتِ الآياتُ بِسَبَبِهِمْ، وهم نَصارى وفْدِ نَجْرانَ، وقالَ النَّقّاشُ: إشارَةٌ إلى كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، وكَعْبِ بْنِ أسَدٍ، وبَنِي أخْطَبَ وغَيْرِهِمْ.
﴿واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ أيْ: مُمْتَنِعٌ أوْ غالِبٌ لا يُغْلَبُ، أوْ مُنْتَصِرٌ ذُو عُقُوبَةٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الوَصْفَ بِذُو أبْلَغُ مِنَ الوَصْفِ بِصاحِبٍ، ولِذَلِكَ لَمْ يَجِئْ في صِفاتِ اللَّهِ صاحِبٌ، وأشارَ بِالعِزَّةِ إلى القُدْرَةِ التّامَّةِ الَّتِي هي مِن صِفاتِ الذّاتِ، وأشارَ بِذِي انْتِقامٍ، إلى كَوْنِهِ فاعِلًا لِلْعِقابِ، وهي مِن صِفاتِ الفِعْلِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (ذُو انْتِقامٍ) لَهُ انْتِقامٌ شَدِيدٌ لا يَقْدِرُ عَلى مِثْلِهِ مُنْتَقِمٌ، انْتَهى. ولا يَدُلُّ عَلى هَذا الوَصْفِ لَفْظُ: ذُو انْتِقامٍ، إنَّما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مِن خارِجِ اللَّفْظِ.
{"ayahs_start":3,"ayahs":["نَزَّلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ","مِن قَبۡلُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۗ وَٱللَّهُ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامٍ"],"ayah":"مِن قَبۡلُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۗ وَٱللَّهُ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق