الباحث القرآني

(p-٢٩٦)سُورَةُ الرُّومِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ ﴿فِي أدْنى الأرْضِ﴾ الآيَةَ. رَوى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ المُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلى فارِسَ لِأنَّهم أهْلُ كِتابٍ، وكانَ المُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أنْ تَظْهَرَ فارِسُ عَلى الرُّومِ لِأنَّهم أهْلُ أوْثانٍ. قالَ ابْنُ شِهابٍ: فَغَلَبَتْ فارِسُ الرُّومَ فَسُرَّ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ وقالُوا لِلْمُسْلِمِينَ إنَّكم تَزْعُمُونَ أنَّكم سَتَغْلِبُونَنا لِأنَّكم أهْلُ كِتابٍ، وقَدْ غَلَبَتْ فارِسُ الرُّومَ والرُّومُ أهْلُ كِتابٍ. وَقِيلَ: إنَّهُ كانَ آخِرَ فُتُوحِ كِسْرى أبْرَوِيزَ فَتَحَ فِيهِ القُسْطَنْطِينِيَّةَ حَتّى بَنى فِيها بَيْتَ النّارِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ فَساءَهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ فَلَمّا قالَ: ﴿وَهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ سُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ وبادَرَ أبُو (p-٢٩٧)بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَأخْبَرَهم بِما أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وأنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ الفُرْسَ. قالَ قَتادَةُ: فاقْتَمَرَ أبُو بَكْرٍ والمُشْرِكُونَ عَلى ذَلِكَ، وذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ القِمارِ مُدَّةً اخْتَلَفَ النّاسُ فِيها عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: مُدَّةَ ثَلاثِ سِنِينَ تَظْهَرُ الرُّومُ فِيها عَلى فارِسَ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: خَمْسُ سِنِينَ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّالِثُ: سَبْعُ سِنِينَ، قالَهُ الفَرّاءُ. وَكانَ الَّذِي تُوَلّى ذَلِكَ مِنَ المُسْلِمِينَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، واخْتَلَفَ في الَّذِي تَوَلّاهُ مِنَ المُشْرِكِينَ مَعَ أبِي بَكْرٍ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: أنَّهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، قالَهُ قَتادَةُ. وَحَكى النَّقّاشُ أنَّ أبا بَكْرٍ لَمّا أرادَ الهِجْرَةَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلِقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وقالَ: أعْطِنِي كَفِيلًا بِالخَطَرِ إنْ غَلَبْتُ فَكَفَلَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. واخْتُلِفَ في قَدْرِ العِوَضِ المَبْذُولِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أرْبَعُ قَلائِصَ، قالَهُ عامِرٌ. الثّانِي: خَمْسُ قَلائِصَ، قالَهُ قَتادَةُ. «فَلَمّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ أبا بَكْرٍ لَهم هَذِهِ المُدَّةُ أنْكَرَها وقالَ: (ما حَمَلَكَ عَلىَ ما فَعَلْتَ؟ قالَ: ثِقَةٌ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ، قالَ: (فَكَمِ البِضْعُ قالَ: ما بَلَغَ بَيْنَ الثَّلاثِ والعَشَرِ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (زِدْهم في الخَطَرِ وزِدْ في الأجَلِ) فَزادَهم قَلُوصَيْنِ وازْدادَ مِنهم في الأجَلِ سَنَتَيْنِ فَصارَتِ القَلائِصُ سِتًّا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ، وسَبْعًا عَلى الثّانِي، وصارَ الأجَلُ خَمْسًا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ، وسَبْعًا عَلى الثّانِي: وتِسْعًا عَلى الثّالِثِ. » واخْتُلِفَ في الِاسْتِزادَةِ والزِّيادَةِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها كانَتْ بَعْدَ انْقِضاءِ الأجَلِ الأوَّلِ قَبْلَ ظُهُورِ الغَلَبَةِ، قالَهُ عامِرٌ. (p-٢٩٨)الثّانِي: أنَّها كانَتْ قَبْلَ انْقِضاءِ الأجَلِ الأوَّلِ، قالَهُ ابْنُ شِهابٍ، فَأظْفَرَ اللَّهُ الرُّومَ بِفارِسَ قَبْلَ انْقِضاءِ الأجَلِ الثّانِي تَصْدِيقًا لِخَبَرِهِ في التَّقْدِيرِ ولِرَسُولِهِ ﷺ في التَّنْزِيلِ. واخْتُلِفَ في السَّنَةِ الَّتِي غَلَبَتِ الرُّومُ أهْلَ فارِسَ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّها عامَ بَدْرٍ ظَهَرَ الرُّومُ عَلى فارِسَ فِيهِ وظَهَرَ المُسْلِمُونَ عَلى قُرَيْشٍ فِيهِ، قالَهُ أبُو سَعِيدٍ، قالَ: فَكانَ في يَوْمِ بَدْرٍ. الثّانِي: أنَّ ظُهُورَ فارِسَ عَلى الرُّومِ كانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وظُهُورَ المُسْلِمِينَ عَلى قُرَيْشٍ كانَ في عامِ بَدْرٍ بَعْدَ الهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، ولَعَلَّهُ قَوْلُ عِكْرِمَةَ. الثّالِثُ: عامَ الحُدَيْبِيَةِ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلى فارِسَ وكانَ ظُهُورُ المُسْمِلِينَ عَلى المُشْرِكِينَ في الفَتْحِ بَعْدَ مُدَّةِ الحُدَيْبِيَةِ، قالَهُ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي أدْنى الأرْضِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: في أدْنى أرْضِ فارِسَ; حَكاهُ النَّقّاشُ. الثّانِي: في أدْنى أرْضِ الرُّومِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ وفي أدْنى أرْضِ الرُّومِ أرْبَعَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أطْرافَ الشّامِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّانِي: الجَزِيرَةُ وهي أقْرَبُ أرْضِ الرُّومِ إلى فارِسَ، قالَهُ مُجاهِدٌ. الثّالِثُ: الأُرْدُنُّ وفِلَسْطِينُ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الرّابِعُ: أذْرَعاتُ الشّامِ وكانَتْ بِها الوَقْعَةُ، قالَهُ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ. وَقَرَأ أبُو عَمْرٍو وحْدَهُ: ( غَلَبَتْ ) بِالفَتْحِ أيْ ظَهَرَتْ فَقِيلَ لَهُ عَلامَ غَلَبَتْ؟ فَقالَ: في أدْنى رِيفِ الشّامِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ وهو ما بَيْنَ الثَّلاثِ إلى العَشْرِ وهَذا نَصٌّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ . وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ هو ما بَيْنَ العَقْدَيْنِ مِنَ الواحِدِ إلى العَشْرَةِ فَيَكُونُ مِنَ الثّانِي إلى التّاسِعِ. وَأمّا النَّيِّفُ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: ما بَيْنَ الواحِدِ والتِّسْعَةِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الثّانِي: ما بَيْنَ الواحِدِ والثَّلاثَةِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. (p-٢٩٩)﴿لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مِن قَبْلِ أنْ تَغْلِبَ الرُّومُ ومِن بَعْدِ ما غَلَبَتْ. الثّانِي: مِن قَبْلِ غَلَبَةِ دَوْلَةِ فارِسَ عَلى الرُّومِ ومِن بَعْدِ غَلَبَةِ دَوْلَةِ الرُّومِ عَلى فارِسَ. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ﴾ ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ الخَبَرُ الَّذِي ورَدَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ بِهَلاكِ كِسْرى فَفَرِحَ ومَن مَعَهُ فَكانَ هَذا يَوْمَ فَرَحِهِمْ بِنَصْرِ اللَّهِ لِضَعْفِ الفُرْسِ وقُوَّةِ العَرَبِ. الثّانِي: يَعْنِي بِهِ نَصْرَ الرُّومِ عَلى فارِسَ. وَفي فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: تَصْدِيقُ خَبَرِ اللَّهِ وخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . الثّانِي: لِأنَّهم أهْلُ كِتابٍ مِثْلُهم. الثّالِثُ: لِأنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِنَصْرِهِمْ عَلى المُشْرِكِينَ. ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي مِن أوْلِيائِهِ لِأنَّ نَصْرَهُ مُخْتَصٌّ بِغَلَبَةِ أوْلِيائِهِ لِأعْدائِهِ فَأمّا غَلَبَةُ أعْدائِهِ لِأوْلِيائِهِ فَلَيْسَ بِنَصْرٍ وإنَّما هو ابْتِلاءٌ. ﴿وَهُوَ العَزِيزُ﴾ في نِقْمَتِهِ ﴿الرَّحِيمُ﴾ لِأهْلِ طاعَتِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: يَعْلَمُونَ أمْرَ مَعايِشِهِمْ مَتى يَزْرَعُونَ ومَتى يَحْصُدُونَ وكَيْفَ يَغْرِسُونَ وكَيْفَ يَبْنُونَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ. وَقالَ الضَّحّاكُ: هو بُنْيانُ قُصُورِها وتَشْقِيقُ أنْهارِها وغَرْسُ أشْجارِها فَهَذا ظاهِرُ الحَياةِ الدُّنْيا. (p-٣٠٠)الثّانِي: يَعْلَمُونَ ما ألْقَتْهُ الشَّياطِينُ لَهم مِن أُمُورِ الدُّنْيا عِنْدَ اسْتِراقِهِمُ السَّمْعَ مِن سَماءِ الدُّنْيا، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَيَحْتَمِلُ ثالِثًا: أنَّ ظاهِرَ الحَياةِ الدُّنْيا العَمَلُ لَها، وباطِنَها عَمَلُ الآخِرَةِ. ﴿وَهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: عَمّا أعَدَّهُ اللَّهُ في الآخِرَةِ مِن ثَوابٍ عَنْ طاعَتِهِ وعِقابٍ عَلى مَعْصِيَتِهِ. الثّانِي: عَمّا أمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِن طاعَةٍ وألْزَمَهم إيّاهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب