قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ الآية، المحو [["تهذيب اللغة" (محا) 4/ 3347.]] ذهاب أثر الكتابة، يقال: محاه يمحو ويمحاه أيضًا محوًا، وطيئ تقول: محيته محيًا، وأمحى الشيء وامتحى، إذا ذهب أثره.
وقوله تعالى: ﴿وَيُثْبِتُ﴾ قال النحويون [["الحجة" 5/ 20.]] أراد ويثبته. واستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني، والعرب تفعل ذلك كثيراً، كقوله تعالى ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:35] وقول الشاعر [[هو الكميت يمدح آل البيت، انظر: "المحتسب" 1/ 183، و"الخزانة" 4/ 5، و"العين" 2/ 413، و"الهمع" 1/ 152، و"الدرر" 1/ 134، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (692)، و"المقاصد النحوية" 2/ 413.]]:
بأيّ كِتَابٍ أم بأيَّةِ سنةٍ ... ترى حُبَّهُم عارًا عليَّ وتَحسِبُ
فلم يعمل الثاني.
وقوله تعالى: ﴿وَيُثْبِتُ﴾ قرئ [[قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ﴿وَيُثْبِتُ﴾ ساكنه الثاء خفيفة الباء "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (692)، و"المقاصد النحوية" 2/ 413، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿وَيُثَبِّت﴾ مفتوحة الثاء مشددة الباء.
انظر: "السبعة" ص 359، و"إتحاف" ص 270، و"زاد المسير" 4/ 337، والقرطبي 9/ 329.]] بالتخفيف والتشديد، فمن خفف ذهب إلى أن الإثبات ضد المحو، لا التثبيت، فلما كان في مقابلة المحو كان التخفيف أولى من التشديد، ولأن التشديد للتكثير، وليس القصد بالمحو التكثير، وكذلك ما يكون في مقابلته، ومن يشدد احتج بقوله ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 36]. وقوله تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا﴾ [الأنفال: 12] لأن يثبت مطاوع ثبت، واختلفوا في تفسير هذه الآية، فذهب قوم إلى أنها عامة في كل شيء، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله تعالى يمحو من الرزق ويزيد فيه ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة، وهو مذهب عمر [[الطبري 13/ 167، 168، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 132، الثعلبي 7/ 141 أ، و"زاد المسير" 4/ 337، والقرطبي 9/ 330، و"تفسير كتاب الله العزيز" 20/ 314.]] وابن مسعود [[الطبري 13/ 168، وابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن أبي الدنيا في "الدعاء" كما في "الدر"، وابن المنذر والطبراني كما في "الدر" 4/ 123، والثعلبي 7/ 141 أ، و"زاد المسير" 4/ 337، والقرطبي 9/ 330.]] وابن وائل [[الطبري 13/ 167، الثعلبي 7/ 141، و"زاد المسير" 4/ 337، القرطبي 9/ 330.]]، وهؤلاء كانوا يدعون الله أن يثبتهم سعداء، ويمحو شقاوتهم من الكتاب إن أثبت فيه، ويروى هذا عن النبي ﷺ، رواه أبو صالح عن عبد الله بن رئاب [[هو: عبد الله بن رياب، قال ابن فتحون في "أوهام الاستيعاب" عن ابن علي حسن ابن خلف أنه أحد السبعة أو الثمانية السابقين من الأنصار إلى الإسلام. انظر: "الإصابة" 2/ 307.]] عن جابر [[الطبري 13/ 168 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي ﷺ، وعلق أحمد شاكر بقوله: محمد بن السائب الكلبي النسابة المفسر، متكلم فيه بما لا يحتمل الرواية عنه.
وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" مختصرًا 3/ 3/ 114، وخرجه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 123، و"زاد نسبته" إلى ابن مردويه، ونقله ابن كثير في "تفسيره" 2/ 570.
وفي الثعلبي 7/ 140 ب، بالسند الذي ذكره الطبري خلافًا لما في المتن -هنا- حيث قال أبو صالح عن عبد الله بن رئاب عن جابر.
وانظر: "الدر المنثور" 4/ 123.]] مثل ما ذكرنا من المعنى.
وهذا قول ابن عباس [[الطبري 13/ 168.]] في رواية سعيد بن جبير، قال: أم الكتاب عند الله من الشقاوة والسعادة ويمحو الله ما يشاء من ذلك ويثبت، وذهب قوم إلى أن هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، فروى ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: " ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ إلا الشقاوة والسعادة، والموت" [[قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 127: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه محمد بن جابر اليمامي، وهو ضعيف من غير تعمد كذب، وقال السيوطي في "الدر" 4/ 123، أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه بسند ضعيف، وأخرجه الثعلبي بسنده 7/ 140 ب.
وروي عن ابن عباس ومجاهد نحوه كما سيأتي.]] ونحو هذا روي عن ابن عباس [[الثعلبي 7/ 140 ب، القرطبي 9/ 329، وقد روى عن ابن عباس استثناء الشقاوة والسعادة والحياة والموت فقط. انظر: الطبري 13/ 166، 167، و"زاد المسير" 4/ 337.]] وزاد في المستثنى ثلاثة أخرى: الخَلْق والخُلُق والرزق، وقال مجاهد [[الطبري 13/ 166، وابن المنذر كما في "الدر" 4/ 125، و"زاد المسير" 4/ 338، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 313.]] فيما روى عنه منصور: الشقاء والسعادة [[في (ب): زيادة واو (ولا يغيران).]] لا يغيران.
وقال ابن عباس [["زاد المسير" 4/ 338، و"تنوير المقباس" ص 159، والثعلبي 7/ 140 ب.]] في رواية أبي صالح: إن الذي يمحوه الله ويثبته ما يصعد به الحفظة مكتوبًا على بني آدم، فيأمر جل وعز أن يثبت عليه ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط عنه ما لا ثواب فيه ولا عقاب، وهذا القول اختيار الفراء [["معاني القرآن" 2/ 66.]]، وقول الضحاك [["زاد المسير" 4/ 338، الثعلبي 7/ 140 ب، القرطبي 9/ 331.]] والكلبي [[الطبري 13/ 168، الثعلبي 7/ 141 أ، "زاد المسير" 4/ 338، القرطبي 9/ 331.]].
وقال آخرون: هذا المحو والإثبات في الآجال والأرزاق إذا ولد الإنسان أثبت أجله ورزقه، وإذا مات محيا. وهذا [[في (أ)، (ب): (وهو).]] القول يروى عن الحسن [[الطبري 13/ 189، وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 126، والثعلبي 7/ 141 ب، و"زاد المسير" 4/ 338، والقرطبي 9/ 332، و"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 313، 314.]] والقرظي [[الثعلبي 7/ 141 ب.]].
وقال سعيد بيت جبير [[الثعلبي 7/ 141 ب، القرطبي 9/ 331.]] وقتادة [[الطبري 13/ 168، الثعلبي 7/ 141 ب، القرطبي 9/ 331.]] يمحو الله ما يشاء من الشرائع، فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وهذا القول هو اختيار أبي علي [["الحجة" 5/ 21.]]، قال: هذا -والله أعلم- فيما يحتمل النسخ والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح على حسب الأوقات، فأما ما كان من غير ذلك فلا يمحى ولا يبدل، وهذه الآية يجوز أن تكون مستأنفة غير متصلة بما قبلها، ويجوز أن تكون متصلة، على أن يكون قوله: ﴿يَمْحُو اللَّهُ﴾ من صفة النكرة التي هي قوله: ﴿كِتَابٌ﴾ على تقدير: لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء من ذلك الكتاب ويثبت، والراجع إلى النكرة محذوف.
فإن قيل: ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف به القلم؟ وليس الأمر بأنف؟ وكيف يستقيم مع هذا المحو والإثبات أيضًا مما جف به القلم؟ فلا يمحو إلا ما سبق في حكمه وقضائه محوه، وهذا معنى قوله: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قال ابن عباس [[الطبرى 13/ 170، والثعلبي 7/ 140 ب، و"زاد المسير" 4/ 339، و"تفسيركتاب الله العزيز" 2/ 314.]]: يريد اللوح المحفوظ، الذي لا يبدل ولا يغير منه شيء، هذا قوله في رواية عطاء وعكرمة، ومعنى (أم الكتاب) أصل الكتاب، والعرب تسمي كل شيء ضم إليه سائر ما يليه أُمًّا، من ذلك: أم الرأس، وهو الدماغ، وأم القرى مكة، وكل مدينة هي أم ما حولها من القرى، وكذلك أم الكتاب هو أجل لكل ما كتب على ابن آدم، وكل ما يجري من الكائنات والحادثات، قال كعب [[الطبري 13/ 170، عبد الرزاق 2/ 338، ابن كثير 2/ 571،"تفسير كتاب الله العزيز" 2/ 314.]]: علم الله ما هو خالقه، وما خَلْقُه عاملون، فقال لعلومه [[في (أ)، (ج): (لعكومه). هكذا بالجمع في الروايات وعند عبد الرزاق 2/ 338 من رواية ابن عباس عن كعب (.. ثم قال لعلمه: كن كتابًا فكان كتابًا).]]: كن كتابًا، فكان كتابًا، فهذا يدل على أن ما سبق في علمه أنه يمحى أو [[في (ب): بالواو (يمحى ويثبت).]] يثبت فلا [[في (ب): (ولا يمحى).]] يمحى في أم الكتاب، وأن المحو والإثبات مما سبق به القضاء.
وهل يمحى من أم الكتاب أم لا؟
يدل قول بعض المفسرين على أنه لا يمحى منه، فقد قال عكرمة عن ابن عباس [[الطبري 13/ 167، 169، ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه كما في "الدر" 4/ 660، والثعلبي 7/ 140 ب، و"زاد المسير" 4/ 339، والقرطبي 9/ 329.]]: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء، وقول أكثرهم يدل أنه يُمحى منه ويثبت، وهو قول قتادة [[الطبري 13/ 169.]] والضحاك [[الطبري 13/ 168، و"الدر" 4/ 125.]] وابن جريج [[الطبري 13/ 169.]] فيما روى عن عطاء عن ابن عباس، ونحوه روى أبو الدرداء عن النبي ﷺ قال: "إن الله سبحانه في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء" [[الطبري 13/ 170، وعلق عليه أحمد شاكر: منكر، وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني كما في "الدر" 4/ 122، ابن كثير 2/ 570، الثعلبي 7/ 142 أ. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 154، 155: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" و"البزار" بنحوه، وفيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث. اهـ.]].
{"ayah":"یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ"}