الباحث القرآني

ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْظَمُ ﴿ما يَشاءُ﴾ أيْ مَحْوِهِ (p-٣٦١)مِنَ الشَّرائِعِ والأحْكامِ وغَيْرِها بِالنَّسْخِ فَيَرْفَعُهُ ﴿ويُثْبِتُ﴾ ما يَشاءُ إثْباتَهُ مِن ذَلِكَ بِأنْ يُقِرَّهُ ويَمْضِيَ حُكْمُهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها﴾ [البقرة: ١٠٦] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦] كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ المَصالِحِ التّابِعَةِ لِكُلِّ زَمَنٍ، فَإنَّهُ العالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وهو الفَعّالُ لِما يُرِيدُ لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ، وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في الرِّسالَةِ: يَمْحُو فَرْضَ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ فَرْضَ ما يَشاءُ. وإثْباتُ واوِ ”يَمْحُوا“ في جَمِيعِ المَصاحِفِ مُشِيرٌ - بِما ذَكَرَ أهْلُ اللَّهِ مِن أنَّ الواوَ مَعْناهُ العُلُوُّ والرِّفْعَةُ - إلى أنَّ بَعْضَ المَمْحُواتِ تَبْقى آثارُها عالِيَةً، فَإنَّهُ قَدْ يَمْحُو عُمْرَ شَخْصٍ بَعْدَ أنْ كانَتْ لَهُ آثارٌ جَمِيلَةٌ، فَيُبْقِيها سُبْحانَهُ ويَنْشُرُها ويُعْلِيها، وقَدْ يَمْحُو شَرِيعَةً يَنْسَخُها ويَبْقى مِنها آثارًا صالِحَةً تَدُلُّ عَلى ما أُثْبِتَ مِنَ الشَّرِيعَةِ النّاسِخَةِ لَها، وأمّا حَذْفُها بِاتِّفاقِ المَصاحِفِ أيْضًا في ﴿ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ﴾ [الشورى: ٢٤] في الشُّورى مَعَ أنَّهُ مَرْفُوعٌ أيْضًا، فَلِلْبِشارَةِ بِإزْهاقِ الباطِلِ إزْهاقًا هو النِّهايَةُ - كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وذَلِكَ لِمُشابَهَةِ الفِعْلِ بِالأمْرِ المُقْتَضِي لِتَحَتُّمِ الإيقاعِ بِغايَةٍ الاتْقانِ والدِّفاعِ، وقالَ: ﴿وعِنْدَهُ﴾ مَعَ ذَلِكَ ”أُمُّ“ أيْ أصْلُ ﴿الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣] لِمَن وهْمُهُ مُقَيِّدٌ بِأنَّ الحِفْظَ بِالكِتابَةِ، وهو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ الَّذِي هو أصْلٌ كُلِّ كِتابٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ (p-٣٦٢)غَيْرُ مَرَّةٍ أنَّهُ الكِتابُ المُبِينُ الَّذِي هو بِحَيْثُ يُبَيِّنُ كُلَّ ما طَلَبَ عِلْمَهُ مِنهُ كُلَّما طَلَبَ؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هُما كِتابانِ: كِتابٌ سِوى أُمِّ الكِتابِ، يَمْحُو مِنهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ، وأُمُّ الكِتابِ الَّذِي لا يُغَيَّرُ مِنهُ شَيْءٌ - انْتَهى. والمُرادُ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّهُ يَكُونُ في أُمِّ الكِتابِ أنّا نَفْعَلُ كَذا - وإنْ كانَ في الفَرْعِ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى شَرِيعَةٍ دُونَ أُخْرى، فَإذا نَقَضَتِ الشَّرِيعَةُ الأُولى فَإنّا نَمْحُوهُ في أجْلِ كَذا، أوْ يَكُونُ المَعْنى: يَمْحُو ما يَشاءُ مِن ذَلِكَ الكِتابِ بِأنْ يَعْدَمَ مَضْمُونَهُ بَعْدَ الإيجادِ، ويُثْبِتَ ما يَشاءُ بِأنْ يُوجِدَهُ مِنَ العَدَمِ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ؛ قالَ الرّازِّي في اللَّوامِعِ: وقَدْ أكْثَرُوا القَوْلَ فِيها، وعَلى الجُمْلَةِ فَكُلُّ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ المَشِيئَةُ مِنَ الكائِناتِ فَهو بَيْنُ مَحْوٍ وإثْباتٍ، مَحْوٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الصُّورَةِ الَّتِي ارْتَفَعَتْ، إثْباتٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الصُّورَةِ الثّانِيَةِ، والقَضاءُ الأزَلِيُّ، والمَشِيئَةُ الرَّبّانِيَّةُ مَصْدَرُ هَذا المَحْوِ والإثْباتِ، فَلِذَلِكَ هو القَضاءُ وهَذا هو القَدْرُ، فالقَضاءُ مَصْدَرُ القَدْرِ، والقَدْرُ مَظْهَرُ القَضاءِ، واللَّهُ تَعالى وصِفاتُهُ مُنَزَّةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب