الباحث القرآني
ولَمّا أخْبَرَ تَعالى أنَّهم تَرَكُوا السُّنَّةَ في تَهْذِيبِ أنْفُسِهِمْ بِالِاقْتِداءِ في الِاهْتِداءِ بِالأصْفِياءِ مِن أسْلافِهِمْ وبَيَّنَ بُطْلانَ ما هم عَلَيْهِ الآنَ مِن كُلِّ وجْهٍ وأوْضَحَ أنَّهُ مَحْضُ الضَّلالِ بَيَّنَ أنَّهُ عاقَبَهم عَلى ذَلِكَ بِأنْ صَيَّرَهم دُعاةً إلى الكُفْرِ، لِأنَّ سُنَّتَهُ الماضِيَةَ سَبَقَتْ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَحْوِيلًا أنَّ مَن أماتَ سُنَّةً أحْيا عَلى يَدَيْهِ بِدَعَةً عُقُوبَةً لَهُ. قالَ الحَرالِّيُّ: لِأنَّهُما مُتَناوِبانِ في الأدْيانِ تَناوُبَ المُتَقابِلاتِ في الأجْسامِ فَقالَ تَعالى مُعْجِبًا مِنهم عاطِفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ﴾ [البقرة: ١١١] ﴿وقالُوا﴾ أيِ: الفَرِيقانِ مِن أهْلِ الكِتابِ لِأتْباعِ الهُدى ﴿كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا﴾ أيْ: لَمْ يَكْفِهِمُ ارْتِكابُهم لِلْباطِلِ وسُلُوكُهم طُرُقَ الضَّلالِ حَتّى دَعَوْا إلى ما هم عَلَيْهِ ووَعَدُوا بِالهِدايَةِ الصّائِرَةِ إلَيْهِ فَأمَرَهُ تَعالى بِأنْ (p-١٨٤)يُجِيبَهم أنَّهُ مُسْتَنٌّ بِسُنَّةِ أبِيهِمْ لا يُحَوَّلُ عَنْها كَما حالُوا فَقالَ مُوجِّهًا الخِطابَ إلى أشْرَفِ خَلْقِهِ لِعُلُوِّ مَقامِ ما يُخْبِرُ بِهِ وصُعُوبَةِ التَّقَيُّدِ بِهِ عَلى النَّفْسِ: ﴿قُلْ بَلْ﴾ مُضْرِبًا عَنْ مَقالِهِمْ، أيْ: لا يَكُونُ شَيْئًا مِمّا ذَكَرْتُمْ بَلْ نَكُونُ أوْ نُلابِسُ أنا ومَن لَحِقَ بِي مَن كَمَّلَ أهْلَ الإسْلامِ ﴿مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ مُلابَسَةَ نَصِيرٍ بِها إيّاها كَأنَّنا تَجَسَّدْنا مِنها، وهو كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْفِكاكِ عَنْها، فَهو أبْلَغُ مِمّا لَوْ قِيلَ: بَلْ أهْلُ مِلَّةِ إبْراهِيمَ. قالَ الحَرالِّيُّ: فَفِيهِ كَمالُ تَسَنُّنِ مُحَمَّدٍ ﷺ في مِلَّتِهِ بِمِلَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي هو الأوَّلُ لِمُناسَبَةِ ما بَيْنَ الأوَّلِ والآخِرِ، وقَدْ ذَكَرَ أنَّ المِلَّةَ ما أظْهَرَهُ نُورُ العَقْلِ مِنَ الهُدى في ظُلْمِ ما التَزَمَهُ النّاسُ مِن عَوائِدِ أمْرِ الدُّنْيا، فَكانَ أتَمَّ ما أبْداهُ نُورُ العَقْلِ مِلَّةَ إبْراهِيمَ ﴿حَنِيفًا﴾ أيْ (p-١٨٥)لَيِّنًا هَشًّا سَهْلًا قابِلًا لِلِاسْتِقامَةِ مائِلًا مَعَ داعِي الحَقِّ مُنْقادًا لَهُ مُسَلِّمًا أمْرَهُ إلَيْهِ، لا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ العَشاوَةِ والكَثافَةِ والغِلْظَةِ والجُمُودِ الَّتِي يَلْزَمُ مِنها العِصْيانُ والشَّماخَةُ والطُّغْيانُ، وذَلِكَ لِأنَّ مادَّةَ حَنَفَ بِكُلِّ تَرْتِيبٍ تَدُورُ عَلى الخِفَّةِ واللَّطافَةِ، ويُشْبِهُ أنْ تَكُونَ الحَقِيقَةُ الأُولى مِنها النَّحافَةَ، ويَلْزَمُ هَذا المَعْنى الِانْتِشارُ والضُّمُورُ والمَيْلُ، فَيَلْزَمُهُ سُهُولَةُ الِانْقِيادِ والِاسْتِقامَةِ، ويَكْشِفُهُ آيَةُ آلِ عِمْرانَ
﴿ولَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: ٦٧] فَبِذَلِكَ حادَ عَنْ بِنْياتِ طُرُقِ الخَلْقِ في انْحِرافِهِمْ عَنْ جادَّةِ طَرِيقِ الإسْلامِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: الحَنِيفُ المائِلُ عَنْ مُتَغَيَّرِ ما عَلَيْهِ النّاسُ عادَةً إلى ما تَقْتَضِيهِ الفِطْرَةُ حَنانَ قَلْبٍ إلى صِدْقِ حِسِّهِ الباطِنِ.
ولَمّا أثْبَتَ لَهُ الإسْلامَ بِالحَنِيفِيَّةِ نَفى عَنْهُ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ (p-١٨٦)مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ إنْباءٌ بِتَبْرِئَةِ كِيانِهِ مِن أمْرِ الشِّرْكِ في ثَبْتِ الأُمُورِ والأفْعالِ والأحْوالِ وفي إفْهامِهِ أنَّهُ مِن أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ في الكَمالِ الخاتَمِ كَما أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ مِنهُ في الِابْتِداءِ الفاتِحِ، قالَ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي﴾ [الأنعام: ١٦٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] فَهَذِهِ أوَّلِيَّةُ رُتْبَةِ الكَمالِ الَّتِي هي خاصَّةٌ بِهِ ومَن سِواهُ فَهو مِنهُ فِيها، لِأنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ يُفْهِمُ البَراءَةَ واللَّحاقَ بِالمُتَأصِّلِ في مُقابِلِهِ، فَمَن لَمْ يَكُنْ مَثَلًا مِنَ الكافِرِينَ فَهو مِنَ المُؤْمِنِينَ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ هو المُؤْمِنُ لَذُكِرَ بِالصِّفَةِ المُقابِلَةَ لِما نَفى عَنْهُ، لِما في ذَلِكَ مِن مَعْنَيَيْ إثْباتِ الوَصْفِ ونَفْيِ مُقابِلِهِ، ومِثْلُ هَذا كَثِيرُ الدَّوْرِ في خِطابِ القُرْآنِ، وبَيَّنَ مَن لَهُ الوَصْفُ ومَن هو مِنهُ تَفاوُتٌ ما بَيْنَ السّابِقِ واللّاحِقِ في جَمِيعِ ما يَرِدُ مِن نَحْوِهِ يَعْنِي ومِثْلُ هَذا التَّفاوُتِ ظاهِرٌ لِلْفَهْمِ خَفِيٌّ عَنْ (p-١٨٧)مَشاهِدِ العَلَمِ، لِأنَّ العِلْمَ مِنَ العَقْلِ بِمَنزِلَةِ النَّفْسِ؛ والفَهْمَ مِنَ العَقْلِ بِمَنزِلَةِ الرُّوحِ، فَلِلْفَهْمِ مُدْرَكٌ لا يَنالُهُ العِلْمُ، كَما أنَّ لِلرُّوحِ مُعْتَلًى لا تَصِلُ إلَيْهِ النَّفْسُ، لِتَوَجُّهٍ النَّفْسِ إلى ظاهِرِ الشُّهُودِ ووُجْهَةِ الرُّوحِ إلى عَلِيِّ الوُجُودِ. انْتَهى.
{"ayah":"وَقَالُوا۟ كُونُوا۟ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰ تَهۡتَدُوا۟ۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











