الباحث القرآني

﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا﴾: الضَّمِيرُ عائِدٌ في قالُوا عَلى رُؤَساءِ اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا بِالمَدِينَةِ، وعَلى نَصارى نَجْرانَ، وفِيهِمْ نَزَلَتْ. كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ، ومالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، ووَهْبٌ، وأُبَيُّ بْنُ ياسَ بْنِ أخْطَبَ، والسَّيِّدُ، والعاقِبُ وأصْحابُهُما خاصَمُوا المُسْلِمِينَ في الدِّينِ، كُلُّ فِرْقَةٍ تَزْعُمُ أنَّها أحَقُّ بِدِينِ اللَّهِ مِن غَيْرِها، فَأخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم ورَدَّ عَلَيْهِمْ. وأوْ - هُنا - لِلتَّفْصِيلِ، كَأوْ في قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] . والمَعْنى: وقالَتِ اليَهُودُ كُونُوا هُودًا، وقالَتِ النَّصارى: كُونُوا نَصارى، فالمَجْمُوعُ قالُوا لِلْمَجْمُوعِ، لا أنَّ كُلَّ فَرْدٍ أمَرَ بِاتِّباعِ أيِّ المِلَّتَيْنِ. وقَدْ تَقَدَّمَ إيضاحُ ذَلِكَ وإشْباعُ الكَلامِ فِيهِ في قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: ١١١] . ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾: قَرَأ الجُمْهُورُ: بِنَصْبِ مِلَّةَ بِإضْمارِ فِعْلٍ. أمّا عَلى المَفْعُولِ، أيْ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةً؛ لِأنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾: اتَّبِعُوا اليَهُودِيَّةَ أوِ النَّصْرانِيَّةَ. وأمّا عَلى أنَّهُ خَبَرُ كانَ، أيْ بَلْ تَكُونُ مِلَّةَ إبْراهِيمَ، (p-٤٠٦)أيْ أهْلُ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، كَما قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ، إنِّي مِن دِينٍ، أيْ مِن أهْلِ دِينٍ؛ قالَهُ الزَّجّاحُ. وأمّا عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى الإغْراءِ، أيِ الزَمُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ، قالَهُ أبُو عُبَيْدٍ. وأمّا عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، أيْ نَقْتَدِي مِلَّةً، أيْ بِمِلَّةٍ، وهو يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلْكُفّارِ، فَيَكُونُ المُضْمَرُ اتَّبِعُوا أوْ كُونُوا. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ المُؤْمِنِينَ، فَيُقَدَّرُ بِـ”نَتَّبِعُ“، أوْ تَكُونُ أوْ نَقْتَدِي عَلى ما تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ الأعْرَجُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾، بِرَفْعِ مِلَّةٍ، وهو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ بَلِ الهُدى مِلَّةُ، أوْ أمْرُنا مِلَّتُهُ، أوْ نَحْنُ مِلَّتُهُ، أيْ أهْلُ مِلَّتِهِ، أوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، أيْ بَلْ مِلَّةُ إبْراهِيمَ حَنِيفًا مِلَّتُنا. (حَنِيفًا): ذَكَرُوا أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِن إبْراهِيمَ، أيْ في حالِ حَنِيفِيَّتِهِ، قالَهُ المَهْدَوِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ والزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ رَأيْتُ وجْهَ هِنْدٍ قائِمَةً، وأنَّهُ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ، حَكاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ: لِأنَّ الحالَ تَعَلَّقَ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ. انْتَهى. وتَقْدِيرُ الفِعْلِ نَتَّبِعُ حَنِيفًا، وأنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى القَطْعِ، حَكّاهُ السَّجاوِنْدِيُّ، وهو تَخْرِيجٌ كُوفِيٌّ؛ لِأنَّ النَّصْبَ عَلى القَطْعِ إنَّما هو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ فِيهِ، واخْتِلافُ الفَرّاءِ والكِسائِيِّ، فَكانَ التَّقْدِيرُ: بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ الحَنِيفِ، فَلَمّا نَكَرَّهُ، لَمْ يُمْكِنِ اتِّباعُهُ إيّاهُ، فَنَصَبَهُ عَلى القَطْعِ. أمّا الحالُ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، إذا كانَ المُضافُ غَيْرَ عامِلٍ في المُضافِ إلَيْهِ قَبْلَ الإضافَةِ، فَنَحْنُ لا نُجِيزُ، سَواءٌ كانَ جُزْءًا مِمّا أُضِيفَ إلَيْهِ أوْ كالجُزْءِ أوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى ذَلِكَ في (كِتابِ مَنهَجِ المَسالِكِ) مِن تَأْلِيفِنا. وأمّا النَّصْبُ عَلى القَطْعِ فَقَدْ رَدَّ هَذا الأصْلَ البَصْرِيُّونَ. وأمّا إضْمارُ الفِعْلِ فَهو قَرِيبٌ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الحالِ مِنَ المُضافِ، وذُكِرَ حَنِيفًا ولَمْ يُؤَنَّثْ لِتَأْنِيثِ مِلَّةٍ؛ لِأنَّهُ حُمِلَ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّ المِلَّةَ هي الدِّينُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: نَتَّبِعُ دِينَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا. وعَلى هَذا خَرَّجَهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الشَّجَرِيِّ في المَجْلِسِ الثّالِثِ مِن أمالِيهِ. قالَ: قِيلَ إنَّ حَنِيفًا حالٌ مِن إبْراهِيمَ، وأوْجَهُ مِن ذَلِكَ عِنْدِي أنْ يَجْعَلَهُ حالًا مِنَ المِلَّةِ، وإنْ خالَفَها بِالتَّذْكِيرِ؛ لِأنَّ المِلَّةَ في مَعْنى الدِّينِ، ألا تَرى أنَّها قَدْ أُبْدِلَتْ مِنَ الدِّينِ في قَوْلِهِ - جَلَّ وعَزَّ -: ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ [الأنعام: ١٦١] ؟ فَإذا جَعَلْتَ حَنِيفًا حالًا مِنَ المِلَّةِ، فالنّاصِبُ لَهُ هو النّاصِبُ لِلْمِلَّةِ، وتَقْدِيرُهُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا، وإنَّما ضَعِّفَ الحالُ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ العامِلَ في الحالِ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ هو العامِلَ في ذِي الحالِ. انْتَهى كَلامُهُ. وتَكُونُ حالًا لازِمَةً؛ لِأنَّ دِينَ إبْراهِيمَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الحَنِيفِيَّةِ، وكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِن جَعْلِ حَنِيفًا حالًا مِن إبْراهِيمَ أنْ يَكُونَ حالًا لازِمَةً؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الحَنِيفِيَّةِ. والحَنِيفُ: هو المائِلُ عَنِ الأدْيانِ كُلِّها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ أوِ المائِلُ عَمّا عَلَيْهِ العامَّةُ، قالَهُ الزَّجّاجُ، أوِ المُسْتَقِيمُ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ؛ أوِ الحاجُّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا؛ وابْنُ الحَنَيفِيَّةِ، أوِ المُتَّبِعُ، قالَهُ مُجاهِدٌ؛ أوِ المُخَلِّصُ، قالَهُ السُّدِّيُّ؛ أوِ المُخالِفُ لِلْكُلِّ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ؛ أوِ المُسْلِمُ، قالَهُ الضَّحّاكُ، قالَ: فَإذا جُمِعَ الحَنِيفُ مَعَ المُسْلِمِ فَهو الحاجُّ، أوِ المُخْتَتِنُ. أوِ الحَنَفُ: هو الِاخْتِتانُ، وإقامَةُ المَناسِكِ، وتَحْرِيمُ الأُمَّهاتِ والبَناتِ والأخَواتِ والعَمّاتِ والخالاتِ، عَشْرَةُ أقْوالٍ مُتَقارِبَةٍ في المَعْنى. وإنَّما خُصَّ إبْراهِيمُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ، وإنْ كانُوا كُلُّهم مائِلِينَ إلى الحَقِّ، مُسْتَقِيمِي الطَّرِيقَةِ حُنَفاءَ؛ لِأنَّ اللَّهَ اخْتَصَّ إبْراهِيمَ بِالإمامَةِ، لِما سَنَّهُ مِن مَناسِكِ الحَجِّ والخِتانِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن شَرائِعِ الإسْلامِ، مِمّا يُقْتَدى بِهِ إلى قِيامِ السّاعَةِ. وصارَتِ الحَنِيفِيَّةُ عَلَمًا مُمَيِّزًا بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ. وسُمِّيَ بِالحَنِيفِ: مَنِ اتَّبَعَهُ واسْتَقامَ عَلى هَدْيِهِ، وسُمِّي المُنْكِثُ عَلى مِلَّتِهِ بِسائِرِ أسْماءِ المِلَلِ، فَقِيلَ: يَهُودِيٌّ ونَصْرانِيٌّ ومَجُوسِيٌّ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن ضُرُوبِ النِّحَلِ. ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾: أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ وثَنًا، ولا شَمْسًا، ولا قَمَرًا، ولا كَوْكَبًا، ولا شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ تَعالى. وكانَ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مِلَّتَهُ مُخالِفَةٌ لِمِلَّةِ اليَهُودِ والنَّصارى، ولِذَلِكَ أضْرَبَ بِـ”بَلْ“ عَنْهُما، فَثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا. وكانَتِ العَرَبُ مِمَّنْ تَدِينُ بِأشْياءَ مِن دِينِ إبْراهِيمَ، ثُمَّ كانَتْ تُشْرِكُ، فَنَفى اللَّهُ عَنْ (p-٤٠٧)إبْراهِيمَ أنْ يَكُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ. وقِيلَ: في الآيَةِ تَعْرِيضٌ بِأهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهم يَدَّعِي اتِّباعَ إبْراهِيمَ، وهو عَلى الشِّرْكِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإشْراكُ اليَهُودِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠]، وإشْراكُ النَّصارى بِقَوْلِهِمْ: ﴿المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠]، وإشْراكُ غَيْرِهِما بِعِبادَةِ الأوْثانِ وغَيْرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب