الباحث القرآني

﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ وهذا جواب لقولهم: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾ أُخبروا أنهم إذا رأوا الملائكة فلا بشرى لهم يومئذ. قال أبو إسحاق: ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على وجهين: أحدهما: على معنى: لا بشَّرَى تكون للمجرمين يوم يرون الملائكة، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ هو مؤكدِّ لـ ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾ ولا يجوز أن يكون منصوبًا بـ ﴿لَا بُشْرَى﴾ لأن ما اتصل بـ: ﴿لَا﴾ لا يعمل فيما قبلها. ألا ترى أنك لا تقول: زيد إلا ضارب كما تقول: لا ضارب زيدًا [["معاني القرآن" للفراء 2/ 266. من قوله: ألا ترى، إلى الحاشية، رقم: 2. وما بعده فمن الزجاج.]]. ولكن لما قيل:] [[ما بين المعقوفين، في (أ)، (ب).]] لا بشرى للمجرمين، صار كأنه قيل: يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة [[قال السمين الحلبي: ولا يجوز أن يعمل فيه نفس البشرى لوجهين: أحدهما: أنها مصدر، والمصدر لا يعمل فيما قبله. والثاني: أنها منفية بـ: لا، وما بعدها لا يعمل فيما قبلها الدر المصون 8/ 470.]]. والوجه الآخر: أن يكون منصوبًا على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. وفيه: يجمعون البشرى يوم القيامة. وعند الواحدي: يمنعون. وهو الصواب. وذكر هذا الزمخشري 3/ 266.]]. ثم أخبر فقال: ﴿لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ قال مجاهد: يعني: يوم القيامة [[أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2677. وتفسير مجاهد 2/ 449.]]. وهو قول مقاتل، وعطية، والأكثرين [["تفسير مقاتل" ص 44 أ. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2677، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، وعطية العوفي، والضحاك.]]. وقال عطاء عن ابن عباس: يعني: عند الموت [["تنوير المقباس" ص302. وبه قال الهوري 3/ 206 وقد استدل الحافظ ابن== كثير 6/ 101، على رؤية المشركين للملائكة وقت الإحتضار بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾: [الأنفال:50] وبقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: 93]، ثمَّ قال: وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، وجمع بين القولين؛ فقال: ولا منافاة بين هذا وما تقدم فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران.]]. وقوله: ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾ قال أبو إسحاق: المجرمون: الذين اجترموا الذنوب. وهو في هذا الموضح الذين اجترموا الكفر بالله عز وجل [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 64. وهو قول الهوَّاري 3/ 206.]]. قوله: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أي: حرامًا محرمًا. قاله ابن عباس، وجميع المفسرين [["تفسير مقاتل" ص 44 أ. و"تنوير المقباس" ص 302. وأخرج عبد الرزاق 2/ 76 ، عن الحسن، وقتادة وبه قال الهوَّاري 3/ 256. وابن جرير 19/ 2، وأخرج عن: الضحاك، وقتادة وزاد ابن أبي حاتم 8/ 2677: عطاء الخراساني. وبه قال السمرقندي 2/ 457. وهو قول سيبويه، "الكتاب" 1/ 326. والمبرد، المقتضب 3/ 218.]]. وأصل الحَجْر في اللغة: المنع. وحَجْرُ القضاةِ على الأيتام إنما هو منعهم. والحُجْرَة: ما حُوِّط عليه. وما مُنِعت من الوصول إليه فهو: حِجر. بكسر الحاء [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 63. ونقله عنه إلازهري، "تهذيب اللغة" 4/ 132 (حجر).]]. قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام حِجر؛ لأنه حُجر عليه بالتحريم. يقال: حَجرت حِجرًا، واسم ما حجرت حِجْرٌ [["غريب القرآن" لابن قتية ص 312.]]. ومنه: حِجْر البيت [[قال ابن جرير 19/ 2؛ لأنه لا يدخل إليه في الطواف، وإنما يطاف من ورائه.]]. والحِجْر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه من التخطي إلى القبيح [[قال تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر:5].]]. والأنثى من الأفراس: حِجْرٌ؛ لأنها تحجر ماء الفحل في بطنها. هذا كلام أبي عبيدة والمبرد والزجاج [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 73. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 63.]]. وذكرنا تفسير الحِجْر عند قوله: ﴿وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: 138] [[ما ذكره الواحدي هنا أكثر وأوسع مما أحال عليه، حيث اقتصر في تفسير الحجر في آية الأنعام على قوله: معنى الحجر في اللغة: الحرام، وأصله من المنع، ومنه سمي العقل حجراً لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي، أي: منعه.]]. واختلفوا في أنَّ هذا مِن قول مَنْ؟ فالأكثرون على أنه من قول الملائكة [[ذكر ذلك ابن جرير 19/ 2، عن الضحاك، وقتادة، ومجاهد. وبه قال الزجاج4/ 64.]]. قال عطاء عن ابن عباس: تقول الملائكة: محرمًا أن [[في (ج): (حرامًا في أن يدخل).]] يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وقام بشرائعها. ونحوه قال الكلبي [["تنوير المقباس" ص 302. وفيه نسبة القول للملائكة، دون ما بعده.]]. وقال مقاتل: إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قال لهم الحفظة من الملائكة: حرامًا محرمًا عليكم أيها المجرمون أن يكون لكم البشرى كما بُشر المؤمنون [["تفسير مقاتل" ص 44ب.]]. وقال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكفار قالوا للملائكة: بشرونا، فيقولون: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أي: حرامًا محرمًا أن نلقاكم بالبشرى [[(بالبشرى) في (ج). وأخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2677، عن عطية العوفي، بمعناه.]]. وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج وابن قتيبة والأزهري؛ قال الفراء وابن قتيبة: حرامًا محرماً أن يكون لهم البشرى [["معاني القرآن" للفراء2/ 266. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 312.]]. وقال الزجاج: حرامًا محرمًا عليهم البشرى [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 63.]]. وقال الأزهري: حُجِرَتْ عليكم البشرى فلا تبشرون بخير [["تهذيب اللغة"4/ 132 (حجر). وبه قال الهوَّاري 3/ 206.]]. وقال آخرون: هذا من قول المجرمين للملائكة [["تنوير المقباس" ص 302، حيث جعل هذا القول مشتركاً بين الملائكة، والمجرمين. وذكر الزمخشري 3/ 266، أن هذا من قول المجرمين، ثم قال: وقيل: هو من قول الملائكة. وقد ردَّ ابن جرير 19/ 3، هذا القول؟ فقال: معلوم أن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستجارة، وليست بتحريم، ومعلوم أن الكفار لا يقولون للملائكة: حرام عليكم، فيوجه الكلام إلى أن ذلك خبر عن قيل المجرمين للملائكة. وذكر الماوردي 4/ 141، أن هذا من قول الكفار لأنفسهم. ونسبه لقتادة. وبيَّن ذلك ابن عطية 11/ 26، بقوله: ويحتمل أن يكون المعنى: ويقولون: حرام محرم علينا العفو. قال ابن كثير 6/ 103: وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلاف.]]، وهذا قول مجاهد وابن جريج، واختيار أبي عبيدة والليث؛ قال مجاهد: عوذًا معاذًا يستعيذون من الملائكة [[أخرجه ابن جرير 19/ 3، وابن أبي حاتم 9/ 2678، بلفظ: عوذاً معاذاً. الملائكة تقوله. وكذا في "تفسير مجاهد" 2/ 449، و"تفسير الهواري" 3/ 207. فهو خلاف ما حكاه عنه الواحدي. رحمه الله. من أن هذا من قول المجرمين. لكن أخرج ابن جرير 19/ 3، عن ابن جريج عن مجاهد أنه قال: عوذاً، يستعيذون من الملائكة. وسبق ذكر نقد ابن جرير لهذا القول.]]، ويقولون مقالة الجاهلية عند الاستعاذة. وقال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم شدة [[(شدة) في (ج).]] شديدة، أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرًا محجورًا، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا [[أخرجه ابن جرير 19/ 3. وأخرج عبد الرزاق 2/ 67، نحوه عن الحسن، وقتادة وأخرجه عنهما ابن أبي حاتم 8/ 2678، من طريق عبد الرزاق.]]. وقال أبو عبيدة: كان الرجل من العرب إذا لقي رجلاً في الشهر الحرام وبينهما تِرَة [[قال الترمذي 5/ 430، كتاب: الدعوات، حديث رقم: 3380: قال بعض أهل العربية: التِّرَةُ، هو: الثأر. ولم أجده عند غيره]] يقول: حجرًا محجورًا. أي؟ دمي عليك حرام. فالمشركون يوم القيامة يقولون للملائكة مثل ذلك [[لم أجد قول أبي عبيدة، في كتابه: "المجاز". وقريب منه في "تفسير أبي حيان" 6/ 451، منسوبًا لأبي عبيدة وكذا في "نظم الدرر" 13/ 375.]]. وقال الليث: كان الرجل في الجاهلية يلقى رجلاً يخافه في الشهر الحرام فيقول: حجرًا محجورًا. أي: حرام محرم عليكم [[هكذا في النسخ الثلاث: عليكم. وأما في "تهذيب اللغة" 131/ 4 (حجر)، و"لسان العرب" 4/ 167: عليك.]] في هذا الشهر فلا يَنْدَاه بشر. فإذا كان يوم القيامة رأى المشركون الملائكة فقالوا: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ وظنَّوا أن ذلك ينفعهم عندهم كفعلهم [[في (ج): (كقولهم).]] في الدنيا [["العين" 3/ 74 (حجر)، وفيه: فلا يبدؤه بشر. وذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" == 4/ 131 (حجر)، وفيه: فلا ينداه منه بشر. وفي "لسان العرب" 4/ 167: فلا يبدؤه منه بشر. وفي النسخ الثلاث قبل: فلا ينداه .. : إلا يداً. ومعناها في سياق الكلام غير واضح. ولم أجدها في المراجع السابقة. ولذا رأيت حذفها والإشارة إلى ذلك. ومعنى ينداه: يصله. "تهذيب اللغة" 14/ 192 (ندأ). وقد رد الأزهري قول الليث بقوله: فإن أهل التفسير الذين يُعتمدون مثل ابن عباس، وأصحابه فسروه على غير ما فسَّره الليث. وهذا منهج حسن؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- هم أئمة التفسير.]]. وذكر صاحب النظم القولين جميعًا، فقال: هذا نظم كان في أول الدهر ثم درج، كان الرجل منهم إذا أراد حرمان الرجل شيئًا يسأله، أو يطمع فيه، قال: حجرًا محجورًا، فيعلم السائل بذلك أنه لا يريد أن يفعل، ومنه قول الشاعر: حَنَّتْ إلى النَّخْلَةَ القُصوَى فقلتُ لها ... حِجْرٌ حَرَامٌ ألا تِلكَ الدَّهاريس [[أنشده أبو عبيدة 2/ 73، ونسبه للمُتَلَمَّس، وفيه: النخلة، بالتعريف كما في النسخ الثلاث، خلافاً لما في "ديوان المتلبس" 96، وكذا ابن جرير 19/ 2، والماوردي 4/ 141. وفي "معجم البلدان" 5/ 320: نخلةَ القصوى: واحدة النخل، والقصوى تأنيث الأقصى، ثم ذكر بيت المتلبس. وفي "حاشية الديوان": نصب: نخلة القصوى؛ لأنه واد. والدهاريس: الدواهي، الواحدة: دَهْرَس. "تهذيب اللغة" 6/ 521 (دهرس).]] ويقال فيه: إن معناه أن الرجل من العرب كان إذا سافر فخاف على نفسه قومًا لَقَوه، قال: حجرًا محجورًا، أي: حرامًا محرمًا عليِكم [[في نسخة: (أ)، (ب): (عليك).]] التعرض لي. وعلى هذا يجب أن يكون هذا القول من الكفار، وذلك أنهم إذا رأوا الملائكة يوقعون [[هكذا في النسخ الثلاث: (يوقعون).]] بهم ضربًا وتعذيبًا قالوه؛ لأنهم كانوا لا يقولون ذلك في الدنيا إلا استعاذة ممن يريدهم بسوء. وإذا حمل على المعنى الذي قبله، وجب أن يكون من قول الملائكة؛ لأنه إئياس منهم لهم من الخير. انتهى كلامه. وفي الآية قول ثالث؛ وهو: أنَّ قوله: (حِجْرًا) من قول الكفار، و: ﴿مَحْجُورًا﴾ من قول الملائكة. وهو قول الحسن؛ قال: كانو إذا خافوا شيئًا قالوا: حجرًا. يتعوذون منه. فإذا كان يوم القيامة قالوا: (حِجْرًا) قالت الملائكة: ﴿مَحْجُورًا﴾ أن تُعَاذوا من شر هذا اليوم. فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة [["تهذيب اللغة" 4/ 132 (حجر) بمعناه. وعلى هذا الوقف على (حِجْراً) وقف تام، القطع والائتناف 2/ 481، حيث نسب هذا الوقف للحسن، دون شرح القول. ولم أجد أحداً نسب هذا القول للحسن باللفظ الذي ذكره الواحدي، غير الأزهري. وذكره الرازي 24/ 71، ونسبه للقفال، والواحدي، وفي كلامه ما يُشعر باختيار الواحدي لهذا القول؛ وهذا ليس بصواب فإن الواحدي في كتابيه: "الوسيط"، و"الوجيز"، لم يذكر هذا القول مطلقاً، وإنما ذكره هنا، وذكر بعده ردَّ الأزهري. فعبارة الرازي تحتاج إلى تحرير. وذكره القرطبي 13/ 21، وذكر عن الحسن أيضًا أيضًا قال: ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا﴾ وقف من قول المجرمين، فقال الله عز وجل: ﴿مَحْجُورًا﴾ عليهم أن يعاذوا أو يجابوا.]]. قال الأزهري: والقول الأول أشبه بكلام العرب، والآية أحرى أن تكون كلامًا واحداً لا كلامين [["تهذيب اللغة" 4/ 132 (حجر)، ويعني بالقول الأول، أن ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ من قول الملائكة.]]. والله أعلم [[(والله أعلم) فى (ج).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب