الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ المعنى: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى [[ذكره الزجاج في "معاني القرآن".]]. قال ابن عباس: نزلت في: يهود المدينة، ونصارى نجران، قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك [[ذكره الثعلبي، والواحدي في "أسباب النزول" ص 41، والبغوي 1/ 155، وابن حجر في "العجاب" 1/ 381، عن ابن عباس وأخرج الطبري 1/ 564، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 241، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله ﷺ: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا﴾، وذكره السيوطي في "لباب النقول" ص 26 وعزاه في "الدر" 1/ 257، لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وحسن إسناده الأستاذ عصام الحميدان في تحقيقه لـ"أسباب النزول" للواحدي ص 44.]]. وقوله تعالى: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ بنصب [[في (أ)، (م): (تنصب).]] ﴿مِلَّةَ﴾ بفعل مضمر، كأنه قال: قولوا بل نتبع ملة إبراهيم [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء، "معاني القرآن" للزجاج، وقال بعده: ويجوز الرفع (بل ملةُ إبراهيم حنيفا) والأجود والأكثر النصب، ومجاز الرفع على معنى: قل: ملتنا وديننا ملة إبراهيم.]]. وقال بعض النحويين: هو عطف على المعنى؛ لأن قوله: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ معناه: اتبعوا اليهودية والنصرانية، فقال الله: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: بل اتبعوا ملته [[كذا في "معاني القرآن" للزجاج.]]. قال أبو اسحاق: ويجوز أن تنصب على معنى: بل نكون أهلَ ملةِ إبراهيم، ويحذف الأهل كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [["معاني القرآن" للزجاج، وذكره بنحوه أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 406.]] [يوسف: 82]، وإلى هذا القول أشار الفراء والكسائي. قال الفراء: إن نصبتها بـ (نكون) كان صوابًا [["معاني القرآن"، وعبارته (نكون). وفي الحاشية قال: وفي نسخ الفراء: بيكون، ولعل المراد إن صحت: يكون ما نختاره، وفي "البحر" 1/ 405 ذكر من أعاريبه على النصب: أنه خبر كان أي: بل تكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملة إبراهيم ... وإما أنه منصوب على الإغراء، أي: الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد، وإما على أنه منصوب على إِسقاط الخافض، أي: نهتدي ملة: أي بملة.]]، وقال الكسائي: بل يكون ملة إبراهيم. وقول الزجاج بيان لقولهما. قال أهل المعاني: وفي هذا احتجاج عليهم؛ إذ في اليهودية تناقُضٌ، وكذلك النصرانية، والتناقضُ لا يكون من عند الله، وملةُ إبراهيم سليمةٌ من التناقض، فهو أحقُّ بالاتباع [[ينظر: "تفسير الفخر الرازي" 4/ 80.]]. فمِمَّا في اليهودية من التناقض [[ساقط من (م) و (أ).]]: امتناعُهم من جواز النسخ، مع ما في التوراة مما يدل على ذلك، وإمتناعُهُمْ من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي، مع إظهارهِم التمسك بها، وامتناعهم من الإذعان لما دلّت عليه المعجزة من نبوة محمد وعيسى عليهما السلام، مع إقرارهم بنبوة موسى من أجل المعجزة، إلى غير هذا مما هم عليه من التناقض، وأما النصارى فقولهم بثلاثة، ثم يقولون: إنه إله واحد [[ينظر: "تفسير الفخر الرازي" 4/ 80.]]. وقوله تعالى: ﴿حَنِيفًا﴾. انتصب على الحال؛ لأن المعنى: نتبعُ ملةَ ابراهيم في حال حنيفيته، وعند الكوفيين ينتصب على القطع، كأنه ملة إبراهيم الحنيف، فقطع عنه الألف واللام [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 214، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 218، "تفسير الثعلبي" 1/ 1214، "البيان" لابن الأنباري 1/ 125، "التبيان" 1/ 95، 96.]]. وأمَّا معنى الحنيف: فقال ابنُ دُريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وبه سمي الإسلام: الحنيفية؛ لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية [[ذكره في "الوسيط" 1/ 218.]]. قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: من أين عُرِفَ في الجاهلية الحنيف؟ قال: لأن من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عندهم، وكان كل من حجَّ البيت سُمِّيَ حنيفًا، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا الحجَّ قالوا: هلموا نتَحَنَّفْ [[في (م): (نحنف).]] [[ذكره في "الوسيط" 1/ 218.]]. فالحنيف: المسلم؛ لأنه مال عن دين اليهود والنصارى إلى دين الإسلام، ومنه قيل للميل في القَدَم: حَنَفٌ. قال ذو الرمَة: إذا حَوَّل الظلُّ العشِيَّ رأيتَه ... حنيفًا وفي قَرنِ [[في (م): (قرب).]] الضحَى يَتَنَصَّر [[البيت في "ديوانه" ص 632، "لسان العرب" 2/ 1060، "المعجم المفصل" 3/ 265.]] [[في (م): (تنتصر).]] وقال الأخفش: الحنيف: المسلم، وكان في الجاهلية يقال لمن اختتن وحج البيت: حنيف؛ لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان، وحج البيت، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية، فالحنيف: المسلم [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 942، "لسان العرب" 2/ 1025.]]. وروى ابن نجدة [[هو محمد بن الحسين بن محمد الطبري النحوي، يعرف بابن نجدة، قال ياقوت: مشهور في أهل الأدب، وله خط مرغوب فيه، قرأ على الفضل بن الحباب الجمحي. ينظر: "بغية الوعاة" 1/ 94، "معجم الأدباء" 18/ 186.]]، عن أبي زيد [["لسان العرب" 2/ 1026 (حنف).]]، أنه قال: الحنيفُ: المستقيم، وأنشد [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 942 (حنف).]]: تعلم أَنْ سَيَهْدِيْكُم إلينا ... طريقٌ لا يَجُور بكم حَنِيفُ [[البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 942، "لسان العرب" 2/ 1026 (حنف)، "المعجم المفصل" 3/ 265.]] فقيل: لكل من سَلَّم لأمر الله ولم يَلْتَوِ: حنيف [["تهذيب اللغة" 1/ 942 (حنف).]]، وهذا القول اختيار ابن قتيبة [["غريب القرآن" ص 64 بنحوه، وكذا قال الطبري 1/ 564 - 565.]]، والرياشي [[هو العباس بن الفرج، أبو الفضل الرياشي، اللغوي النحوي، قرأ على المازني النحو، وقرأ عليه المازني اللغة، ووثقه الخطيب، صنف كتاب الخيل وكتاب الإبل، وغير ذلك، قتله الفرنج سنة 257 هـ. ينظر: "بغية الوعاة" 2/ 27، "الأعلام" 3/ 264.]]، قالا: الحنيفية: الاستقامة على دين إبراهيم، وإنما قيل للذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى: أحنف، تفاؤلًا بالسلامة، كما قيل للمفازة [[في (ش): "للمقارفة".]]: مهلكة [[لعل صحة العبارة كما قيل للمهلكة: مفازة، أو: كما قيل: مفازة للمهلكة، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 564.]]. فأما التفسير: فروي عن ابن عباس أنه قال: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1214، والواحدي في "الوسيط" 1/ 218، و"البغوي" 1/ 155، و"الخازن" 1/ 115، و"البحر المحيط" 1/ 406.]]. وقال مجاهد: الحنيفية اتباع الحق [[بنحوه أخرج الطبري في "تفسيره" 1/ 565 - 566، وابن أبي حاتم 1/ 41 قال: وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك.]]، وروي عنه أيضًا: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده، من الحج، والختان، وغير ذلك من شرائعه [[عنه الواحدي في "الوسيط" 1/ 218، والبغوي في "تفسيره" 1/ 155.]]. وقال الحسن: الحنيفية: حج البيت [[أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 95، ومن طريقه أخرجه الطبري 1/ 565، وأخرجه من طريق أخرى 1/ 565، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 242، والثعلبي 1/ 1214.]]، وهو معنى قول ابن عباس [[أخرجه عنه الطبري 1/ 565، وابن أبي حاتم 1/ 241، قال: وروي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي نحو ذلك.]]، وعطية [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 3/ 106، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 241.]] [[تقدمت ترجمته.]]. وقيل: الحنيفية: إخلاص الدين لله وحده [[ذكر عن السدي كما أخرج الطبري في "تفسيره" 1/ 566، وعن خصيف عند ابن أبي حاتم 1/ 242، وذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 141.]]، وهذه الأقوال غير خارجة عما ذكره أهل اللغة؛ لأنها تعود إلى الاستقامة أو الميل إلى ما أتى به إبراهيم عليه السلام من الشريعة [[رجح الطبري في "تفسيره" 1/ 566 أن الحنف والحنيف: الاستقامة على دين == إبراهيم، واتباعه على ملته، وبين أنه لو كان المراد الحج، أو الاختتان؛ لوجب أن يكون المشركون حنفاء، وقد نفى الله عنهم ذلك.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب