﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ أيْ يَنْسَخُ ما يَشاءُ نَسْخَهُ مِنَ الأحْكامِ لِما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ بِحَسَبِ الوَقْتِ ﴿ويُثْبِتُ﴾ بَدَلَهُ ما فِيهِ الحِكْمَةُ أوْ يُبْقِيهِ عَلى حالِهِ غَيْرَ مَنسُوخٍ أوْ يُثْبِتُ ما يَشاءُ إثْباتَهُ مُطْلَقًا أعَمُّ مِنهُما ومِنَ الإنْشاءِ ابْتِداءً وقالَ عِكْرِمَةُ: يَمْحُو بِالتَّوْبَةِ جَمِيعَ الذُّنُوبِ ويُثْبِتُ بَدَلَ ذَلِكَ حَسَناتٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ مِن ذُنُوبِ عِبادِهِ ويَتْرُكُ ما يَشاءُ فَلا يَغْفِرُهُ وقالَ: يَمْحُو ما يَشاءُ مِمَّنْ حانَ أجَلُهُ ويُثْبِتُ ما يَشاءُ مِمَّنْ لَمْ يَأْتِ أجَلُهُ وقالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: يَمْحُو مَن يَشاءُ مِنَ القُرُونِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ﴾ ويُثْبِتُ ما يَشاءُ مِنها لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ﴾ وقالَ الرَّبِيعُ: هَذا في الأرْواحِ حالَةَ النَّوْمِ يَقْبِضُها اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ فَمَن أرادَ مَوْتَهُ فَجْأةً أمْسَكَ رُوحَهُ فَلَمْ يُرْسِلْها ومَن أرادَ بَقاءَهُ أرْسَلَ رُوحَهُ بَيانُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾ الآيَةَ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ يَمْحُو مِن دِيوانِ الحَفَظَةِ ما لَيْسَ بِحَسَنَةٍ ولا بِسَيِّئَةٍ لِأنَّهم مَأْمُورُونَ بِكَتْبِ كُلِّ قَوْلٍ وفِعْلٍ ويُثْبِتُ ما هو حَسَنَةٌ أوْ سَيِّئَةٌ وقِيلَ: يَمْحُو بَعْضَ الخَلائِقِ ويُثْبِتُ بَعْضًا مِنَ الأناسِيِّ وسائِرِ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ والأشْجارِ وصِفاتِها وأحْوالِها وقِيلَ: يَمْحُو الدُّنْيا ويُثْبِتُ الآخِرَةَ وقالَ الحَسَنُ وفِرْقَةٌ: ذَلِكَ في آجالِ بَنِي آدَمَ يَكْتُبُ سُبْحانَهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ وقِيلَ: في لَيْلَةِ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ آجالَ المَوْتى فَيَمْحُو أُناسًا مِن دِيوانِ الأحْياءِ ويُثْبِتُهم في دِيوانِ الأمْواتِ وقالَ السُّدِّيُّ: يَمْحُو القَمَرَ ويُثْبِتُ الشَّمْسَ بَيانُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً﴾ وفي رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما يَمْحُو اللَّهُ تَعالى ما يَشاءُ مِن أُمُورِ عِبادِهِ ويُثْبِتُ إلّا السَّعادَةَ والشَّقاوَةَ والآجالَ فَإنَّها لا مَحْوَ فِيها ورَواهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا ابْنُ مَرْدُوَيْهِ وقِيلَ: هو عامٌّ في الرِّزْقِ والأجَلِ والسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ ونُسِبَ إلى جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ وكانُوا يَتَضَرَّعُونَ إلى اللَّهِ تَعالى أنْ يَجْعَلَهم سُعَداءَ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ وغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: ما دَعا عَبْدٌ قَطُّ بِهَذِهِ الدَّعَواتِ إلّا وُسِّعَ عَلَيْهِ في مَعِيشَتِهِ يا ذا المَنِّ ولا يُمَنُّ عَلَيْهِ يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ يا ذا الطَّوْلِ لا إلَهَ إلّا أنْتَ ظَهْرُ اللّاجِئِينَ وجارِ المُسْتَجِيرِينَ ومَأْمَنُ الخائِفِينَ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ في أُمِّ الكِتابِ شَقِيًّا فامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقاوَةِ وأثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا وإنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ في أُمِّ الكِتابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فامْحُ حِرْمانِيَ ويَسِّرْ رِزْقِيَ وأثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ فَإنَّكَ تَقُولُ في كِتابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: وهو يَطُوفُ بِالبَيْتِ: اللَّهُمَّ (p-170)إنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أوْ ذَنْبًا فامْحُهُ واجْعَلْهُ سَعادَةً ومَغْفِرَةً فَإنَّكَ تَمْحُو ما تَشاءُ وتُثْبِتُ وعِنْدَكَ أُمُّ الكِتابِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شَقِيقِ أبِي وائِلٍ أنَّهُ كانَ يُكْثِرُ الدُّعاءَ بِهَذِهِ الدَّعَواتِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنا أشْقِياءَ فامْحُنا واكْتُبْنا سُعَداءَ وإنْ كُنْتَ كَتَبْتَنا سُعَداءَ فَأثْبِتْنا فَإنَّكَ تَمْحُو ما تَشاءُ وتُثْبِتُ.
وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وغَيْرُهُ عَنِ الكَلْبِيِّ أنَّهُ قالَ: «يَمْحُو اللَّهُ تَعالى مِنَ الرِّزْقِ ويَزِيدُ فِيهِ ويَمْحُو مِنَ الأجَلِ ويَزِيدُ فِيهِ» فَقِيلَ لَهُ: مَن حَدَّثَكَ بِهَذا فَقالَ: أبُو صالِحٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئابٍ الأنْصارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأبُو حَيّانَ يَقُولُ: إنْ صَحَّ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ يَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ فَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ السَّعادَةَ والشَّقاوَةَ والرِّزْقَ والأجَلَ لا يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ مِنها وإلى التَّعْمِيمِ ذَهَبَ شَيْخُ الإسْلامِ قالَ بَعْدَ نَقْلِ كَثِيرٍ مِنَ الأقْوالِ: والأنْسَبُ تَعْمِيمُ كُلٍّ مِنَ المَحْوِ والإثْباتِ لِيَشْمَلَ الكُلَّ ويَدْخُلُ في ذَلِكَ مَوارِدُ الإنْكارِ دُخُولًا أوَّلِيًّا وما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبٍ مِن أنَّهُ قالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَوْلا آيَةً في كِتابِ اللَّهِ تَعالى لَأنْبَأْتُكَ بِما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ قالَ: وما هي قالَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ الآيَةَ يُشْعِرُ بِذَلِكَ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المَحْوَ والإثْباتَ إذا كانا بِالنِّسْبَةِ إلى ما في أيْدِي المَلائِكَةِ ونَحْوِهِ فَلا فَرْقَ بَيْنَ السَّعادَةِ والشَّقاوَةِ والرِّزْقِ والأجَلِ وبَيْنَ غَيْرِها في أنَّ كُلًّا يَقْبَلُ المَحْوَ والإثْباتَ وإنْ كانا بِالنِّسْبَةِ إلى ما في العِلْمِ فَلا فَرْقَ أيْضًا بَيْنَ تِلْكَ الأُمُورِ وبَيْنَ غَيْرِها في أنَّ كُلًّا لا يَقْبَلُ ذَلِكَ لِأنَّ العِلْمَ إنَّما تَعَلَّقَ بِها عَلى ما هي عَلَيْهِ في نَفْسِ الأمْرِ وإلّا لَكانَ جَهْلًا وما في نَفْسٍ الأمْرِ مِمّا لا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّغَيُّرُ والتَّبَدُّلُ وكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَغَيُّرُ زَوْجِيَّةِ الأرْبَعَةِ مَثَلًا وانْقِلابُها إلى الفَرْدِيَّةِ مَعَ بَقاءِ الأرْبَعَةِ أرْبَعَةً هَذا مِمّا لا يَكُونُ أصْلًا ولا أظُنُّكَ في مِرْيَةٍ مِن ذَلِكَ ولا يَأْبى هَذا عُمُومُ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى كانَ لِأنَّ المَشِيئَةَ تابِعَةٌ لِلْعِلْمِ والعِلْمَ بِالشَّيْءِ تابِعٌ لِما عَلَيْهِ الشَّيْءُ في نَفْسِ الأمْرِ فَهو سُبْحانَهُ لا يَشاءُ إلّا ما عَلَيْهِ الشَّيْءُ في نَفْسِ الأمْرِ قِيلَ: ويُشِيرُ إلى أنَّ ما في العِلْمِ لا يَتَغَيَّرُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ . (39) . بِناءً عَلى أنَّ أُمَّ الكِتابِ هو العِلْمُ لِأنَّ جَمِيعَ ما يُكْتَبُ في صُحُفِ المَلائِكَةِ وغَيْرِها لا يَقَعُ حَيْثُما يَقَعُ إلّا مُوافِقًا لِما ثَبَتَ فِيهِ فَهو أُمٌّ لِذَلِكَ أيِ أصْلٌ لَهُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: يَمْحُو ما يَشاءُ مَحْوَهُ ويُثْبِتُ ما يَشاءُ إثْباتَهُ مِمّا سُطِّرَ في الكُتُبِ وثابِتٌ عِنْدَهُ العِلْمُ الأزَلِيُّ الَّذِي لا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا عَلى وفْقِ ما فِيهِ وتَفْسِيرُ أُمِّ الكِتابِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعالى مِمّا رَواهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ والمَشْهُورُ أنَّها اللَّوْحُ المَحْفُوظُ قالُوا: وهو أصْلُ الكُتُبِ إذْ ما مِن شَيْءٍ مِنَ الذّاهِبِ والثّابِتِ إلّا وهو مَكْتُوبٌ فِيهِ كَما هو.
والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ الذّاهِبُ والثّابِتُ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيا لا مِمّا يَتَعَلَّقُ بِها وبِالآخِرَةِ أيْضًا لِقِيامِ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ عَلى تَناهِي الأبْعادِ مُطْلَقًا والنَّقْلِيِّ عَلى تَناهِي اللَّوْحِ بِخُصُوصِهِ فَقَدْ جاءَ أنَّهُ مِن دُرَّةٍ بَيْضاءَ لَهُ دَفَّتانِ مِن ياقُوتٍ طُولُهُ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ وامْتِناعُ ظَرْفِيَّةِ المُتَناهِي لِغَيْرِ المُتَناهِي ضَرُورِيٌّ ولَعَلَّ مَن يَقُولُ بِعُمُومِ الذّاهِبِ والثّابِتِ يَلْتَزِمُ القَوْلَ بِالإجْمالِ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّفْصِيلُ وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهم إلى تَفْسِيرِ أُمِّ الكِتابِ بِما هو المَشْهُورُ والتَزَمَ القَوْلَ بِأنَّ ما فِيهِ لا يَتَغَيَّرُ وإنَّما التَّغَيُّرُ لِما في الكُتُبِ غَيْرِهِ وهَذا قائِلٌ بِعَدَمِ تَغَيُّرِ ما في العِلْمِ لِما عَلِمْتَ ورَأيْتَ في نُسْخَةٍ لِبَعْضٍ الأفاضِلِ كانَتْ عِنْدِي وفُقِدَتْ في حادِثَةِ بَغْدادَ أُلِّفَتْ في هَذِهِ المَسْألَةِ وفِيها أنَّهُ ما مِن شَيْءٍ إلّا ويُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ وتَبْدِيلُهُ حَتّى القَضاءُ الأزَلِيُّ واسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنها أنَّهُ قَدْ صَحَّ مِن دُعائِهِ (p-171)صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في القُنُوتِ: «وقِنِي شَرَّ ما قَضَيْتَ» وفِيهِ طَلَبُ الحِفْظِ مِن شَرِّ القَضاءِ الأوَّلِيِّ ولَوْ لَمْ يُمْكِنْ تَغْيِيرُهُ ما صَحَّ طَلَبُ الحِفْظِ مِنهُ ومِنها ما صَحَّ في حَدِيثِ التَّراوِيحِ مِن عُذْرِهِ ﷺ عَنِ الخُرُوجِ إلَيْها وقَدِ اجْتَمَعَ النّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ لِمَزِيدِ رَغْبَتِهِمْ فِيها بِقَوْلِهِ: «خَشِيتُ أنْ تُفْرِضَ عَلَيْكم فَتَعْجِزُوا عَنْها» فَإنَّهُ لا مَعْنى لِهَذِهِ الخَشْيَةِ لَوْ كانَ القَضاءُ الأزَلِيُّ لا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ فَإنَّهُ إنْ كانَ قَدْ سَبَقَ القَضاءُ بِأنَّها سَتُفْرَضُ فَلا بُدَّ أنْ تُفْرَضَ وإنْ سَبَقَ القَضاءُ بِأنَّها لا تُفْرَضُ فَمُحالٌ أنْ تُفْرَضَ عَلى ذَلِكَ الفَرْضِ عَلى أنَّهُ قَدْ جاءَ في حَدِيثِ فَرْضِ الصَّلاةِ لَيْلَةَ المِعْراجِ بَعْدُ ما هو ظاهِرٌ في سَبْقِ القَضاءِ بِأنَّها خَمْسُ صَلَواتٍ مَفْرُوضَةٍ لا غَيْرَ فَما مَعْنى الخَشْيَةِ بَعْدَ العِلْمِ بِذَلِكَ لَوْلا العِلْمُ بِإمْكانِ التَّغْيِيرِ والتَّبْدِيلِ ومِنها ما صَحَّ أنَّهُ ﷺ كانَ يَضْطَرِبُ حالُهُ الشَّرِيفُ لَيْلَةَ الهَواءِ الشَّدِيدِ حَتّى أنَّهُ لا يَنامُ وكانَ يَقُولُ في ذَلِكَ: أخْشى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ فَإنَّهُ لا مَعْنى لِهَذِهِ الخَشْيَةِ أيْضًا مَعَ إخْبارِ اللَّهِ تَعالى أنَّ بَيْنَ يَدَيْها ما لَمْ يُوجَدْ إذْ ذاكَ كَظُهُورِ المَهْدِيِّ وخُرُوجِ الدَّجّالِ ونُزُولِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وخُرُوجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ودابَّةِ الأرْضِ وطُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَسْتَدْعِي تَحَقُّقُهُ زَمانًا طَوِيلًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَعْلَمُ أنَّ القَضاءَ يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ وإنَّ ما قُضِيَ مِن أشْراطِها يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ ما خَشِيَ ﷺ مِن ذَلِكَ ومِنها أنَّ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ كانُوا مِن أشَدِّ النّاسِ خَوْفًا مِنَ النّارِ حَتّى أنَّ مِنهم مَن كانَ يَقُولُ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وكانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَقُولُ: لَوْ نادى مُنادٍ كُلُّ النّاسِ في الجَنَّةِ إلّا واحِدًا لَظَنَنْتُ أنِّي ذَلِكَ الواحِدُ وهَذا مِمّا لا يَنْبَغِي لَهُ مَعَ إخْبارِ الصّادِقِ وتَبْشِيرِهِ لَهُ بِالجَنَّةِ والعِلْمُ بِأنَّ القَضاءَ لا يَتَغَيَّرُ ومِنها أنَّهُ لَوْلا إمْكانُ التَّغْيِيرِ لَلَغا الدُّعاءُ إذِ المَدْعُوُّ بِهِ إمّا أنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ القَضاءُ بِكَوْنِهِ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ وإلّا فَمُحالٌ أنْ يَكُونَ وطَلَبُ ما لا بُدَّ أنْ يَكُونَ أوْ مُحالٌ أنْ يَكُونَ لَغْوٌ مَعَ أنَّهُ قَدْ ورَدَ الأمْرُ بِهِ والقَوْلُ بِأنَّهُ لِمُجَرَّدِ إظْهارِ العُبُودِيَّةِ والِافْتِقارِ إلى اللَّهِ تَعالى وكَفى بِذَلِكَ فائِدَةٌ يَأْباهُ ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وأيْضًا أخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لا يَنْفَعُ الحَذَرُ مِنَ القَدَرِ ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى يَمْحُو بِالدُّعاءِ ما يَشاءُ مِنَ القَدَرِ وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ «أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ الآيَةَ فَقالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَأُقِرَّنَّ عَيْنَكَ بِتَفْسِيرِها ولَأُقِرَّنَّ عَيْنَ أُمَّتِي بَعْدِي بِتَفْسِيرِها الصَّدَقَةُ عَلى وجْهِها وبِرُّ الوالِدَيْنِ واصْطِناعُ المَعْرُوفِ يُحَوِّلُ الشَّقاءَ سَعادَةً ويَزِيدُ في العُمْرِ ويَقِي مَصارِعَ السُّوءِ» وهَذا لا يَكادُ يُعْقَلُ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ القَضاءَ لا يَتَغَيَّرُ وفي الأخْبارِ والآثارِ مِمّا هو ظاهِرٌ في إمْكانِ التَّغْيِيرِ ما لا يُحْصى كَثْرَةً ولَعَلَّ مِن ذَلِكَ الدُّعاءَ المارَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ إنَّ القَضاءَ المُعَلَّقَ يَرْجِعُ في المَآلِ إلى القَضاءِ المُبْرَمِ عِنْدَ مُثْبِتِهِ فَلا يُفِيدُهُ التَّعَلُّقُ بِذَلِكَ في وقْعِ ما يَرِدُ عَلَيْهِ ودَفْعِ ما يَرِدُ عَلى القَوْلِ بِالتَّغَيُّرِ مِن أنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ التَّغَيُّرُ في ذاتِهِ تَعالى لِما أنَّهُ يَنْجَرُّ إلى تَغَيُّرِ العِلْمِ وهو يُوجِبُ التَّغَيُّرَ في ذاتِهِ تَعالى مِن صِفَةٍ إلى أُخْرى أوْ يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ الجَهْلُ وهَذا مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّبْهَةِ الَّتِي ذَكَرَها جُمْهُورُ الفَلاسِفَةِ في نَفْيِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِالجُزْئِيّاتِ المُتَغَيِّرَةِ فَإنَّهم قالُوا: إنَّهُ تَعالى إذا عَلِمَ مَثَلًا أنَّ زَيْدًا في الدّارِ الآنَ ثُمَّ خَرَجَ عَنْها فَإمّا أنْ يَزُولَ ذَلِكَ العِلْمُ ولا يَعْلَمُ سُبْحانَهُ أنَّهُ في الدّارِ أوْ يَبْقى ذَلِكَ العِلْمُ بِحالِهِ والأوَّلُ يُوجِبُ التَّغَيُّرَ في ذاتِهِ سُبْحانَهُ والثّانِي يُوجِبُ الجَهْلَ وكِلاهُما نَقْصٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ بِما دَفَعُوا بِهِ تِلْكَ الشُّبْهَةَ وهو ما ذُكِرَ في المَواقِفِ وشَرْحُهُ مِن مَنعِ لُزُومِ التَّغَيُّرِ فِيهِ تَعالى بَلِ التَّغَيُّرُ إنَّما هو في الإضافاتِ لِأنَّ العِلْمَ عِنْدَنا إضافَةٌ مَخْصُوصَةٌ وتَعَلُّقٌ بَيْنَ العالِمِ والمَعْلُومِ أوْ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ذاتُ إضافَةٍ فَعَلى الأوَّلِ يَتَغَيَّرُ نَفْسُ العِلْمِ وعَلى الثّانِي يَتَغَيَّرُ إضافاتُهُ فَقَطْ وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لا يَلْزَمُ تَغَيُّرٌ في صِفَةٍ مَوْجُودَةٍ (p-172)بَلْ في مَفْهُومٍ اعْتِبارِيٍّ وهو جائِزٌ وأجابَ كَثِيرٌ مِنَ الأشاعِرَةِ والمُعْتَزِلَةِ بِأنَّ العِلْمَ بِأنَّ الشَّيْءَ وُجِدَ والعِلْمَ بِأنَّهُ سَيُوجَدُ واحِدٌ فَإنَّ مَن عَلِمَ أنَّ زَيْدًا سَيَدْخُلُ البَلَدَ غَدًا فَعِنْدَ حُصُولِ الغَدِ يُعْلَمُ بِهَذا العِلْمِ بِأنَّهُ دَخَلَ البَلَدَ الآنَ إذا كانَ عِلْمُهُ هَذا مُسْتَمِرًّا بِلا غَفْلَةٍ مُزِيلَةٍ لَهُ وإنَّما يَحْتاجُ أحَدُنا إلى عِلْمٍ آخَرَ مُتَجَدِّدٍ يَعْلَمُ بِهِ أنَّهُ دَخَلَ الآنَ لَطَرَيانِ الغَفْلَةِ عَنِ الأوَّلِ والبارِي تَعالى يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الغَفْلَةُ فَكانَ عِلْمُهُ سُبْحانَهُ بِأنَّهُ وُجِدَ عَيْنُ عِلْمِهِ بِأنَّهُ سَيُوجَدُ فَلا يَلْزَمُ مِن تَغَيُّرِ المَعْلُومِ تَغَيُّرٌ في العِلْمِ ونِهايَةُ كَلامِهِ في هَذا المَقامِ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَتَغَيَّرَ ما في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى وإلّا لَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ الفِعْلُ أوِ التَّرْكُ وفِيهِ مِنَ الحَجْرِ عَلَيْهِ جَلَّ جَلالُهُ ما لا يَخْفى ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ التَّغَيُّرِ سِوى التَّغَيُّرِ في التَّعَلُّقاتِ وهو غَيْرُ ضارٍّ واعْتُرِضَ بِأنَّهُ عَلى هَذا القَوْلِ لا يَبْقى وُثُوقٌ بِشَيْءٍ مِنَ الأخْبارِ الغَيْبِيَّةِ كالحَشْرِ والنَّشْرِ وكَذا لا يَبْقى وُثُوقٌ بِالأخْبارِ بِأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ خاتَمُ النَّبِيِّينَ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ حِينَ أخْبَرَ ثُمَّ تَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِخِلافِهِ لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ لَمْ يُخْبِرْ ولا نَقْصَ في الإخْبارِ الأوَّلِ لِأنَّهُ إخْبارٌ عَمّا كانَ مُتَعَلِّقَ العِلْمِ إذْ ذاكَ وأيْضًا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ نَفْيُ نَفْسِ الأمْرِ أوْ نَفْيُ كَوْنِ تَعَلُّقِ العِلْمِ عَنْ وقْفِهِ وكِلا النَّفِيَّيْنِ كَما تَرى يَقِي الجَوابَ عَمّا تَمَسَّكَ بِهِ وهو عَنْ بَعْضٍ ظاهِرٌ وعَنْ بَعْضٍ يَحْتاجُ إلى تَأمُّلٍ فَتَأمَّلْ واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ بَعْضُ الشِّيعَةِ القائِلِينَ بِجَوازِ البَداءِ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وفِيهِ ما فِيهِ هَذا.
ويَخْطُرُ لِي في الآيَةِ مَعْنًى لَمْ أرَ مَن ذَكَرَهُ وهو أنْ يُرادَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ﴾ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا قَبْلَ حِكايَةِ الأقْوالِ وهو مِمّا رَواهُ البَيْهَقِيُّ في المَدْخَلِ وغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ ويُخَصَّصُ ذَلِكَ بِالأحْكامِ الفَرْعِيَّةِ ويُرادُ بِأُمِّ الكِتابِ الأحْكامُ الأصْلِيَّةُ فَإنَّها مِمّا لا تَقْبَلُ النَّسْخَ وهي أصْلٌ لِكُلِّ كِتابٍ بِاعْتِبارِ أنَّ الأحْكامَ الفَرْعِيَّةَ الَّتِي فِيهِ إنَّما تَصِحُّ مِمَّنْ أتى بِها لَكِنْ لا يُساعِدُ عَلى هَذا المَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ نَعَمْ هو مُناسِبٌ لِلْمَقامِ كَما لا يَخْفى وزَعَمَ الضَّحّاكُ والفَرّاءُ أنَّ في الآيَةِ قَلْبًا والأصْلُ لِكُلِّ كِتابٍ أجَلٌ وتُعُقِّبَ بِأنْ لا يَجُوزَ ادِّعاءُ القَلْبِ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ عَلى أنَّهُ لا داعِيَ إلَيْهِ هُنا بَلْ قَدْ يُدَّعى فَسادُ المَعْنى عَلَيْهِ وأيًّا ما كانَ فَألْ في الكِتابِ لِلْجِنْسِ فَهو شامِلٌ لِلْكَثِيرِ ولِهَذا فَسَّرَهُ غَيْرُ واحِدٍ بِالجَمْعِ وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ ( ويُثَبِّتُ )
{"ayah":"یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ"}