الباحث القرآني

سُورَةُ الجاثِيَةِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿إنَّ في السَّماواتِ والأرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وفِي خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ﴿واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن رِزْقٍ فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآياتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿ويْلٌ لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ ﴿يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿وإذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿هَذا هُدًى والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ ألِيمٌ﴾ ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ ﴿وسَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ جَمِيعًا مِنهُ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ورَزَقْناهم مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهم عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿وآتَيْناهم بَيِّناتٍ مِنَ الأمْرِ فَما اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهم إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ . (p-٤٢)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِلا خِلافٍ، وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا﴾ الآيَةَ، فَمَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ في عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وقالَ النَّحّاسُ، والمَهْدَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في عُمَرَ: شَتَمَهُ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ، فَأرادَ أنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَنَزَلَتْ. ومُناسَبَةُ أوَّلِها لِآخِرِ ما قَبْلَها في غايَةِ الوُضُوحِ. قالَ: ﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ﴾ [الدخان: ٥٨]، وقالَ: (حم تَنْزِيلُ الكِتابِ)، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ أوَّلَ الزُّمُرِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وقَوْلُهُ: (العَزِيزُ الحَكِيمُ)، يَجُوزُ جَعْلُهُ صِفَةً لِلَّهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وإنْ جَعَلْناهُ صِفَةً لِلْكِتابِ، كانَ ذَلِكَ مَجازًا، والحَقِيقَةُ أوْلى مِنَ المَجازِ، مَعَ أنَّ زِيادَةَ القُرْبِ تُوجِبُ الرُّجْحانِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي رَدَّدَ في قَوْلِهِ: وإنْ جَعَلْناهُ صِفَةً لِلْكِتابِ لا يَجُوزُ. لَوْ كانَ صِفَةً لِلْكِتابِ لَوَلِيَهُ، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: تَنْزِيلُ الكِتابِ العَزِيزِ الحَكِيمِ مِنَ اللَّهِ، لِأنَّ مِنَ اللَّهِ، إمّا أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِتَنْزِيلِ، وتَنْزِيلُ خَبَرٌ لِـ حم، أوْ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَلا يَجُوزُ الفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، لا يَجُوزُ أعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ سَوْطُ الفاضِلِ، أوْ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، وتَنْزِيلُ: مُبْتَدَأٌ، فَلا يَجُوزُ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ أيْضًا، لا يَجُوزُ ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدُ الفاضِلِ، والتَّرْكِيبُ الصَّحِيحُ في نَحْوِ هَذا أنْ يَلِيَ الصِّفَةُ مَوْصُوفَها. ﴿إنَّ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾، احْتَمَلَ أنْ يُرِيدَ: في خَلْقِ السَّماواتِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وفِي خَلْقِكُمْ﴾، والظّاهِرُ أنَّهُ لا يُرادُ التَّخْصِيصُ بِالخَلْقِ، بَلْ في السَّماواتِ والأرْضِ عَلى الإطْلاقِ والعُمُومِ، أيْ في أيِّ شَيْءٍ نَظَرْتَ مِنهُما مِن خَلْقٍ وغَيْرِهِ مِن تَسْخِيرٍ وتَنْوِيرٍ وغَيْرِهِما، (لَآياتٍ): لَمْ يَأْتِ بِالآياتِ مُفَصَّلَةً، بَلْ أتى بِها مُجْمَلَةً إحالَةً عَلى غَوامِضَ يُثِيرُها الفِكْرُ ويُخْبِرُ بِكَثِيرٍ مِنها الشَّرْعُ. وجَعَلَها (لِلْمُؤْمِنِينَ)، إذْ في ضِمْنِ الإيمانِ العَقْلُ والتَّصْدِيقُ. ﴿وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ﴾، أيْ في غَيْرِ جِنْسِكم، وهو مَعْطُوفٌ عَلى: ﴿وفِي خَلْقِكُمْ﴾ . ومَن أجازَ العَطْفَ عَلى الضَّمِيرِ المَخْفُوضِ مِن غَيْرِ إعادَةِ الخافِضِ، أجازَ في ﴿وما يَبُثُّ﴾ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الضَّمِيرِ (في خَلْقِكم)، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، ويُونُسَ، والأخْفَشِ، وهو الصَّحِيحُ، واخْتارَهُ الأُسْتاذُ أبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقْبُحُ العَطْفُ عَلَيْهِ، وهَذا تَفْرِيعٌ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وجُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، قالَ: وكَذَلِكَ أنْ أكَّدُوهُ كَرِهُوا أنْ يَقُولُوا: مَرَرْتُ بِكَ أنْتَ وزَيْدٍ. انْتَهى. وهَذا يُجِيزُهُ الجَرْمِيُّ والزِّيبارِيُّ في الكَلامِ، وقالَ: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ): وهُمُ الَّذِينَ لَهم نَظَرٌ يُؤَدِّيهِمْ إلى اليَقِينِ. ﴿واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: آياتٌ، جَمْعًا بِالرَّفْعِ فِيهِما، والأعْمَشُ، والجَحْدَرِيُّ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ: بِالنَّصْبِ فِيهِما، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، بِرَفْعِهِما عَلى التَّوْحِيدِ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ: لَآياتٍ فِيهِما، كالأُولى. فَأمّا: ﴿آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ رَفْعًا ونَصْبًا، فاسْتَدَلَّ (p-٤٣)بِهِ وشِبْهِهِ مِمّا جاءَ في كَلامِ الأخْفَشِ، ومَن أخَذَ بِمَذْهَبِهِ عَلى عَطْفِ مَعْمُولَيْ عامِلَيْنِ بِالواوِ، وهي مَسْألَةٌ فِيها أرْبَعَةُ مَذاهِبَ، ذَكَرْناها في (كِتابِ التَّذْيِيلِ والتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . فَأمّا ما يَخُصُّ هَذِهِ الآيَةَ فَمَن نَصَبَ آياتٍ بِالواوِ عَطَفَ ”واخْتِلافِ“ عَلى المَجْرُورِ بِفي قَبْلَهُ وهو: ﴿وفِي خَلْقِكم وما يَبُثُّ﴾، وعَطَفَ ”آياتٍ“ عَلى ”آياتٍ“ . ومَن رَفَعَ فَكَذَلِكَ، والعامِلانِ أُولاهُما إنَّ وفي، وثانِيهِما الِابْتِداءُ وفي. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُقِيمَتِ الواوُ مَقامَهُما، فَعَمِلَتِ الجَرَّ: ”﴿واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾“، والنَّصْبَ في ”آياتٍ“، وإذا رُفِعَتْ، والعامِلانِ الِابْتِداءُ، وفي عَمِلَتِ الرَّفْعَ لِلْواوِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأنَّ الصَّحِيحَ مِنَ المَذاهِبِ أنَّ حَرْفَ العَطْفِ لا يَعْمَلُ، ومَن مَنَعَ العَطْفَ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، أضْمَرَ حَرْفَ الجَرِّ فَقُدِّرَ. وفي اخْتِلافٍ، فالعَمَلُ لِلْحَرْفِ مُضْمَرًا، ونابَتِ الواوُ مَنابَ عامِلٍ واحِدٍ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ في مُقَدَّرَةٌ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: (وفي اخْتِلافِ) مُصَرَّحًا، وحَسَّنَ حَذْفَ في تَقَدُّمُها في قَوْلِهِ: ﴿وفِي خَلْقِكُمْ﴾، وخَرَجَ أيْضًا النَّصْبُ في آياتٍ عَلى التَّوْكِيدِ لِآياتٍ المُتَقَدِّمَةِ، ولِإضْمارِ حَرْفِ في وقُرِئَ: واخْتِلافٌ بِالرَّفْعِ عَلى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هي آياتٌ ولِإضْمارِ حَرْفٍ أيْضًا. وقَرَأ: واخْتِلافُ اللَّيْلِ والنَّهارِ آيَةٌ. بِالرَّفْعِ في ”اخْتِلافُ“، وفي ”آيَةٌ“ مُوَحَّدَةً، وكَذَلِكَ ﴿وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ﴾ . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وطَلْحَةُ، وعِيسى: ﴿وتَصْرِيفِ الرِّياحِ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى أنَّ المُنْصِفِينَ مِنَ العِبادِ، إذا نَظَرُوا في السَّماواتِ والأرْضِ النَّظَرَ الصَّحِيحَ، عَلِمُوا أنَّها مَصْنُوعَةٌ، وأنَّهُ لا بُدَّ لَها مِن صانِعٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وأقَرُّوا. فَإذا نَظَرُوا في خَلْقِ أنْفُسِهِمْ وتَنَقُّلِها مِن حالٍ إلى حالٍ وهَيْئَةٍ إلى هَيْئَةٍ، في خَلْقِ ما عَلى ظَهْرِ الأرْضِ مِن صُنُوفِ الحَيَوانِ، ازْدادُوا إيمانًا وأيْقَنُوا وانْتَفى عَنْهُمُ اللَّبْسَ. فَإذا نَظَرُوا في سائِرِ الحَوادِثِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ في كُلِّ وقْتٍ، كاخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، ونُزُولِ الأمْطارِ، وحَياةِ الأرْضِ بِها بَعْدَ مَوْتِها، وتَصْرِيفِ الرِّياحِ جَنُوبًا وشَمالًا وقَبُولًا ودَبُورًا، عَقَلُوا واسْتَحْكَمَ عِلْمُهم وخَلَصَ يَقِينُهم. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ذَكَرَ في البَقَرَةِ ثَمانِيَةَ دَلائِلَ، وهُنا سِتَّةً، لَمْ يَذْكُرِ الفُلْكَ والسَّحابَ، والسَّبَبُ في ذَلِكَ أنَّ مَدارَ الحَرَكَةِ لِلْفُلْكِ والسَّحابِ عَلى الرِّياحِ المُخْتَلِفَةِ، فَذَكَرَ الرِّياحَ، وهُناكَ جَعَلَ مَقْطَعَ الثَّمانِيَةِ واحِدًا، وهُنا رَتَّبَها عَلى مَقاطِعَ ثَلاثَةٍ: يُؤْمِنُونَ، يُوقِنُونَ، يَعْقِلُونَ. قالَ: وأظُنُّ سَبَبَ هَذا التَّرْتِيبِ: (إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فافْهَمُوا هَذِهِ الدَّلائِلَ، فَإنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ولا مُوقِنِينَ، فَلا أقَلَّ أنْ تَكُونُوا مِنَ العاقِلِينَ، فاجْتَهِدُوا. وقالَ هُناكَ: (إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ)، وهُنا: (في السَّماواتِ)، فَدَلَّ عَلى أنَّ الخَلْقَ غَيْرُ المَخْلُوقِ، وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ أصْحابِنا، ولا تَفارُقَ بَيْنَ أنْ يُقالَ: في السَّماواتِ، وفي خَلْقِ السَّماواتِ. انْتَهى، وفِيهِ تَلْخِيصٌ وتَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ. ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ﴾: أيْ تِلْكَ الآياتُ، وهي الدَّلائِلُ المَذْكُورَةُ، (نَتْلُوها): أيْ نَسْرُدُها عَلَيْكَ مُلْتَبِسَةً بِالحَقِّ، ونَتْلُوها في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ مَتْلُوَّةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والعامِلُ ما دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ مِن مَعْنى الإشارَةِ ونَحْوِهِ، وهَذا بَعْلِي شَيْخًا. انْتَهى. ولَيْسَ نَحْوَهُ، لِأنَّ في وهَذا حَرْفُ تَنْبِيهٍ. وقِيلَ: العامِلُ في الحالِ ما دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ، أيْ تَنَبَّهْ. وأمّا تِلْكَ، فَلَيْسَ فِيها حَرْفُ تَنْبِيهٍ عامِلًا بِما فِيهِ مِن مَعْنى التَّنْبِيهِ، لِأنَّ الحَرْفَ قَدْ يَعْمَلُ في الحالِ: تَنَبَّهْ لِزَيْدٍ في حالِ شَيْخِهِ وفي حالِ قِيامِهِ. وقِيلَ: العامِلُ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، أيِ انْظُرْ إلَيْهِ في حالِ شَيْخِهِ، فَلا يَكُونُ اسْمُ الإشارَةِ عامِلًا ولا حَرْفُ التَّنْبِيهِ، إنْ كانَ هُناكَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَتْلُوها، فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ، أيْ نَتْلُو شَأْنَها وشَرْحَ العِبْرَةِ بِها. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِآياتِ اللَّهِ القُرْآنَ المُنَزَّلَ في هَذِهِ المَعانِي، فَلا يَكُونُ في نَتْلُوها حَذْفُ مُضافٍ. انْتَهى. ونَتْلُوها مَعْناهُ: يَأْمُرُ المَلِكُ أنْ نَتْلُوَها. وقُرِئَ: يَتْلُوها، بِياءِ الغَيْبَةِ، عائِدًا عَلى اللَّهِ، وبِالحَقِّ: بِالصِّدْقِ، لِأنَّ صِحَّتَها مَعْلُومَةٌ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ. ﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ﴾ الآيَةَ، فِيهِ تَقْرِيعٌ وتَوْبِيخٌ وتَهْدِيدٌ، (بَعْدَ اللَّهِ): أيْ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، وهو كِتابُهُ وكَلامُهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣]، وقالَ: (p-٤٤)﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٥]، أيْ بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ وكَلامِهِ. وقالَ الضَّحّاكُ: بَعْدَ تَوْحِيدِ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ اللَّهِ وآياتِهِ، أيْ بَعْدَ آياتِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِمْ: أعْجَبَنِي زَيْدٌ وكَرَمُهُ، يُرِيدُونَ: أعْجَبَنِي كَرَمُ زَيْدٍ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ فِيهِ مِن حَيْثُ المَعْنى إقْحامَ الأسْماءِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، والعَطْفُ والمُرادُ غَيْرُ العَطْفِ مِن إخْراجِهِ إلى بابِ البَدَلِ، لِأنَّ تَقْدِيرَ كَرَمُ زَيْدٍ إنَّما يَكُونُ في: أعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمُهُ، بِغَيْرِ واوٍ عَلى البَدَلِ، وهَذا قَلْبٌ لِحَقائِقِ النَّحْوِ. وإنَّما المَعْنى في: أعْجَبَنِي زَيْدٌ وكَرَمُهُ، أنَّ ذاتَ زَيْدٍ أعْجَبَتْهُ، وأعْجَبَهُ كَرَمُهُ، فَهُما إعْجابانِ لا إعْجابٌ واحِدٌ، وقَدْ رَدَدْنا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ هَذا فِيما تَقَدَّمَ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، وقَتادَةُ، والحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ في رِوايَةٍ: يُؤْمِنُونَ، بِالياءِ مِن تَحْتٍ، والأعْمَشُ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِتاءِ الخِطابِ، وطَلْحَةُ: تُوقِنُونَ بِالتّاءِ مِن فَوْقٍ والقافِ مِنَ الإيقانِ. ﴿ويْلٌ لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾، قِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي جَهْلٍ، وقِيلَ: في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ وما كانَ يَشْتَرِي مِن أحادِيثِ الأعاجِمِ ويَشْغَلُ بِها النّاسَ عَنِ اسْتِماعِ القُرْآنِ. والآيَةُ عامَّةٌ فِيمَن كانَ مُضارًّا لِدِينِ اللَّهِ، وأفّاكٌ أثِيمٌ، صِفَتا مُبالَغَةٍ، وألْفاظُ هَذِهِ الآيَةِ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: عَلِمَ، وقَتادَةُ ومَطَرٌ الوَرّاقُ: بِضَمِّ العَيْنِ وشَدِّ اللّامِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أيْ عَرَفَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى: ثُمَّ، في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا﴾ ؟ قُلْتُ: كَمَعْناهُ في قَوْلِ القائِلِ: ؎يَرى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها وذَلِكَ بِأنَّ غَمَراتِ المَوْتِ حَقِيقَةٌ بِأنْ يَنْجُوَ رائِيها بِنَفْسِهِ ويَطْلُبَ الفِرارَ مِنها، وأمّا زِيارَتُها والإقْدامُ عَلى مُزاوَلَتِها فَأمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ. فَمَعْنى ثُمَّ الإيذانُ بِأنَّ فِعْلَ المُقَدَّمِ عَلَيْها بَعْدَما رَآها وعايَنَها شَيْءٌ يُسْتَبْعَدُ في العادَةِ والطِّباعِ، وكَذَلِكَ آياتُ اللَّهِ الواضِحَةُ القاطِعَةُ بِالحَقِّ، مَن تُلِيَتْ عَلَيْهِ وسَمِعَها، كانَ مُسْتَبْعَدًا في العُقُولِ إصْرارُهُ عَلى الضَّلالَةِ عِنْدَها واسْتِكْبارُهُ عَنِ الإيمانِ بِها. ﴿اتَّخَذَها هُزُوًا﴾، ولَمْ يَقُلْ: اتَّخَذَهُ إشْعارًا بِأنَّهُ إذا أحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الكَلامِ أنَّهُ مِن جُمْلَةِ الآياتِ الَّتِي أنْزَلَها اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، خاضَ في الِاسْتِهْزاءِ بِجَمِيعِ الآياتِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى الِاسْتِهْزاءِ بِما بَلَغَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ ﴿وإذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيْئًا﴾، يُمْكِنُ أنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ المُعانِدُ ويَجْعَلَهُ مَحْمَلًا يَتَسَلَّقُ بِهِ عَلى الطَّعْنِ والغَمِيزَةِ، افْتَرَضَهُ واتَّخَذَ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا، وذَلِكَ نَحْوُ افْتِراضِ ابْنِ الزِّبَعْرى قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨]، ومُغالَطَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وقَوْلِهِ: خَصَمْتُكَ، ويَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إلى شَيْءٍ، لِأنَّهُ في مَعْنى الآيَةِ كَقَوْلِ أبِي العَتاهِيَةِ: ؎نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيا مُعَلَّقَةٌ ∗∗∗ اللَّهُ والقائِمُ المَهْدِيُّ يَكْفِيها حَيْثُ أرادَ عُتْبَةَ. انْتَهى. وعُتْبَةُ جارِيَةٌ كانَ أبُو العَتاهِيَةِ يَهْواها ويَنْتَسِبُ بِها. والإشارَةُ بِأُولَئِكَ إلى كُلِّ أفّاكٍ، لِشُمُولِهِ الأفّاكِينَ. حُمِلَ أوَّلًا عَلى لَفْظِ كُلٍّ، وأُفْرِدَ عَلى المَعْنى فَجُمِعَ، كَقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣] . ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾: أيْ مِن قُدّامِهِمْ، والوَراءُ: ما تَوارى مِن خَلْفٍ وأمامٍ. ﴿ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا﴾ مِنَ الأمْوالِ في مَتاجِرِهِمْ، ﴿ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ مِنَ الأوْثانِ. (هَذا)، أيِ القُرْآنُ، (هُدًى)، أيْ بالِغٌ في الهِدايَةِ، كَقَوْلِكَ: هَذا رَجُلٌ، أيْ كامِلٌ في الرُّجُولِيَّةِ. وقَرَأ طَلْحَةُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأهْلُ مَكَّةَ، وابْنُ كَثِيرٍ، وحَفْصٌ: (ألِيمٌ)، بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِعَذابٍ، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وعِيسى، والأعْمَشُ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِالجَرِّ نَعْتًا لِرِجْزٍ. ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ﴾ الآيَةَ: آيَةُ اعْتِبارٍ في تَسْخِيرِ هَذا المَخْلُوقِ العَظِيمِ والسُّفُنِ الجارِيَةِ فِيهِ بِهَذا المَخْلُوقِ الحَقِيرِ، وهو الإنْسانُ. (بِأمْرِهِ): أيْ بِقُدْرَتِهِ. أنابَ الأمْرَ مَنابَ القُدْرَةِ، كَأنَّهُ يَأْمُرُ السُّفُنَ أنْ تَجْرِيَ. (مِن فَضْلِهِ) بِالتِّجارَةِ وبِالغَوْصِ عَلى اللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ واسْتِخْراجِ اللَّحْمِ الطَّرِيِّ. (ما في السَّماواتِ) مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ والسَّحابِ والرِّياحِ والهَواءِ، والأمْلاكِ المُوَكَّلَةِ بِهَذا كُلِّهِ. (وما في الأرْضِ) مِنَ البَهائِمِ والمِياهِ والجِبالِ والنَّباتِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (مِنهُ)، وابْنُ عَبّاسٍ: بِكَسْرِ المِيمِ وشَدِّ النُّونِ ونَصْبِ (p-٤٥)التّاءِ عَلى المَصْدَرِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: نِسْبَةُ هَذِهِ القِراءَةِ إلى ابْنِ عَبّاسٍ ظُلْمٌ. وحَكاها أبُو الفَتْحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ والجَحْدَرِيِّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وحَكاها أيْضًا عَنْ هَؤُلاءِ الأرْبَعَةِ صاحِبُ اللَّوامِحِ، وحَكاها ابْنُ خالَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. وقَرَأ سَلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ ضَمَّ التّاءَ، أيْ هو مِنهُ، وعَنْهُ أيْضًا فَتْحُ المِيمِ وشَدِّ النُّونِ، وهاءُ الكِنايَةِ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، وهو فاعِلُ سَخَّرَ عَلى الإسْنادِ المَجازِيِّ، أوْ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ ذَلِكَ، أوْ هو مِنهُ. والمَعْنى عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: أنَّهُ سَخَّرَ هَذِهِ الأشْياءَ كائِنَةً مِنهُ وحاصِلَةً عِنْدَهُ، إذْ هو مُوجِدُها بِقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ، ثُمَّ سَخَّرَها لِخَلْقِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ يَعْنِي مِنهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هي جَمِيعًا مِنهُ، وأنْ يَكُونَ ”وما في الأرْضِ“ مُبْتَدَأً، ومِنهُ خَبَرَهُ. انْتَهى. ولا يَجُوزُ هَذانِ الوَجْهانِ إلّا عَلى قَوْلِ الأخْفَشِ، لِأنَّ جَمِيعًا إذْ ذاكَ حالٌ، والعامِلُ فِيها مَعْنَوِيٌّ، وهو الجارُّ والمَجْرُورُ، فَهو نَظِيرُ: زَيْدٌ قائِمًا في الدّارِ، ولا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ. ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا﴾: نَزَلَتْ في صَدْرِ الإسْلامِ. أمَرَ المُؤْمِنِينَ أنْ يَتَجاوَزُوا عَنِ الكُفّارِ، وأنْ لا يُعاقِبُوهم بِذَنْبٍ، بَلْ يَصْبِرُونَ لَهم، قالَهُ السُّدِّيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. قِيلَ: وهي مُحْكَمَةٌ، والأكْثَرُ عَلى أنَّها مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. يَغْفِرُوا، في جَزْمِهِ أوْجُهٌ لِلنُّحاةِ، تَقَدَّمَتْ في: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣١] في سُورَةِ إبْراهِيمَ. ﴿لا يَرْجُونَ أيّامَ اللَّهِ﴾: أيْ وقائِعَهُ بِأعْدائِهِ ونِقْمَتَهُ مِنهم. وقالَ مُجاهِدٌ: وقِيلَ أيّامُ إنْعامِهِ ونَصْرِهِ وتَنْعِيمِهِ في الجَنَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقِيلَ: لا يَأْمُلُونَ الأوْقاتَ الَّتِي وقَّتَها اللَّهُ لِثَوابِ المُؤْمِنِينَ ووَعْدِهِمُ الفَوْزَ. قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ القِتالِ ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُها. وتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، قِيلَ: سَبَّهُ رَجُلٌ مِنَ الكُفّارِ، فَهَمَّ أنْ يَبْطِشَ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، والأعْمَشُ، وأبُو عُلَيَّةَ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: بِالنُّونِ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ: بِخِلافٍ عَنْهُ بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عاصِمٍ، وفِيهِ حُجَّةٌ لِمَن أجازَ بِناءَ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، عَلى أنْ يُقامَ المَجْرُورُ، وهو بِما، ويُنْصَبَ المَفْعُولُ بِهِ الصَّرِيحُ، وهو قَوْمًا، ونَظِيرُهُ: ضُرِبَ بِسَوْطٍ زَيْدًا، ولا يُجِيزُ ذَلِكَ الجُمْهُورُ. وخَرَجَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى أنْ يَكُونَ بُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَصْدَرِ، أيْ: ولِيُجْزى الجَزاءُ قَوْمًا. وهَذا أيْضًا لا يَجُوزُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، لَكِنْ يُتَأوَّلُ عَلى أنْ يُنْصَبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يَجْزِي قَوْمًا، فَيَكُونُ جُمْلَتانِ، إحْداهُما: لِيُجْزى الجَزاءُ قَوْمًا. والأُخْرى: يَجْزِيهِ قَوْمًا. وقَوْمًا هُنا يَعْنِي بِهِ الغافِرِينَ، ونَكَّرَهُ عَلى مَعْنى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: قَوْمًا، أيْ قَوْمٌ مِن شَأْنِهِمُ التَّجاوُزُ عَنِ السَّيِّئاتِ والصَّفْحُ عَنِ المُؤْذِياتِ وتَحَمُّلُ الوَحْشَةِ. وقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللَّهِ، أيْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مِنَ الإثْمِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَمْ تُكافِئُوهم أنْتُمْ حَتّى نُكافِئَهم نَحْنُ. ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا﴾ كَهَؤُلاءِ الغافِرِينَ، ﴿ومَن أساءَ﴾ كَهَؤُلاءِ الكُفّارِ، وأتى بِاللّامِ في فَلِنَفْسِهِ، لِأنَّ المَحابَّ والحُظُوظَ تُسْتَعْمَلُ فِيها عَلى الدّالَّةُ عَلى العُلُوِّ والقَهْرِ، كَما تَقُولُ: الأُمُورُ لِزَيْدٍ مُتَأتِّيَةٌ وعَلى عَمْرٍو مُسْتَصْعَبَةٌ. والكِتابُ: التَّوْراةُ، والحُكْمُ: القَضاءُ، وفَصْلُ الأُمُورِ لِأنَّ المُلْكَ كانَ فِيهِمْ. قِيلَ: والحُكْمُ: الفِقْهُ. ويُقالُ: لَمْ يَتَّسِعْ فِقْهُ الأحْكامِ عَلى نَبِيٍّ، كَما اتَّسَعَ عَلى لِسانِ مُوسى مِنَ الطَّيِّباتِ المُسْتَلَذّاتِ الحَلالِ، وبِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعْمَةُ، وذَلِكَ المَنُّ والسَّلْوى وطَيِّباتُ الشّامِ، إذْ هي الأرْضُ المُبارَكَةُ. ”بَيِّناتٍ“ أيْ دَلائِلَ واضِحَةً مِنَ الأمْرِ، أيْ مِنَ الوَحْيِ الَّذِي فُصِلَتْ بِهِ الأُمُورُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: مِنَ الأمْرِ، أيْ مِن أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وأنَّهُ يُهاجِرُ مِن تِهامَةَ إلى يَثْرِبَ. وقِيلَ: مُعْجِزاتُ مُوسى. ﴿فَما اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في شُورى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب