قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ قال المفسرون: إن أهل فارس غلبوا أهل الروم ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: إن فارس ليست لهم كتب ونحن مثلهم، وقد غلبوا أهلَ الروم وهم أهل كتاب مثلكم، فنحن أيضًا نغلبكم كما غلبت فارس الروم [[أخرجه عبد الرزاق 2/ 101، عن مجاهد، وقتادة، والشعبي. وأخرجه ابن جرير 21/ 17، عن ابن عباس، وعكرمة، وعطاء، والشعبي. وأخرجه مقاتل عن عكرمة، "تفسير مقاتل" 75 ب. وذكره الثعلبي 8/ 164 أ، وصدره بقوله: قال المفسرون. ولم يسمهم.]].
وقال السدي: اقتتلت فارس والروم فغلبتهم فارس، ففخر أبو سفيان ابن حرب على المسلمين، وقال: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم الكتاب. فذلك قوله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [[أخرجه ابن جرير 21/ 16، عن ابن عباس، من طرق، وعن عكرمة، وقتادة. ولم أجد فيه رواية السدي. ولم أجده في تفسير السدي، جمع محمد عطا يوسف.]] وهم جيل من ولد الروم بن عيص بن إسحاق [[قال ابن دريد: الروم: جيل معروف. "جمهرة اللغة" 2/ 803. وفي "اللسان" 12/ 258 (روم): جيل معروف، واحدهم: رُومي، ينتمون إلى: عِيصو بن إسحاق النبي -عليه السلام-.]]، غلب اسم أبيهم عليهم، فصار كالاسم للقبيلة. وإن شئت قلت: جمع رومي منسوب إلى روم بن عيص، كما يقال: زِنجي وزنج، ونحو ذلك.
قال صاحب النظم: لا يحتمل قوله: ﴿الم﴾ هاهنا إلا أن يكون في معنى القسم، ويكون خبره في قوله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ على معنى: لقد غلبت، فلما أضمرت: قد، أضمرت معها: اللام، وقد مما يضمر، كقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: 90] وقول النابغة:
أَضْحَتْ خَلاءً وأضحى أهلُها احتمَلُوا [["ديوان النابغة" الذبياني ص 31، وعجزه:
أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
وفي الحاشية: أخنى عليها: غيرها وأفسدها، لبد: زعموا أنه نسر كان للقمان بن عاد عمر طويلًا.
قال البغدادي: هذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر، واعتذر إليه مما بلغه عنه. "خزانة الأدب" 4/ 5.]]
يعني: قد احتملوا.
ولما أضمر: قد، في الآية وهو موضع اللام أيضًا كقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: 106] فيقال لهم: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ أضمر الفاء معه؛ لأنه موضعه، وذلك أن جواب (أما) لا يكون إلا بالفاء، كما قال -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ﴾ [آل عمران: 107].
وقوله: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يريد الجزيرة [[لعل المراد بها: جزيرة أَقُور فإنها تسمى: الجزيرة؛ لأنها بين دجلة والفرات، مجاورة الشام. وقد أطال الحديث عنها ياقوت في "معجمه" 2/ 156. شمال غرب العراق، في المنطقة الفاصلة بين العراق وسوريا.]].
قال ابن أبي نجيح: هي الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس [[ذكره عنه الثعلبي 8/ 165 أ.]]. وعن ابن عباس أيضًا: طَرف الشام [[أخرجه ابن جرير 21/ 21، عن ابن عباس، وأخرج نحوه 21/ 16، عن ابن عمر. وذكره عن ابن عمر الفراء، "معاني القرآن" 2/ 319. قال الزجاج 4/ 175: وتأويله: أدنى الأرض من أرض العرب.]].
وقال مقاتل: هي الأردن وفلسطين. وعكرمة: أذرعات وكَسْكَر [[في "تفسير مقاتل" 75 ب: أذرعات، عن عكرمة. وفي: 77 أ: الأردن وفلسطين. وليس فيه ذكر: كسكر. لكن ذكره عن عكرمة الثعلبي 8/ 165 أ. وأخرج ابن جرير 21/ 18، عن عطاء وعكرمة، أنها: أذرعات. وأَذْرعات: بلد في أطراف الشام، يجاور أرض البلقاء وعَمَّان. "معجم البلدان" 1/ 158. و: كَسْكَر: تعريف ياقوت لها يدل على أنها مدينة بين: البصرة والكوفة. "معجم البلدان" 4/ 523، وهي جنوب شرق بغداد على نهر دجلة بالقرب من الحدود الإيرانية وفي "تهذيب اللغة" 2/ 315: أذرعات: بلد تنسب إليها الخمر. وفي "اللسان" 8/ 97: موضع بالشام تنسب إليه الخمر. (ذرع). وهي تبعد إلى الشرق من مدينة عكا بحوالي 120 كم.]].
وقوله: ﴿وَهُمْ﴾ يعني: الروم ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ قال الفراء: كلام العرب: غَلَبتُه غَلَبَةً، فإذا أضافوا أسقطوا الهاء، كما أسقطوها من قوله: ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: 73] والكلام: إقامة الصلاة [["معاني القرآن" 2/ 319.]]. وأنكر الزجاج ذلك؛ وقال: هذا خطأ، والغَلَب والغَلَبة مصدر: غَلَبْتُ، مثل: الجَلَبُ والجَلَبَة [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 177 الجَلَب: ما جلب القوم من غنم أو سبي، والجلب الجلبة في جماعة الناس، والفعل: أجلبوا وجَلَّبوا من الصياح. "تهذيب اللغة" 11/ 90 (جلب).]].
وقال المبرد: أضاف الغلبة إلى الروم وهم مفعولون؛ لأن الفعل يضاف إلى مفعوله كما يضاف إلى فاعله؛ لأنه صاحبه، تقول: أعجبني خياطة الخياط، وبناء الباني، ونجر النجار، ويضاف إلى المفعول، لأنه فيه حَلَّ، يقولون: ما أحسن بناءَ هذه الدار، وخياطةَ هذا الثوب، ونجرَ هذا الباب، ومثل هذا في القرآن كثير؛ كقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177] أي: حب المال ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8]: أي حب الطعام، ومثله: ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ [ص: 24] وهذا مما ذكرنا قديمًا [[قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء والزجاج: والمعنى: بسؤاله نعجتك فأضيف المصدر إلى المفعول لما ألقيت الهاء من السؤال، ومثله: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ [فصلت: 49] أي: من دعائه بالخير، فلما ألقى الهاء أضيف الفعل إلى الخبر وألقي من الخبر الباء، كقول الشاعر:
ولست مُسلِمًا ما دمت حيًا ... على زيد بتسليم الأمير
أي: بتسليمي على الأمير.]].
{"ayah":"غُلِبَتِ ٱلرُّومُ"}