الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا. . .﴾ [الآيَةُ] في سَبَبِ نُزُولِها أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: «أنَّهم نَزَلُوا في غَزاةِ بَنِي المُصْطَلِقِ عَلى بِئْرٍ يُقالُ لَها: "المُرَيْسِيعُ"، فَأرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي غُلامَةَ لِيَسْتَقِيَ الماءَ، فَأبْطَأ عَلَيْهِ، فَلَمّا أتاهُ قالَ لَهُ: ما حَبَسَكَ؟ قالَ: غُلامُ عُمَرَ، ما تَرَكَ أحَدًا يَسْتَقِي حَتّى مَلَأ قِرَبَ النَّبِيِّ ﷺ وقِرَبَ أبِي بَكْرٍ، ومَلَأ لِمَوْلاهُ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هَؤُلاءِ إلّا كَما قِيلَ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، فَبَلَغَ قَوْلُهُ عُمَرَ، فاشْتَمَلَ سَيْفَهُ يُرِيدُ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» رَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. (p-٣٥٨)والثّانِي: [أنَّها] «لَمّا نَزَلَتْ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البَقَرَةِ: ٢٤٥] قالَ يَهُودِيٌّ بِالمَدِينَةِ يُقالُ لَهُ فَنُحاصُ: احْتاجَ رَبُّ مُحَمَّدٍ، فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ، اشْتَمَلَ [عَلى] سَيْفِهِ وخَرَجَ في طَلَبِهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ في طَلَبِ عُمَرَ، فَلَمّا جاءَ، قالَ: "يا عُمَرُ، ضَعْ سَيْفَكَ" وتَلا عَلَيْهِ الآيَةَ،» رَواهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: أنَّ ناسًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أهْلِ مَكَّةَ كانُوا في أذًى شَدِيدٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَبْلَ أنْ يُؤْمَرُوا بِالقِتالِ، فَشَكَوا ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَهُ القُرَظِيُّ، والسُّدِّيُّ. والرّابِعُ: أنَّ رَجُلًا مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، فَهَمَّ عُمَرُ أنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وَمَعْنى الآيَةِ: قُلْ لِلَّذِينِ آمَنُوا: اغْفِرُوا، ولَكِنْ شُبِّهَ بِالشَّرْطِ والجَزاءِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبْراهِيمَ: ٣١] وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا. وَقَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ﴾ أيْ: لا يَخافُونَ وقائِعَ اللَّهِ في الأُمَمِ الخالِيَةِ، لِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَلا يَخافُونَ عِقابَهُ. وقِيلَ: لا يَدْرُونَ أنْعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، أمْ لا. وقَدْ سَبَقَ بَيانُ مَعْنى "أيّامِ اللَّهِ" في سُورَةِ [إبْراهِيمَ: ٥] . (p-٣٥٩)* فَصْلٌ وَجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ، لِأنَّها تَضَمَّنَتِ الأمْرَ بِالإعْراضِ عَنِ المُشْرِكِينَ. واخْتَلَفُوا في ناسِخِها عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ. أحَدُها: [أنَّهُ] قَوْلُهُ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥]، رَواهُ مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ. والثّانِي: أنَّهُ قَوْلُهُ في [الأنْفالِ: ٥٧]: ﴿فَإمّا تَثْقَفَنَّهم في الحَرْبِ﴾، وقَوْلُهُ في [بَراءَةٍ: ٣٦]: ﴿وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾، رَواهُ سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ. والثّالِثُ: [أنَّهُ] قَوْلُهُ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا﴾ [الحَجِّ: ٣٩]، قالَهُ أبُو صالِحٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا﴾ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "لِنَجْزِيَ" بِالنُّونِ "قَوْمًا" يَعْنِي الكُفّارَ، فَكَأنَّهُ قالَ: لا تُكافِئُوهم أنْتُمْ لِنُكافِئَهم نَحْنُ. وَما بَعْدَ هَذا قَدْ سَبَقَ [الإسْراءِ: ٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ﴾ يَعْنِي التَّوْراةَ ﴿والحُكْمَ﴾ وهو الفَهْمُ في الكِتابِ، ﴿وَرَزَقْناهم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ يَعْنِي المَنَّ والسَّلْوى ﴿وَفَضَّلْناهم عَلى العالَمِينَ﴾ أيْ: عالَمِي زَمانِهِمْ. ﴿وَآتَيْناهم بَيِّناتٍ مِنَ الأمْرِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: بَيانُ الحَلالِ والحَرامِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّانِي: العِلْمُ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ ﷺ وشَواهِدِ نُبُوَّتِهِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. وَما بَعْدَ هَذا قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ [آلِ عِمْرانَ: ١٩] إلى قَوْلِهِ: (p-٣٦٠)﴿ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ﴾ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ رُؤَساءَ قُرَيْشٍ دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إلى مِلَّةِ آبائِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿عَلى شَرِيعَةٍ﴾ فَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: [أيْ] عَلى مِلَّةٍ ومَذْهَبٍ، ومِنهُ يُقالُ: شَرَعَ فُلانٌ في كَذا: إذا أخَذَ فِيهِ، ومِنهُ "مَشارِعُ الماءِ" وهي الفُرَضُ الَّتِي شَرَعَ فِيها الوارِدُ. قالَ المُفَسِّرُونَ: ثُمَّ جَعَلْناكَ بَعْدَ مُوسى عَلى طَرِيقَةٍ مِنَ الأمْرِ، أيْ: مِنَ الدِّينِ ﴿فاتَّبِعْها﴾ و ﴿الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ كَفّارُ قُرَيْشٍ. ﴿إنَّهم لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ﴾ أيْ: لَنْ يَدْفَعُوا عَنْكَ عَذابَ اللَّهِ إنِ اتَّبَعْتَهُمْ، ﴿وَإنَّ الظّالِمِينَ﴾ يَعْنِي المُشْرِكِينَ. ﴿واللَّهُ ولِيُّ المُتَّقِينَ﴾ الشِّرَكَ. والآيَةُ الَّتِي بَعْدَها [مُفَسَّرَةٌ] في آخِرِ [الأعْرافِ: ٢٠٣] . (p-٣٦١)﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ﴾ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ كُفّارَ مَكَّةَ قالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: إنّا نُعْطى في الآخِرَةِ مِثْلَما تُعْطَوْنَ مِنَ الأجْرِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والِاسْتِفْهامُ هاهُنا اسْتِفْهامُ إنْكارٍ. و "اجْتَرَحُوا" بِمَعْنى اكْتَسَبُوا. ﴿سَواءً مَحْياهم ومَماتُهُمْ﴾ قَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وزَيْدٌ عَنْ يَعْقُوبَ: "سَواءً" نَصْبًا؛ وقَرَأ الباقُونَ: بِالرَّفْعِ. فَمَن رَفَعَ، فَعَلى الِابْتِداءِ؛ ومَن نَصَبَ، جَعَلَهُ مَفْعُولًا ثانِيًا، عَلى تَقْدِيرِ: أنْ نَجْعَلَ مَحْياهم ومَماتَهم سَواءً؛ والمَعْنى: إنَّ هَؤُلاءِ يَحْيَوْنَ مُؤْمِنِينَ ويَمُوتُونَ مُؤْمِنِينَ، وهَؤُلاءِ يَحْيَوْنَ كافِرِينَ ويَمُوتُونَ كافِرِينَ؛ وشَتّانَ ماهم في الحالِ والمَآلِ ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ أيْ: بِئْسَ ما يَقْضُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ بِالآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ أنَّهُ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ، أيْ: لِلْحَقِّ والجَزاءِ بِالعَدْلِ، لِئَلّا يَظُنَّ الكافِرُ أنَّهُ لا يُجْزى بِكُفْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب