الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ اختلف القُرّاء في ﴿السِّلْمِ﴾، فقرأ بعضهم بفتح السين، وبعضهم بكسرها [[قرأ ابن كثير ونافع والكسائي بفتح السين هنا، وفي قوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: 61] وقوله: ﴿وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ [محمد: 35]، وقرأ عاصم في رواية شعبة بكسر السين في الثلاثة، وقرأ حمزة بكسر السين هنا وفي سورة محمد، وفتح التي في الأنفال، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص، عن عاصم بكسر السين هنا، وفتحوا الأخريين. ينظر: "السبعة" ص 180 - 181، "الحجة" 2/ 292.]]. أما [[في (م) فأما.]] الكسر: فقال أبو عبيدة [["مجاز القرآن" 1/ 71.]] والأخفش [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 167.]]: السِّلم: الإسلام، وهو اسم جعل بمنزلة المصدر، كالعطاء من أَعْطيْتُ، والنبات من أَنْبَتَ. وأما الفتح: فيجوز أن يكون لغة في السِّلْم الذي يراد به الإسلام، ويجوز أن يكون المراد به الصُّلْح، والمعني بالصلح: الإسلام؛ لأن الإسلام صلح، ألا ترى أن القتال والحرب بين أهله موضوع، وأنهم أهل اعتقاد واحد، ويد واحدة في نصرة بعضهم لبعض، فإذا كان ذلك موضوعًا بينهم وفي دينهم [[في "الحجة": زيادة: وغلِّظ على المسلمين في المسايفة بينهم.]] كان صُلْحًا في المعنى، فكأنه قيل: ادخلوا في الصُّلْح، والمراد به: الإسلام، فسماه صُلْحًا لما ذكرنا، وهذا الوجه [[زيادة من (م).]] أوجه من أن يكون السِّلْم لغة في السِّلم الذي يراد به (الإسلام، إلا أن يقال: إن الفتح لغة في الكسر الذي يراد به) [[ساقطة من (ي).]] الصلح، ويتأول أن الإسلام صلحٌ على نحو ما بينا [[من "الحجة" 1/ 293، وقد اختصر الواحدي كلامه كثيرًا، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 323.]]. والذي يراد به الصلح فيه ثلاث لغات: السِّلْم والسَّلْم والسَّلَم. وأنشد أبو عبيدة: أنائلَ إنَّنِي سَلَمٌ ... لأهلِكِ فاقْبَلي سَلَمِي [[البيت لمسعدة بن البختري يقوله في نائلة بنت عمر بن زيد الأسيدي، وكان يهواها، انظر: "الأغاني" 13/ 271، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص 43، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 294. وفي "اللسان" (مادة: سلم) ضبطت بكسر السين وتسكين اللام.]] وقرئ ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلقَىَ إِليَكُمُ السَّلَامَ﴾ [النساء: 94] [[من "الحجة" 1/ 293 - 294 بتصرف واختصار، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، وآية النساء في المخطوطة كتبت: السلم، وهي كذلك في "الحجة" 2/ 296، وأما في "معاني القرآن" للزجاج فكتبت: السلام، بألف، والظاهر أن المؤلف ساقها شاهدا على السلم، وقد اختلف فيها القراء، فقرأها بالألف: ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وعاصم، وقرأها بغير ألف: نافع وابن عامر وحمزة. ينظر في تفصيل ذلك: "السبعة" لابن مجاهد ص 236.]]. والمراد بالسِّلم في هذه الآية: الإسلام [[ذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 322 - 323، وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 370 الرواية بذلك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وقتادة والسدي وابن زيد والضحاك. وقيل: بل المراد: الطاعة، وهو مروي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع. وقيل: في أنواع البر كلها، وهو مروي عن مجاهد وسفيان الثوري، وهذه الثلاثة متقاربة، وقيل: الموادعة، وهو مروي عن قتادة، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 672.]]؛ لأن المراد إنما هو تحضيضهم على الإسلام والدعاء إليه، والدخول فيه، وليس المراد: أدخلوا في الصلح، وليس ثَمّ صُلْحٌ يدعون إلى الدخول فيه [[من قوله: وليس المراد ساقطة من (ي).]]، إلا على التأويل الذي ذكرنا أن الإسلام صلح [[من "الحجة" 1/ 293 بتصرف، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 323.]]. قال ابن عباس في رواية عطاء [[رواه الواحدي بسنده في "أسباب النزول" ص 68، وفي إسناده عبد الغني بن سعيد الثقفي، وهو واه كما قال ابن حجر في "العجاب" 1/ 530، وذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 179 - 180 بمعناه، ورواه الطبري 2/ 325، عن ابن جريج عنه بلفظ: يعني أهل الكتاب، ورواه ابن أبي حاتم 2/ 369 - 370 عن عكرمة عن ابن عباس قال: يعني مؤمني أهل الكتاب، ثم ذكره عن مقاتل بن حيان، أنه قال: عبد الله بن سلام، ومؤمنوا أهل "الكتاب"، ورواه الطبري عن عكرمة قال: نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد بن كعب وسعية بن عمرو وقيس بن زيد -كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، إلخ. بمعناه. وقد اعترض ابن كثير في "تفسيره" ص 266 على رواية عكرمة فقال: وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر؛ إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام.]] وقتادة [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 15/ 82، والطبري 2/ 323، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 370، والثعلبي 2/ 671.]] وابن زيد [[رواه الطبري 2/ 323، وذكره الثعلبي 2/ 671.]] والضحاك والسُّدِّي [[انظر المصدر السابق.]]: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي ﷺ قاموا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لُحْمَانَ الإِبِلِ وألبَانَها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي ﷺ: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا، فأنزل الله هذه الآية. وقوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾ يجوز أن يكون معناه: ادخلوا جميعًا. ويجوز أن يكون معناه: في السلم [[في (ي): كافة.]]، أي: في جميع شرائعه، وهذا أليق بظاهر التفسير، لأنهم أُمِروا بترك تعظيم السبت، واستحلاله لُحْمان الإبل، وهذا من شرائع الإسلام التي أمروا بالقيام بها كلها [[ينظر في ذكر القولين: "تفسير الطبري" 2/ 324 - 325، "النكت والعيون" 1/ 267، "المحرر الوجيز" 2/ 197 - 198، "زاد المسير" 1/ 225، قال ابن عطية: واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب؟ فقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد ﷺ. والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده، ويستغرق كافة حينئذ المؤمنين، وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: 27]، إلى غير ذلك من الأمثلة. وقال عكرمة: بل المخاطب من آمن بالنبي ﷺ من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره. الحديث، فكافة على هذا لأجزاء الشرع فقط، وقال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة، فكافة على هذا لأجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام، ومن يراها المسالمة يقول: أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية. ا. هـ- بتصرف.]]. ومعنى الكافة في اللغة: الحاجزة المانعة، يقال: كففت فلانًا عن السوء فكَفّ يَكُفُّ كَفًّا، سواء لفظ اللازم والمجاوِز، ومن هذا يقال: كُفَّةُ القميص، لأنها تمنع الثوب من الانتشار، وقيل لطرف اليد: كَفُّ؛ لأنه يُكَفُّ بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: كُفَّ بَصَرُه من أن ينظر. فالكافة معناها: المانعة، ثم صارت اسمًا للجملة الجامعة؛ لأنها تمنع من الشذوذ والتفرق [[في (ي): فالفرق.]] [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، وهذا لفظه بتصرف، "تهذيب اللغة" 4/ 3165 "كف"، "تفسير الثعلبي" 2/ 678، "المفردات" ص 435، وقوله: سواء لفظ اللازم والمجاوز: أي المتعدي.]]. والمعنى: ادخلوا في شرائع الإسلام جملة مانعة من شريعة لم تدخلوا فيها [[ينظر: "الوسيط" 1/ 313، "التفسير الكبير" 5/ 226.]]. وقال أبو إسحاق: معنى الآية: ابلغوا في الإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه، فتكفوا [[في (ي) فيكفوا. وفي "معاني القرآن" للزجاج: فَكُفُّوا، وفي "تهذيب اللغة" موافق لما أثبت.]] من أن تعدوا شرائعه، وادخلوا كلكم حتى يكف عن عددٍ واحدٍ لم يدخل فيه [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، وقوله: وادخلوا، في "معاني القرآن": أو ادخلوا، وفي "تهذيب اللغة" موافق لما أثبت، وكذا قوله واحد، في "معاني القرآن" وأحد، وفي "تهذيب اللغة" موافق لما أثبت.]]. قوله تعالى ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي [[زيادة من (ي).]]: آثاره ونزغاته، فيما زين لكم من تحريم السبت ولحم الجمل [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 280، "تفسير الطبري" 2/ 326، "تفسير الثعلبي" 2/ 678، "الوسيط" 1/ 313، "التفسير الكبير" 5/ 227.]]. وذكرنا هذا فيما تقدم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب