(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(سُورَةُ الزُّخْرُفِ تِسْعٌ وثَمانُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ ﴿وكَمْ أرْسَلْنا مِن نَبِيٍّ في الأوَّلِينَ﴾ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن نَبِيٍّ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا ومَضى مَثَلُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ ﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ﴿وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ ﴿وجَعَلُوا لَهُ مِن عِبادِهِ جُزْءًا إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ ﴿أمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكم بِالبَنِينَ﴾ ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ ﴿أوَمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ وهو في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا أشَهِدُوا خَلْقَهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم ويُسْألُونَ﴾ [الزخرف: ١٩] ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: ٢٠] ﴿أمْ آتَيْناهم كِتابًا مِن قَبْلِهِ فَهم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ [الزخرف: ٢١] ﴿بَلْ قالُوا إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢] ﴿وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلّا قالَ مُتْرَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣] ﴿قالَ أوَلَوْ جِئْتُكم بِأهْدى مِمّا وجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكم قالُوا إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ [الزخرف: ٢٤] ﴿فانْتَقَمْنا مِنهم فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [الزخرف: ٢٥] ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] ﴿إلّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزخرف: ٢٧] ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٨] ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: ٢٩] ﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا هَذا سِحْرٌ وإنّا بِهِ كافِرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٠] ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٣٢] ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] ﴿ولِبُيُوتِهِمْ أبْوابًا وسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِئُونَ﴾ [الزخرف: ٣٤] ﴿وزُخْرُفًا وإنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا والآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٣٥] ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] ﴿وإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٣٧] ﴿حَتّى إذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ [الزخرف: ٣٨] ﴿ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكم في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٩] ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أوْ تَهْدِي العُمْيَ ومَن كانَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: ٤٠] ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾ [الزخرف: ٤١] ﴿أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْناهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ [الزخرف: ٤٢] ﴿فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: ٤٣] ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ [الزخرف: ٤٤] ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فَقالَ إنِّي رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الزخرف: ٤٦] ﴿فَلَمّا جاءَهم بِآياتِنا إذا هم مِنها يَضْحَكُونَ﴾ [الزخرف: ٤٧] ﴿وما نُرِيهِمْ مِن آيَةٍ إلّا هي أكْبَرُ مِن أُخْتِها وأخَذْناهم بِالعَذابِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٤٨] ﴿وقالُوا يا أيُّها السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٩] ﴿فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العَذابَ إذا هم يَنْكُثُونَ﴾ [الزخرف: ٥٠] ﴿ونادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: ٥١] ﴿أمْ أنا خَيْرٌ مِن هَذا الَّذِي هو مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢] ﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِن ذَهَبٍ أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ [الزخرف: ٥٣] ﴿فاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ [الزخرف: ٥٤] ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهم فَأغْرَقْناهم أجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: ٥٥] ﴿فَجَعَلْناهم سَلَفًا ومَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ [الزخرف: ٥٦] ﴿ولَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ﴾ [الزخرف: ٥٧] ﴿وقالُوا أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هو ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا بَلْ هم قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨] ﴿إنْ هو إلّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ وجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الزخرف: ٥٩] ﴿ولَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنكم مَلائِكَةً في الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف: ٦٠] ﴿وإنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها واتَّبِعُونِ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: ٦١] ﴿ولا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: ٦٢] ﴿ولَمّا جاءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكم بِالحِكْمَةِ ولِأُبَيِّنَ لَكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ [الزخرف: ٦٣] ﴿إنَّ اللَّهَ هو رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: ٦٤] ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِن عَذابِ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ [الزخرف: ٦٥] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [الزخرف: ٦٦] ﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلّا المُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧] ﴿يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف: ٦٨] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الزخرف: ٦٩] ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ أنْتُمْ وأزْواجُكم تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: ٧٠] ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِن ذَهَبٍ وأكْوابٍ وفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وتَلَذُّ الأعْيُنُ وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧١] ﴿وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: ٧٢] ﴿لَكم فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنها تَأْكُلُونَ﴾ [الزخرف: ٧٣] ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧٤] ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهم وهم فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: ٧٥] ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ [الزخرف: ٧٦] ﴿ونادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إنَّكم ماكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧] ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ [الزخرف: ٧٨] ﴿أمْ أبْرَمُوا أمْرًا فَإنّا مُبْرِمُونَ﴾ [الزخرف: ٧٩] ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْواهم بَلى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: ٨٠] ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١] ﴿سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الزخرف: ٨٢] ﴿فَذَرْهم يَخُوضُوا ويَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [الزخرف: ٨٣] ﴿وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ وهو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾ [الزخرف: ٨٤] ﴿وتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الزخرف: ٨٥] ﴿ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٦] ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] ﴿وقِيلِهِ يا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الزخرف: ٨٨] ﴿فاصْفَحْ عَنْهم وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٩] (يَعْشُو): يُعْرِضُ، ويَعْشى: يَعْمى. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ نَرَ أحَدًا حَكى: عَشَوْتُ عَنِ الشَّيْءِ: أعْرَضْتُ عَنْهُ، وإنَّما يُقالُ: تَعاشَيْتُ عَنْ كَذا وتَعامَيْتُ، إذا تَغافَلْتُ عَنْهُ. وتَقُولُ: عَشَوْتُ إلى النّارِ، إذا اسْتَدْلَلْتُ عَلَيْها بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وقِيلَ: عَشى يَعْشى، إذا حَصَلَتِ الآفَةُ في بَصَرِهِ. وعَشا يَعْشُو: نَظَرَ المَعْشِيِّ ولا آفَةَ بِهِ، كَما قالَ: عَرَجَ لِمَن بِهِ الآفَةُ، وعَرَجَ لِمَن مَشى مِشْيَةَ العُرْجانِ مِن غَيْرِ عَرَجٍ. قالَ الحُطَيْئَةُ:
مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ تَجِدْ خَيْرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مَوْقِدِ
أيْ: تَنْظُرُ إلَيْها نَظَرَ المَعْشِيِّ لِما يَضْعُفُ بَصَرٌ مِن عَظِيمِ الوَقُودِ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ حاتِمٍ:
أعْشُو إذا ما جارَتِي بَرَزَتْ ∗∗∗ حَتّى يُوارِيَ جارَتِي الخِدْرُ
الصُّحْفَةُ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: هي القَصْعَةُ، وقالَ الكِسائِيُّ: أعْظَمُ القِصاعِ الجَفْنَةُ، ثُمَّ القَصْعَةُ تَلِيها تَسَعُ العَشَرَةَ، ثُمَّ الصَّحْفَةُ تَسَعُ الخَمْسَةَ، ثُمَّ المَكِيلَةُ تَسَعُ الرَّجُلَيْنِ والثَّلاثَةَ. والصَّحِيفَةُ: الكِتابُ، والجَمْعُ: صُحُفٌ وصَحائِفُ. الكُوبُ، قالَ قُطْرُبٌ: الإبْرِيقُ لا عُرْوَةَ لَهُ. وقالَ الأخْفَشُ: الإبْرِيقُ لا خُرْطُومَ لَهُ، وقِيلَ: كالإبْرِيقِ، إلّا أنَّهُ لا أُذُنَ لَهُ ولا مِقْبَضَ. قالَ أبُو مَنصُورٍ الجَوالِيقِيُّ: إنَّما كانَ بِغَيْرِ عُرْوَةٍ لِيَشْرَبَ الشّارِبُ مِن أيْنَ شاءَ، لِأنَّ العُرْوَةَ تَرُدُّ الشّارِبَ مِن بَعْضِ الجِهاتِ. انْتَهى. وقالَ عَدِيٌّ:
مُتَّكِئًا تُصَفِّقُ أبْوابُهُ ∗∗∗ يَسْعى عَلَيْهِ العَبْدُ بِالكُوبِ
أبْرَمَ، قالَ الفَرّاءُ: أبْرَمَ الأمْرَ: بالَغَ في إحْكامِهِ، وأبْرَمَ القاتِلُ، إذا أدْهَمَ، وهو القَتْلُ الثّانِي، والأوَّلُ يُقالُ لَهُ سِجِّيلٌ، كَما قالَ زُهَيْرٌ:
مِن سِجِّيلٍ وبَرْمِ
انْتَهى. والإبْرامُ: أنْ يَجْمَعَ خَيْطَيْنِ ثُمَّ يَفْتِلَهُما فَتْلًا مُتْقَنًا، والبَرِيمُ: خَيْطٌ فِيهِ لَوْنانِ.
* * *﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ ﴿وكَمْ أرْسَلْنا مِن نَبِيٍّ في الأوَّلِينَ﴾ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن نَبِيٍّ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا ومَضى مَثَلُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ ﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ﴿وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ ﴿وجَعَلُوا لَهُ مِن عِبادِهِ جُزْءًا إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ ﴿أمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكم بِالبَنِينَ﴾ ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ ﴿أوَمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ وهو في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ .
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وقالَ مُقاتِلٌ: إلّا قَوْلُهُ:
﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا﴾ [الزخرف: ٤٥] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ.
﴿إنّا جَعَلْناهُ﴾، أيْ صَيَّرْناهُ، أوْ سَمَّيْناهُ، وهو جَوابُ القَسَمِ، وهو مِنَ الأقْسامِ الحَسَنَةِ لِتَناسُبِ القَسَمِ والمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وكَوْنِهِما مِن وادٍ واحِدٍ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ أبِي تَمّامٍ:
وثَناياكِ إنَّها إغْرِيضٌ
وقِيلَ: والكِتابُ أُرِيدَ بِهِ الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، والضَّمِيرُ في جَعَلْناهُ يَعُودُ عَلى القُرْآنِ، وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ صَرِيحُ الذِّكْرِ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلْناهُ، بِمَعْنى صَيَّرْناهُ، مُعَدًّى إلى مَفْعُولَيْنِ، أوْ بِمَعْنى خَلَقْناهُ مُعَدًّى إلى واحِدٍ، كَقَوْلِهِ:
﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] . (وقُرْآنًا عَرَبِيًّا): حالٌ. ولَعَلَّ: مُسْتَعارَةٌ لِمَعْنى الإرادَةِ، لِتُلاحِظَ مَعْناها ومَعْنى التَّرَجِّي، أيْ خَلَقْناهُ عَرَبِيًّا غَيْرَ عَجَمِيٍّ. أرادَ أنْ تَعْقِلَهُ العَرَبُ، ولِئَلّا يَقُولُوا:
﴿لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ [فصلت: ٤٤] . انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ في كَوْنِ القُرْآنِ مَخْلُوقًا. و(أُمِّ الكِتابِ): اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، لِأنَّهُ الأصْلُ الَّذِي أُثْبِتَتْ فِيهِ الكُتُبُ، وهَذا فِيهِ تَشْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ وتَرْفِيعٌ بِكَوْنِهِ لَدَيْهِ عَلِيًّا عَلى جَمِيعِ الكُتُبِ، وعالِيًا عَنْ وُجُوهِ الفَسادِ. حَكِيمًا: أيْ حاكِمًا عَلى سائِرِ الكُتُبِ، أوْ مُحْكَمًا بِكَوْنِهِ في غايَةِ البَلاغَةِ والفَصاحَةِ وصِحَّةِ المَعانِي. قالَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ: القُرْآنُ فِيهِ بِأجْمَعِهِ مَنسُوخٌ، ومِنهُ كانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ. وقِيلَ: أُمُّ الكِتابِ: الآياتُ المُحْكَماتُ، لِقَوْلِهِ:
﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ﴾ [آل عمران: ٧]، ومَعْناهُ: أنَّ سُورَةَ حم واقِعَةٌ في الآياتِ المُحْكَماتِ الَّتِي هي الأُمُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: في أُمِّ، بِضَمِّ الهَمْزَةِ، والأخَوانِ بِكَسْرِها، وعَزاها ابْنُ عَطِيَّةَ يُوسُفُ بْنُ عَمْرٍو إلى العِراقِ، ولَمْ يَعْزُها لِلْأخَوانِ عَقْلَةً مِنهُ. يُقالُ: ضَرَبَ عَنْ كَذا، وأضْرَبَ عَنْهُ، إذا أعْرَضَ عَنْهُ. والذِّكْرَ، قالَ الضَّحّاكُ وأبُو صالِحٍ: القُرْآنُ، أيِ: أفَتَرائى عَنْكُمُ القُرْآنَ. وقَوْلُهم: ضَرَبَ الغَرائِبَ عَنِ الحَوْضِ، إذا أدارَها ونَحّاها، وقالَ الشّاعِرُ:
اضْرِبْ عَنْكَ الهُمُومَ طارِقَها ∗∗∗ ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
وقِيلَ: الذِّكْرَ: الدُّعاءُ إلى اللَّهِ والتَّخْوِيفُ مِن عِقابِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أنُهْمِلُكم فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ إنْكارًا لِأنْ يَكُونَ الأمْرُ عَلى خِلافِ ما قُدِّمَ مِن إنْزالِهِ الكِتابَ وخَلْقِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتَعْقِلُوهُ وتَعْمَلُوا بِمُوجَبِهِ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ مَعَهُ في تَقْدِيرِهِ فِعْلًا بَيْنَ الهَمْزَةِ والفاءِ في نَحْوِ: (أفَلَمْ يَسِيرُوا) ؟ (أفَلا تَعْقِلُونَ) ؟ وبَيْنَها وبَيْنَ الواوِ في نَحْوِ: (أوَلَمْ يَسِيرُوا) كَما وأنَّ المَذْهَبَ الصَّحِيحَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والنَّحْوِيِّينَ أنَّ الفاءَ والواوَ مَنوِيٌّ بِهِما التَّقْدِيمُ لِعَطْفِ ما بَعْدَهُما عَلى ما قَبْلَهُما، وأنَّ الهَمْزَةَ تَقَدَّمَتْ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهامِ لَهُ صَدْرُ الكَلامِ، ولا خِلافَ بَيْنَ الهَمْزَةِ والحَرْفِ، وقَدْ رَدَدْنا عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: المَعْنى: أفَنَتْرُكُ تَذْكِيرَكم وتَخْوِيفَكم عَفْوًا عَنْكم وعَفْوًا عَنْ إجْرامِكم ؟ أنْ كُنْتُمْ أوْ مِن أجْلِ أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ؟ أيْ هَذا لا يَصْلُحُ. ونَحا قَتادَةُ إلى أنَّ المَعْنى صَفْحًا، أيْ مَعْفُوًّا عَنْهُ، أيْ نَتْرُكُهُ. ثُمَّ لا تُؤاخَذُونَ بِقَوْلِهِ ولا بِتَدْبِيرِهِ، ولا تُنَبَّهُونَ عَلَيْهِ. وهَذا المَعْنى نَظِيرُ قَوْلِ الشّاعِرِ:
تَمُرُّ الصَّبا صَفْحًا بِساكِنِ ذِي الفَضا ∗∗∗ ويَصْدَعُ قَلْبِي أنْ يَهُبَّ هُبُوبُها
وقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
صَفُوحًا فَما تَلْقاكَ إلّا بَخِيلَةً ∗∗∗ فَمَن مَلَّ مِنها ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى: أفَحَسِبْتُمْ أنْ نَصْفَحَ عَنْكم ولَمّا تَفْعَلُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ ؟ وقالَ الكَلْبِيُّ: أنْ نَتْرُكَكم هَمَلًا بِلا أمْرٍ ولا نَهْيٍ ؟ وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: أنْ لا نُعاقِبَكم بِالتَّكْذِيبِ ؟ وقِيلَ: أنْ نَتْرُكَ الإنْزالَ لِلْقُرْآنِ مِن أجْلِ تَكْذِيبِكم ؟ وقَرَأ حَسّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الضُّبَعِيُّ، والسُّمَيْطُ بْنُ عُمَيْرٍ، وشُمَيْلُ بْنُ عُذْرَةَ: بِضَمِّ الصّادِ، والجُمْهُورُ: بِفَتْحِها، وهُما لُغَتانِ، كالسَّدِّ والسُّدِّ. وانْتِصابُ صَفْحًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مِن مَعْنى أفَنَضْرِبُ، لِأنَّ مَعْناهُ: أفَنَصْفَحُ ؟ أوْ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ صافِحِينَ، قالَهُما الحَوْفِيُّ، وتَبِعَهُ أبُو البَقاءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وصَفْحًا عَلى وجْهَيْنِ: إمّا مَصْدَرٌ مِن صَفَحَ عَنْهُ إذا أعْرَضَ مُنْتَصِبًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ عَلى مَعْنى: أفَنَعْزِلُ عَنْكم إنْزالَ القُرْآنِ وإلْزامَ الحُجَّةِ بِهِ إعْراضًا عَنْكم ؟ وإمّا بِمَعْنى الجانِبِ مِن قَوْلِهِمْ: نَظَرَ إلَيْهِ بِصَفْحِ وجْهِهِ. وصَفْحُ وجْهِهِ عَلى مَعْنى: أفَنُنَحِّيهِ عَنْكم جانِبًا ؟ فَيُنْصَبُ عَلى الظَّرْفِ، كَما تَقُولُ: ضَعْهُ جانِبًا، وامْشِ جانِبًا. وتُعَضِّدُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: صُفْحًا بِالضَّمِّ. وفي هَذِهِ القِراءَةِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ تَخْفِيفَ صُفُحٍ جَمْعَ صُفُوحٍ، ويُنْتَصَبُ عَلى الحالِ، أيْ صافِحِينَ مُعْرِضِينَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صَفْحًا، انْتِصابُهُ كانْتِصابِ (صُنْعَ اللَّهِ) . انْتَهى. يَعْنِي أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، فَيَكُونُ العامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا، ولا يَظْهَرُ هَذا الَّذِي قالَهُ، فَلَيْسَ انْتِصابُهُ انْتِصابَ ”صُنْعَ اللَّهِ“ . وقَرَأ نافِعٌ والأخَوانِ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وإسْرافُهم كانَ مُتَحَقِّقًا. فَكَيْفَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ ”إنْ“ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي لا تَدْخُلُ إلّا عَلى غَيْرِ المُتَحَقِّقِ، أوْ عَلى المُتَحَقِّقِ الَّذِي انْبَهَمَ زَمانُهُ ؟ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مِنَ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْتُ أنَّهُ يَصْدُرُ عَنِ المُدِلِّ بِصِحَّةِ الأمْرِ المُتَحَقِّقِ لِثُبُوتِهِ، كَما يَقُولُ الأجِيرُ: إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ فَوَفِّنِي حَقِّي، وهو عالِمٌ بِذَلِكَ، ولَكِنَّهُ يُخَيِّلُ في كَلامِهِ أنَّ تَفْرِيطَكَ في الخُرُوجِ عَنِ الحَقِّ فِعْلُ مَن لَهُ شَكٌّ في الِاسْتِحْقاقِ، مَعَ وُضُوحِهِ، اسْتِجْهالًا لَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنْ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، أيْ مِن أجْلِ أنْ كُنْتُمْ. قالَ الشّاعِرُ:
أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ
وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إذْ كُنْتُمْ، بِذالٍ مَكانَ النُّونِ، لَمّا ذَكَرَ خِطابًا لِقُرَيْشٍ،
﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ﴾ ؟ وكانَ هَذا الإنْكارُ دَلِيلًا عَلى تَكْذِيبِهِمْ لِلرَّسُولِ، وإنْكارًا لِما جاءَ بِهِ. آنَسَهُ تَعالى بِأنَّ عادَتَهم عادَةُ الأُمَمِ السّابِقَةِ مِنِ اسْتِهْزائِهِمْ بِالرُّسُلِ، وأنَّهُ تَعالى أهْلَكَ مَن كانَ أشَدَّ بَطْشًا مِن قُرَيْشٍ، أيْ أكْثَرَ عَدَدًا وعُدَدًا وجِلْدًا.
﴿ومَضى مَثَلُ الأوَّلِينَ﴾: أيْ فَلْيَحْذَرْ قُرَيْشٌ أنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ ما حَلَّ بِالأوَّلِينَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ العُقُوبَةِ. قالَ مَعْناهُ قَتادَةُ: وهي العُقُوبَةُ الَّتِي سارَتْ سَيْرَ المَثَلِ، وقِيلَ: مَثَلُ الأوَّلِينَ في الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وقُرَيْشٌ سَلَكَتْ مَسْلَكَها، وكانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ في قَوْلِهِ:
﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ﴾ ؟ فَأعْرَضَ عَنْهم إلى إخْبارِ الغائِبِ في قَوْلِهِ:
﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا﴾ . (ولَئِنْ سَألْتَهم): احْتِجاجٌ عَلى قُرَيْشٍ بِما يُوجِبُ التَّناقُضَ، وهو إقْرارُهم بِأنَّ مُوجِدَ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ هو اللَّهُ، ثُمَّ هم يَتَّخِذُونَ أصْنامًا آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهم ويُعَظِّمُونَهم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومُقْتَضى الجَوابِ أنْ يَقُولُوا خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، فَلَمّا ذَكَرَ تَعالى المَعْنى، جاءَتِ العِبارَةُ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِالعَزِيزِ العَلِيمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِما عَدَّدَ مِن أوْصافِهِ الَّذِي ابْتَدَأ الإخْبارَ بِها، وقَطَعَها مِنَ الكَلامِ الَّذِي حَكى مَعْناهُ عَنْ قُرَيْشٍ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيَنْسِبُنَّ خَلْقَها إلى الَّذِي هَذِهِ أوْصافُهُ، ولَيَسْنِدُنَّهُ إلَيْهِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ:
﴿خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ نَفْسُ المَحْكِيِّ مِن كَلامِهِمْ، ولا يَدُلُّ كَوْنُهم ذَكَرُوا في مَكانٍ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، أنْ لا يَقُولُوا في سُؤالٍ آخَرَ:
﴿خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ .
و(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ): مِن كَلامِ اللَّهِ، خِطابًا لَهم بِتَذْكِيرِ نِعَمِهِ السّابِقَةِ. وكَرَّرَ الفِعْلَ في الجَوابِ في قَوْلِهِ:
﴿خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾، مُبالَغَةً في التَّوْكِيدِ. وفي غَيْرِ ما سُؤالٍ، اقْتَصَرُوا عَلى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ، إذْ هو العَلَمُ الجامِعُ لِلصِّفاتِ العُلا، وجاءَ الجَوابُ مُطابِقًا لِلسُّؤالِ مِن حَيْثُ المَعْنى، لا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ، لِأنَّ مَن مُبْتَدَأٌ. فَلَوْ طابَقَ في اللَّفْظِ، كانَ بِالِاسْمِ مُبْتَدَأً، ولَمْ يَكُنْ بِالفِعْلِ. (لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ): أيْ إلى مَقاصِدِكم في السَّفَرِ، أوْ تَهْتَدُونَ بِالنَّظَرِ والِاعْتِبارِ. بِقَدَرٍ: أيْ بِقَضاءٍ وحَتْمٍ في الأزَلِ، أوْ بِكِفايَةٍ، لا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ، ولا قَلِيلًا فَلا يُجْدِي.
﴿فَأنْشَرْنا﴾: أحْيَيْنا بِهِ.
﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾: ذُكِرَ عَلى مَعْنى القَطْرِ، و”بَلْدَةً“ اسْمُ جِنْسٍ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وعِيسى: مَيِّتًا بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وابْنُ وثّابٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ المُصْبِحِ، وعِيسى، وابْنُ عامِرٍ، والأخَوانِ: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. و(الأزْواجَ): الأنْواعَ مِن كُلِّ شَيْءٍ. قِيلَ: وكُلُّ ما سِوى اللَّهِ فَهو زَوْجٌ، كَفَوْقَ، وتَحْتَ، ويَمِينٍ، وشِمالٍ، وقُدّامٍ، وخَلْفٍ، وماضٍ، ومُسْتَقْبَلٍ، وذَواتٍ، وصِفاتٍ، وصَيْفٍ، وشِتاءٍ، ورَبِيعٍ، وخَرِيفٍ، وكَوْنُها أزْواجًا تَدُلُّ عَلى أنَّها مُمْكِنَةُ الوُجُودِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ مُحْدِثَها فَرْدٌ، وهو اللَّهُ المُنَزَّهُ عَنِ الضِّدِّ والمُقابِلِ والمُعارِضِ. انْتَهى.
(والأنْعامَ): المَعْهُودُ أنَّهُ لا يُرْكَبُ مِنَ الأنْعامِ إلّا الإبِلُ. ما: مَوْصُولَةٌ والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ ما يَرْكَبُونَهُ. ورَكِبَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِلَلِ، ويَتَعَدّى بِنَفْسِهِ عَلى المُتَعَدِّي بِوَساطَةِ في، إذِ التَّقْدِيرُ ما يَرْكَبُونَهُ. واللّامُ في لِتَسْتَوُوا: الظّاهِرُ أنَّها لامُ كَيْ. وقالَ الحَوْفِيُّ: ومَن أثْبَتَ لامَ الصَّيْرُورَةِ جازَ لَهُ أنْ يَقُولَ بِهِ هُنا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لامُ الأمْرِ، وفِيهِ بُعْدٌ مِن حَيْثُ اسْتِعْمالُ أمْرِ المُخاطَبِ بِتاءِ الخِطابِ، وهو مِنَ القِلَّةِ بِحَيْثُ يَنْبَغِي أنْ لا يُقاسَ عَلَيْهِ. فالفَصِيحُ المُسْتَعْمَلُ: اضْرِبْ، وقِيلَ: لِتَضْرِبْ، بَلْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّها لُغَةٌ رَدِيئَةٌ قَلِيلَةٌ، إذْ لا تَكادُ تُحْفَظُ إلّا قِراءَةً شاذَّةً، فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا بِالتّاءِ لِلْخِطابِ. وما آثَرَ المُحَدِّثُونَ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
«لِتَأْخُذُوا مَصافَّكم»، مَعَ احْتِمالِ أنَّ الرّاوِيَ رَوى بِالمَعْنى، وقَوْلُ الشّاعِرِ:
لِتَقُمْ أنْتَ يا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ ∗∗∗ فَتَقْضِي حَوائِجَ المُسْلِمِينا
وزَعَمَ الزَّجّاجُ أنَّها لُغَةٌ جَيِّدَةٌ، وذَلِكَ خِلافُ ما زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ. والضَّمِيرُ في ظُهُورِهِ عائِدٌ عَلى ما، كَأنَّهُ قالَ: عَلى ظُهُورِ ما تَرْكَبُونَ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الجَمْعُ، لِأنَّ مَآلَها لَفْظٌ ومَعْنًى. فَمَن جَمَعَ فَبِاعْتِبارِ المَعْنى، ومَن أفْرَدَ فَبِاعْتِبارِ اللَّفْظِ، ويَعْنِي:
﴿مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ﴾ . وقالَ الفَرّاءُ نَحْوًا مِنهُ، قالَ: أضافَ الظُّهُورَ،
﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا﴾، أيْ في قُلُوبِكم،
﴿نِعْمَةَ رَبِّكُمْ﴾، مُعْتَرِفِينَ بِها مُسْتَعْظِمِينَ لَها. لا يُرِيدُ الذِّكْرَ بِاللِّسانِ بَلْ بِالقَلْبِ، ولِذَلِكَ قابَلَهُ بِقَوْلِهِ:
﴿وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا﴾، أيْ تُنَزِّهُوا اللَّهَ بِصَرِيحِ القَوْلِ. وجاءَ في الحَدِيثِ:
«”أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ إذا وضَعَ رِجْلَهُ في الرِّكابِ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإذا اسْتَوى عَلى الدّابَّةِ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى كُلِّ حالٍ، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا، إلى قَوْلِهِ لَمُنْقَلِبُونَ، وكَبَّرَ ثَلاثًا وهَلَّلَ ثَلاثًا»، وقالُوا: إذا رَكِبَ في السَّفِينَةِ قالَ:
﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ [هود: ٤١] إلى رَحِيمٍ، ويُقالُ عِنْدَ النُّزُولِ مِنها: اللَّهُمَّ أنْزِلْنا مُنْزَلًا مُبارَكًا وأنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ“ . والقَرْنُ: الغالِبُ الضّابِطُ المُطِيقُ لِلشَّيْءِ، يُقالُ: أقْرَنَ الشَّيْءَ، إذا أطاقَهُ. قالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
وأقْرَنْتِ ما حَمَّلْتِنِي ولَقَلَّما ∗∗∗ يُطاقُ احْتِمالُ الصَّدِّ يا دَعْدُ والهَجْرِ
وحَقِيقَةُ أقْرَنَهُ: وجَدَهُ قَرِينَتَهُ وما يُقْرَنُ بِهِ: لِأنَّ الصَّعْبَ لا يَكُونُ قَرِينَةً لِلضَّعْفِ. قالَ الشّاعِرُ:
وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ∗∗∗ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
والقَرْنُ: الحَبْلُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: فُلانٌ مُقْرِنٌ لِفُلانٍ، أيْ ضابِطٌ لَهُ، والمَعْنى: أنَّهُ لَيْسَ لَنا مِنَ القُوَّةِ ما نَضْبُطُ بِهِ الدّابَّةَ والفُلْكَ، وإنَّما اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَها. وأنْشَدَ قُطْرُبٌ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
لَقَدْ عَلِمَ القَبائِلُ ما عَقِيلٌ ∗∗∗ لَنا في النّائِباتِ بِمُقْرِنِينا
وقُرِئَ: لَمُقْتَرِنِينَ، اسْمُ فاعِلٍ مِنِ اقْتَرَنَ.
﴿وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾: أيْ راجِعُونَ، وهو إقْرارٌ بِالرُّجُوعِ إلى اللَّهِ، وبِالبَعْثِ، لِأنَّ الرّاكِبَ في مَظَنَّةِ الهَلاكِ بِالغَرَقِ إذا رَكِبَ الفُلْكَ، وبِعُثُورِ الدّابَّةِ، إذْ رُكُوبُها أمْرٌ فِيهِ خَطَرٌ، ولا تُؤْمَنُ السَّلامَةُ فِيهِ. فَقَوْلُهُ هَذا تَذْكِيرٌ بِأنَّهُ مُسْتَشْعِرٌ الصَّيْرُورَةَ إلى اللَّهِ، ومُسْتَعِدٌّ لِلِقائِهِ، فَهو لا يَتْرُكُ ذَلِكَ مِن قَلْبِهِ ولا لِسانِهِ.
﴿وجَعَلُوا لَهُ﴾: أيْ وجَعَلَ كُفّارُ قُرَيْشٍ والعَرَبُ لَهُ، أيْ لِلَّهِ. مِن عِبادِهِ: أيْ مِمَّنْ هم عَبِيدُ اللَّهِ. جُزْءًا، قالَ مُجاهِدٌ: نَصِيبًا وحَظًّا، وهو قَوْلُ العَرَبِ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ. وقالَ قَتادَةُ: جُزْءًا، أيْ نِدًّا، وذَلِكَ هو الأصْنامُ وفِرْعَوْنُ ومَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ. وقِيلَ: الجُزْءُ: الإناثُ. قالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: يُقالُ أجْزَأتِ المَرْأةُ، إذا ولَدَتْ أُنْثى. قالَ الشّاعِرُ:
إنْ أجْزَأتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلا عَجَبٌ ∗∗∗ قَدْ تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارَ أحْيانًا
قِيلَ: هَذا البَيْتُ مَصْنُوعٌ، وكَذا قَوْلُهُ:
زَوَّجَها مِن بَناتِ الأوْسِ مُجْزِئَةً
ولَمّا تَقَدَّمَ أنَّهم مُعْتَرِفُونَ بِأنَّهُ تَعالى هو خالِقُ العالَمِ، أنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَعْلَهم لِلَّهِ جُزْءًا، وقَدِ اعْتَرَفُوا بِأنَّهُ هو الخالِقُ، فَكَيْفَ وصَفُوهُ بِصِفَةِ المَخْلُوقِ ؟
﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ﴾ نِعْمَةَ خالِقِهِ. (مُبِينٌ): مُظْهِرٌ لِجُحُودِهِ. والمُرادُ بِالإنْسانِ: مَن جَعَلَ لِلَّهِ جُزْءًا، وغَيْرُهم مِنَ الكَفَرَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومُبِينٌ في هَذا المَوْضِعِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. انْتَهى. ولَيْسَ يَتَعَيَّنُ ما ذَكَرَ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ ظاهِرًا لِكُفْرانِ النِّعَمِ ومُظْهِرًا لِجُحُودِهِ، كَما قُلْنا.
﴿أمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ﴾ ؟ اسْتِفْهامُ إنْكارٍ وتَوْبِيخٍ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ ؟ كَيْفَ زَعَمُوا أنَّهُ تَعالى اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ ما أنْتُمْ تَكْرَهُونَهُ حِينَ أنْتُمْ تَسْوَدُّ وُجُوهُكم عِنْدَ التَّبْشِيرِ بِهِنَّ وتَئِدُونَهُنَّ ؟ (وأصْفاكم): جَعَلَ لَكم صَفْوَةَ ما هو مَحْبُوبٌ، وذَلِكَ البَنُونَ. وقَوْلُهُ: (مِمّا يَخْلُقُ)، تَنْبِيهٌ عَلى اسْتِحالَةِ الوَلَدِ، ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى، وإنْ فُرِضَ اتِّخاذُ الوَلَدِ، فَكَيْفَ يَخْتارُ لَهُ الأدْنى ويَخُصُّكم بِالأعْلى ؟ وقَدَّمَ البَناتِ، لِأنَّهُ المُنْكَرُ عَلَيْهِمْ لِنِسْبَتِهِنَّ إلى اللَّهِ، وعَرَّفَ البَنِينَ دُونَ البَناتِ تَشْرِيفًا لَهم عَلى البَناتِ.
﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهُمْ﴾: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِها في سُورَةِ النَّحْلِ.
﴿أوَمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ﴾: أيْ يَنْتَقِلُ في عُمُرِهِ حالًا فَحالًا في الحِلْيَةِ، وهو الحُلِيُّ الَّذِي لا يَلِيقُ إلّا بِالإناثِ دُونَ الفُحُولِ، لِتَزَيُّنِهِنَّ بِذَلِكَ لِأزْواجِهِنَّ، وهو إنْ خاصَمَ، لا يُبِينُ لِضَعْفِ العَقْلِ ونَقْصِ التَّدَبُّرِ والتَّأمُّلِ، أظْهَرَ بِهَذا لِحُقُوقِهِنَّ وشُفُوفِ البَنِينَ عَلَيْهِنَّ. وكانَ في ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّ الرَّجُلَ لا يُناسِبُ لَهُ التَّزَيُّنُ كالمَرْأةِ، وأنْ يَكُونَ مُخْشَوْشِنًا. والفَحْلُ مِنَ الرِّجالِ أبى أنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفاتِ النِّساءِ، والظّاهِرُ أنَّهُ أرادَ بِمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ: النِّساءُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
﴿وهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾: أيْ لا يُظْهِرُ حُجَّةً، ولا يُقِيمُ دَلِيلًا، ولا يَكْشِفُ عَمّا في نَفْسِهِ كَشْفًا واضِحًا. ويُقالُ: قَلَّما تَجِدُ امْرَأةً لا تُفْسِدُ الكَلامَ، وتَخْلِطُ المَعانِيَ، حَتّى ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ النّاسِ أنَّهُ قالَ: إذا دَخَلْنا عَلى فُلانَةٍ، لا نَخْرُجُ حَتّى نَعْلَمَ أنَّ عَقْلَها عَقْلُ امْرَأةٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُرادُ بِمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ: الأصْنامُ، وكانُوا يَتَّخِذُونَ كَثِيرًا مِنها مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ويَجْعَلُونَ الحُلِيَّ عَلى كَثِيرٍ مِنها، ويُبْعِدُ هَذا القَوْلَ قَوْلُهُ:
﴿وهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾، إلّا إنْ أُرِيدَ بِنَفْيِ الإبانَةِ نَفْيُ الخِصامِ أيْ لا يَكُونُ مِنها خِصامٌ فَإنَّهُ كَقَوْلِهِ:
عَلى لاحِبٍ لا يَهْتَدِي بِمَنارِهِ
أيْ: لا مَنارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. ومَن: في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ وجَعَلُوا مَن يُنَشَّأُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، أيْ مَن يُنَشَّأُ جَعَلُوهُ لِلَّهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يُنَشَّأُ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والجَحْدَرِيُّ في قَوْلٍ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا، وابْنُ عَبّاسٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ والجَحْدَرِيُّ: في رِوايَةٍ، والأخَوانِ وحَفْصٌ والمُفَضَّلُ وأبانٌ وابْنُ مِقْسَمٍ وهارُونُ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا، والحَسَنُ: في رِوايَةٍ يُناشَأُ عَلى وزْنِ يُفاعَلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والمُناشَأةُ بِمَعْنى الإنْشاءِ، كالمُعالاةِ بِمَعْنى الإعْلاءِ. و
﴿فِي الخِصامِ﴾: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَفْسِيرُهُ غَيْرُ مُبِينٍ، أيْ وهو لا يُبِينُ في الخِصامِ. ومَن أجازَ أمّا زَيْدًا غَيْرُ ضارِبٍ بِإعْمالِ المُضافِ إلَيْهِ في ”غَيْرُ“ أجازَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِمُبِينٍ، أجْرى ”غَيْرُ“ مُجْرى لا. وبِتَقْدِيمِ مَعْمُولِ أمّا بَعْدَ لا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ في النَّحْوِ.