الباحث القرآني

﴿مِن قَبْلُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِأنْزَلَ، (p-5)أيْ: أنْزَلَهُما مِن قَبْلِ تَنْزِيلِ الكِتابِ، والتَّصْرِيحُ بِهِ مَعَ ظُهُورِ الأمْرِ لِلْمُبالَغَةِ في البَيانِ. ﴿هُدًى لِلنّاسِ﴾ في حَيِّزِ النَّصْبِ عَلى أنَّهُ عِلَّةٌ لِلْإنْزالِ، أيْ: أنْزَلَهُما لِهِدايَةِ النّاسِ أوْ عَلى أنَّهُ حالٌ مِنهُما، أيْ: أنْزَلَهُما حالَ كَوْنِهِما هُدىً لَهم. والإفْرادُ لِما أنَّهُ مَصْدَرٌ جُعِلا نَفْسَ الهُدى مُبالَغَةً أوْ حُذِفَ مِنهُ المُضافُ، أيْ: ذَوَيْ هُدىً، ثُمَّ إنْ أُرِيدَ هِدايَتُهُما بِجَمِيعِ ما فِيهِما مِن حَيْثُ هو جَمِيعٌ، فالمُرادُ بِالنّاسِ الأُمَمُ الماضِيَةُ مِن حِينِ نُزُولِهِما إلى زَمانِ نَسْخِهِما، وإنْ أُرِيدَ هِدايَتُهُما عَلى الإطْلاقِ - وهو الأنْسَبُ بِالمَقامِ - فالنّاسُ عَلى عُمُومِهِ لِما أنَّ هِدايَتَهُما بِما عَدَّ الشَّرائِعَ المَنسُوخَةَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُصَدِّقُهُما القرآن فِيها ومِن جُمْلَتِها البِشارَةُ بِنُزُولِهِ وبِمَبْعَثِ النَّبِيِّ ﷺ تَعُمُّ النّاسَ قاطِبَةً. ﴿وَأنْزَلَ الفُرْقانَ﴾ "الفُرْقانُ" في الأصْلِ مَصْدَرٌ كالغُفْرانِ، أُطْلِقَ عَلى الفاعِلِ مُبالَغَةً، والمُرادُ بِهِ: هَهُنا: إمّا جِنْسُ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، عُبِّرَ عَنْها بِوَصْفٍ شامِلٍ لِما ذَكَرَ مِنها وما لَمْ يَذْكُرْ عَلى طَرِيقِ التَّتْمِيمِ بِالتَّعْمِيمِ إثْرَ تَخْصِيصِ بَعْضِ مَشاهِيرِها بِالذِّكْرِ كَما في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَأنْبَتْنا فِيها حَبًّا﴾ ﴿وَعِنَبًا﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَفاكِهَةٍ﴾، وإمّا نَفْسُ الكُتُبِ المَذْكُورَةِ أُعِيدَ ذِكْرُها بِوَصْفٍ خاصٍّ لَمْ يُذْكَرْ فِيما سَبَقَ عَلى طَرِيقَةِ العَطْفِ بِتَكْرِيرِ لَفْظِ الإنْزالِ، تَنْزِيلًَا لِلتَّغايُرِ الوَصْفِيِّ مَنزِلَةَ التَّغايُرِ الذّاتِيِّ كَما في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَلَمّا جاءَ أمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا ونَجَّيْناهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ و إمّا الزَّبُورُ، فَإنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى المَواعِظِ الفارِقَةِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، الدّاعِيَةِ إلى الخَيْرِ والرَّشادِ، الزّاجِرَةِ عَنِ الشَّرِّ والفَسادِ، وتَقْدِيمُ الإنْجِيلِ عَلَيْهِ مَعَ تَأخُّرِهِ عَنْهُ نُزُولًَا لِقُوَّةِ مُناسَبَتِهِ لِلتَّوْراةِ في الِاشْتِمالِ عَلى الأحْكامِ والشَّرائِعِ، وشُيُوعِ اقْتِرانِهِما في الذِّكْرِ، و إمّا القرآن نَفْسُهُ، ذُكِرَ بِنَعْتٍ مادِحٍ لَهُ بَعْدَ ما ذُكِرَ بِاسْمِ الجِنْسِ تَعْظِيمًَا لِشَأْنِهِ، ورَفْعًَا لِمَكانِهِ، وقَدْ بَيَّنَ أوَّلًَا تَنْزِيلَهُ التَّدْرِيجِيَّ إلى الأرْضِ، وثانِيًَا إنْزالَهُ الدُّفَعِيَّ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، أوْ أُرِيدَ بِإنْزالِ القَدْرِ المُشْتَرَكِ العارِي عَنْ قَيْدِ التَّدْرِيجِ وعَدَمِهِ، و إمّا المُعْجِزاتُ المَقْرُونَةُ بِإنْزالِ الكُتُبِ المَذْكُورَةِ الفارِقَةِ بَيْنَ المُحَقِّ والمُبْطَلِ. ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ﴾ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ العائِدِ إلى ما فُصِّلَ مِنَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ أوْ مِنها، ومِنَ المُعْجِزاتِ وآياتٍ مُضافَةٍ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ تَعْيِينًَا لِحَيْثِيَّةِ كُفْرِهِمْ، وتَهْوِيلًَا لِأمْرِهِمْ، وتَأْكِيدًَا لِاسْتِحْقاقِهِمُ العَذابَ الشَّدِيدَ، وإيذانًَا بِأنَّ ذَلِكَ الِاسْتِحْقاقَ لا يُشْتَرَطُ فِيهِ الكُفْرُ بِالكُلِّ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ الكُفْرُ بِبَعْضٍ مِنها، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ: إمّا أهْلُ الكِتابَيْنِ وهو الأنْسَبُ بِمَقامِ المُحاجَّةِ مَعَهم أوْ جِنْسُ الكَفَرَةِ وهم داخِلُونَ فِيهِ دُخُولًَا أوَّلِيًَّا، أيْ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما ذُكِرَ مِن آياتِ اللَّهِ النّاطِقَةِ بِالحَقِّ، لاسِيَّما بِتَوْحِيدِهِ تَعالى وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ الجَلِيلِ، كُلًَّا أوْبَعْضًَا مَعَ ما بِها مِنَ النُّعُوتِ المُوجِبَةِ لِلْإيمانِ بِها بِأنْ كَذَّبُوا بِالقرآن أصالَةً وبِسائِرِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ تَبَعًَا، لِما أنَّ تَكْذِيبَ المُصَدِّقِ مُوجِبٌ لِتَكْذِيبِ ما يُصَدِّقُهُ حَتْمًَا وأصالَةً أيْضًَا بِأنْ كَذَّبُوا بِآياتِها النّاطِقَةِ بِالتَّوْحِيدِ والتَّنْزِيهِ، وآياتِها المُبَشِّرَةِ بِنُزُولِ القرآن ومَبْعَثِ النَّبِيِّ ﷺ وغَيَّرُوها. ﴿لَهُمْ﴾ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِها. ﴿عَذابٌ﴾ مُرْتَفِعٌ إمّا عَلى الفاعِلِيَّةِ مِنَ الجارِّ والمَجْرُورِ، أوْ عَلى الِابْتِداءِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ، والتَّنْوِينُ لِلتَّفْخِيمِ، أيْ: أيُّ عَذابٍ. ﴿شَدِيدٌ﴾ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ وهو وعِيدٌ جِئَ بِهِ إثْرَ تَقْرِيرِ أمْرِ التَّوْحِيدِ الذّاتِيِّ والوَصْفِيِّ والإشارَةِ إلى ما يَنْطِقُ بِذَلِكَ مِنَ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ حَمْلًَا عَلى القَبُولِ والإذْعانِ وزَجْرًَا عَنِ الكُفْرِ والعِصْيانِ. ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ﴾ لا يُغالَبُ، يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ. ﴿ذُو انْتِقامٍ﴾ عَظِيمٍ، خارِجٍ عَنْ أفْرادِ جِنْسِهِ وهو افْتِعالٌ مِنَ النِّقْمَةِ وهي السَّطْوَةُ والتَّسَلُّطُ، يُقالُ: انْتَقَمَ مِنهُ: إذا عاقَبَهُ بِجِنايَتِهِ. والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِلْوَعِيدِ (p-6)وَمُؤَكِّدٌ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب