الباحث القرآني

(سُورَةُ النَّمْلِ وهي خَمْسٌ وتِسْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةً) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ﴿طس﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ وكِتابٍ مُبِينٍ﴾ ﴿هُدًى وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم بِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنّا لَهم أعْمالَهم فَهم يَعْمَهُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهم سُوءُ العَذابِ وهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿إذْ قالَ مُوسى لِأهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ ومَن حَوْلَها وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿يامُوسى إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿وألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ يامُوسى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ ﴿إلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْمًا وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ١٥] ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وقالَ ياأيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذا لَهو الفَضْلُ المُبِينُ﴾ [النمل: ١٦] ﴿وحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ [النمل: ١٧] ﴿حَتّى إذا أتَوْا عَلى وادِي النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكم لا يَحْطِمَنَّكم سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: ١٨] ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَوْلِها وقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٩] ﴿وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾ [النمل: ٢٠] ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أوْ لَأذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: ٢١] ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢] ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهم وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣] ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٢٤] ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ [النمل: ٢٦] ﴿قالَ سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [النمل: ٢٧] ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذا فَألْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهم فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: ٢٨] ﴿قالَتْ ياأيُّها المَلَأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وإنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: ٣٠] ﴿ألّا تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣١] ﴿قالَتْ ياأيُّها المَلَأُ أفْتُونِي في أمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا حَتّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: ٣٢] ﴿قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمْرُ إلَيْكِ فانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: ٣٣] ﴿قالَتْ إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤] ﴿وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ﴾ [النمل: ٣٥] ﴿فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكم بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيَّتِكم تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: ٣٦] ﴿ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهم بِها ولَنُخْرِجَنَّهم مِنها أذِلَّةً وهم صاغِرُونَ﴾ [النمل: ٣٧] ﴿قالَ ياأيُّها المَلَأُ أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣٨] ﴿قالَ عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ وإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينٌ﴾ [النمل: ٣٩] ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٤٠] ﴿قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٤١] ﴿فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أهَكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأنَّهُ هو وأُوتِينا العِلْمَ مِن قَبْلِها وكُنّا مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٤٢] ﴿وصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إنَّها كانَتْ مِن قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣] ﴿قِيلَ لَها ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمّا رَأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِن قَوارِيرَ﴾ [النمل: ٤٤] ﴿قالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [النمل: ٤٤] (p-٥١)الوَزْعُ: أصْلُهُ الكَفُّ والمَنعُ، يُقالُ: وزَعَهُ يَزَعُهُ، ومِنهُ قَوْلُ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ”ما يَزَعُ السُّلْطانُ أكْثَرَ مِمّا يَزَعُ القُرْآنُ، وقَوْلُ الحَسَنِ: لا بُدَّ لِلْقاضِي مِن وزَعَةٍ، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ومَن لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَياؤُهُ فَلَيْسَ لَهُ مِن شَيْبِ فَوْدَيْهِ وازِعُ النَّمْلُ: جِنْسٌ، واحِدُهُ نَمْلَةٌ، ويُقالُ بِضَمِّ المِيمِ فِيهِما، وبِضَمِّ النُّونِ مَعَ ضَمِّ المِيمِ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَنَمُّلِهِ، وهو حَرَكَتُهُ. الحَطْمُ: الكَسْرُ، قالَهُ النَّحّاسُ. التَّبَسُّمُ: ابْتِداءُ الضَّحِكِ، وتَفَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنى المُجَرَّدِ، وهو بَسَمَ. قالَ الشّاعِرُ: ؎وتَبْسِمُ عَنْ ألْمى كَأنَّ مُنَوَّرًا ∗∗∗ تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي وقالَ آخَرُ: ؎أبْـدى نَواجِـذَهُ لِغَيْـرِ تَبَسُّـمِ التَّفَقُّدُ: طَلَبُ ما فَقَدْتَهُ وغابَ عَنْكَ. الهُدْهُدُ: طائِرٌ مَعْرُوفٌ، وتَصْغِيرُهُ عَلى القِياسِ هُدَيْهِدٌ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ ياءَهُ أُبْدِلَتْ ألِفًا في التَّصْغِيرِ، فَقِيلَ: هُداهِدُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎كَهُداهِـدٍ كَسَـرَ الرُّمَـاةُ جَناحَـهُ كَما قالُوا: دُوابَّةٌ وشُوابَّةٌ، يُرِيدُونَ: دُوَيْبَّةً وشُوَيْبَّةً. سَبَأٌ: هو سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ، وهو يُصْرَفُ ولا يُصْرَفُ إذا صارَ اسْمًا لِلْحَيِّ والقَبِيلَةِ، أوِ البُقْعَةِ الَّتِي تُسَمّى مَأْرِبَ سُمِّيَتْ بِاسْمِ الرَّجُلِ. الخَبْءُ: الشَّيْءُ المَخْبُوءُ، مِن خَبَأْتُ الشَّيْءَ خَبْأً سَتَرْتُهُ، وسُمِّيَ المَفْعُولَ بِالمَصْدَرِ. الهَدِيَّةُ: ما سِيقَ إلى الإنْسانِ مِمّا يُتْحَفُ بِهِ عَلى سَبِيلِ التَّكْرِمَةِ. العِفْرِيتُ والعِفْرُ والعِفْرِيَةُ والعُفارِيَةُ مِنَ الرِّجالِ: الخَبِيثُ المُنْكَرُ الَّذِي يُعَفِّرُ أقْرانَهُ، ومِنَ الشَّياطِينِ: الخَبِيثُ المارِدُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎كَأنَّهُ كَوْكَبٌ في إثْرِ عِفْرِيَةٍ ∗∗∗ مُصَوَّبٌ في سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ الصَّرْحُ: القَصْرُ، أوْ صَحْنُ الدّارِ، أوْ ساحَتُها، أوِ البِرْكَةُ، أوِ البَلاطُ المُتَّخَذُ مِنَ القَوارِيرِ، أقْوالٌ تَأْتِي في التَّفْسِيرِ. السّاقُ: مَعْرُوفٌ، يُجْمَعُ عَلى أسْوُقٍ في القِلَّةِ، وعَلى سُوُوقٍ وسُوقٍ في الكَثْرَةِ، وهَمْزُهُ لُغَةٌ: المُمَرَّدُ: المُمَلَّسُ، ومِنهُ الأمْرَدُ، وشَجَرَةٌ مَرْداءُ: لا ورَقَ عَلَيْها. القَوارِيرُ: جَمْعُ قارُورَةٍ. * * * (p-٥٢)﴿طس تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ وكِتابٍ مُبِينٍ﴾ ﴿هُدًى وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم بِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنّا لَهم أعْمالَهم فَهم يَعْمَهُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهم سُوءُ العَذابِ وهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿إذْ قالَ مُوسى لِأهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ ومَن حَوْلَها وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿يامُوسى إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿وألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ يامُوسى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ ﴿إلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ . هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ. ومُناسَبَةُ أوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ ما قَبْلَها واضِحَةٌ، لِأنَّهُ قالَ: ﴿وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢١٠] وقَبْلَهُ: ﴿وإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢] وقالَ هُنا: ﴿طس تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ﴾ أيِ الَّذِي هو تَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ. وأضافَ الآياتِ إلى القُرْآنِ والكِتابِ المُبِينِ عَلى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لَها والتَّعْظِيمِ؛ لِأنَّ المُضافَ إلى العَظِيمِ عَظِيمٌ. والكِتابُ المُبِينُ، إمّا اللَّوْحُ، وإبانَتُهُ أنْ قَدْ خُطَّ فِيهِ كُلُّ ما هو كائِنٌ فَهو يُبَيِّنُهُ لِلنّاظِرِينَ، وإمّا السُّورَةُ، وإمّا القُرْآنُ، وإبانَتُهُما أنَّهُما يُبَيِّنانِ ما أُودِعاهُ مِنَ العُلُومِ والحِكَمِ والشَّرائِعِ. وأنَّ إعْجازَهُما ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ ونُكِّرَ. ﴿وكِتابٍ مُبِينٍ﴾ لِيُبْهَمَ بِالتَّنْكِيرِ، فَيَكُونَ أفْخَمَ لَهُ كَقَوْلِهِ: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر: ٥٥] . وإذا أُرِيدَ بِهِ القُرْآنُ، فَعَطْفُهُ مِن عَطْفِ إحْدى الصِّفَتَيْنِ عَلى الأُخْرى، لِتَغايُرِهِما في المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالصِّفَةِ، مِن حَيْثُ أنَّ مَدْلُولَ القُرْآنِ الِاجْتِماعُ، ومَدْلُولَ كِتابٍ الكِتابَةُ. وقِيلَ: القُرْآنُ والكِتابُ اسْمانِ عَلَمانِ عَلى المُنَزَّلِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ فَحَيْثُ جاءَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ، فَهو العَلَمُ، وحَيْثُ جاءَ (p-٥٣)بِوَصْفِ النَّكِرَةِ، فَهو الوَصْفُ، وقِيلَ: هُما يَجْرِيانِ مَجْرى العَبّاسِ، وعَبّاسٍ فَهو في الحالَيْنِ اسْمُ العَلَمِ. انْتَهى. وهَذا خَطَأٌ، إذْ لَوْ كانَ حالُهُ نُزِعَ مِنهُ عَلَمًا ما جازَ أنْ يُوصَفَ بِالنَّكِرَةِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿وكِتابٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: ١] وأنْتَ لا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِعَبّاسٍ قائِمٍ، تُرِيدُ بِهِ الوَصْفَ ؟ وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: و“ كِتابٌ مُبِينٌ ”، بِرَفْعِهِما، التَّقْدِيرُ: وآياتُ كِتابٍ، فَحُذِفَ المُضافُ، وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، فَأُعْرِبَ بِإعْرابِهِ. وهُنا تَقَدَّمَ القُرْآنُ عَلى الكِتابِ، وفي الحِجْرِ عَكْسُهُ، ولا يَظْهَرُ فَرْقٌ، وهَذا كالمُتَعاطِفَيْنِ في نَحْوِ: ما جاءَ زَيْدٌ وعَمْرٌو. فَتارَةٌ يَظْهَرُ تَرْجِيحٌ كَقَوْلِهِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨] وتارَةً لا يَظْهَرُ كَقَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا﴾ [الأعراف: ١٦١] . قالَ يَحْيَـى بْنُ سَلّامٍ: (هُدًى) إلى الجَنَّةِ (وبُشْرى) بِالثَّوابِ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: هُدًى مِنَ الضَّلالِ، وبُشْرى بِالجَنَّةِ، وهُدًى وبُشْرى مَقْصُورانِ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونا مَنصُوبَيْنِ عَلى الحالِ، أيْ هادِيَةً ومُبَشِّرَةً. قِيلَ: والعامِلُ في الحالِ ما في تِلْكَ مِن مَعْنى الإشارَةِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونا مَصْدَرَيْنِ، واحْتَمَلا الرَّفْعَ عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ. أيْ هي هُدًى وبُشْرى؛ أوْ عَلى البَدَلِ مِن آياتٍ؛ أوْ عَلى خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ، أيْ جَمَعَتْ بَيْنَ كَوْنِها آياتٍ وهُدًى وبُشْرى. ومَعْنى كَوْنِها هَدًى لِلْمُؤْمِنِينَ: زِيادَةُ هُداهم. قالَ - تَعالى -: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤] . وقِيلَ: هُدًى لِجَمِيعِ الخَلْقِ، ويَكُونُ الهُدى بِمَعْنى الدَّلالَةِ والإرْشادِ والتَّبْيِينِ، لا بِمَعْنى تَحْصِيلِ الهُدى الَّذِي هو مُقابِلُ الضَّلالِ. ﴿وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ خاصَّةً، وقِيلَ: هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ، وخَصَّهم بِالذِّكْرِ لِانْتِفاعِهِمْ بِهِ. ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ تَحْتَمِلُ هَذِهِ الجُمْلَةُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى صِلَةِ (الَّذِينَ) . ولَمّا كانَ: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ مِمّا يَتَجَدَّدُ ولا يَسْتَغْرِقُ الأزْمانَ، جاءَتِ الصِّلَةُ فِعْلًا. ولَمّا كانَ الإيمانُ بِالآخِرَةِ بِما هو ثابِتٌ عِنْدَهم مُسْتَقِرُّ الدَّيْمُومَةِ، جاءَتِ الجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، وأكَّدَتِ المُسْنَدَ إلَيْهِ فِيها بِتَكْرارِهِ، فَقِيلَ: ﴿هم يُوقِنُونَ﴾ وجاءَ خَبَرُ المُبْتَدَأِ فِعْلًا لِيَدُلَّ عَلى الدَّيْمُومَةِ، واحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَتِمَّ الصِّلَةُ عِنْدَهُ، أيْ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وهم) قالَ: وتَكُونُ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةً، كَأنَّهُ قِيلَ: وهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ويَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ مِن إقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ هُمُ المُوقِنُونَ بِالآخِرَةِ، وهو الوَجْهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ عَقَدَ جُمْلَةً ابْتِدائِيَّةً وكَرَّرَ فِيها المُبْتَدَأُ الَّذِي هو هم، حَتّى صارَ مَعْناها: وما يُوقِنُ بِالآخِرَةِ حَقَّ الإيقانِ إلّا هَؤُلاءِ الجامِعُونَ بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ، لِأنَّ خَوْفَ العاقِبَةِ يَحْمِلُهم عَلى تَحَمُّلِ المَشاقِّ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: وتَكُونُ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةً، هو عَلى غَيْرِ اصْطِلاحِ النُّحاةِ في الجُمْلَةِ الِاعْتِراضِيَّةِ مِن كَوْنِها لا تَقَعُ إلّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بَعْضُهُما بِبَعْضٍ، كَوُقُوعِها بَيْنَ صِلَةِ مَوْصُولٍ، وبَيْنَ جُزْأيْ إسْنادٍ، وبَيْنَ شَرْطٍ وجَزائِهِ، وبَيْنَ نَعْتٍ ومَنعُوتٍ، وبَيْنَ قَسَمٍ ومُقْسَمٍ عَلَيْهِ، وهُنا لَيْسَتْ واقِعَةً بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِمّا ذُكِرَ وقَوْلُهُ إلْخَ. حَتّى صارَ مَعْناها فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والزَّكاةُ هُنا يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ غَيْرَ المَفْرُوضَةِ؛ لِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ قَدِيمَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المَفْرُوضَةَ مِن غَيْرِ تَفْسِيرٍ. وقِيلَ: الزَّكاةُ هُنا بِمَعْنى الطَّهارَةِ مِنَ النَّقائِصِ ومُلازِمَةِ مَكارِمِ الأخْلاقِ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ - تَعالى - المُؤْمِنِينَ المُوقِنِينَ بِالبَعْثِ، ذَكَرَ المُنْكِرِينَ، والإشارَةُ إلى قُرَيْشٍ ومَن جَرى مَجْراهم في إنْكارِ البَعْثِ. والأعْمالُ إمّا أنْ تَكُونَ أعْمالَ الخَيْرِ والتَّوْحِيدِ الَّتِي كانَ الواجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ تَكُونَ أعْمالَهم، فَعَمُوا عَنْها وتَرَدَّدُوا وتَحَيَّرُوا، ويُنْسَبُ هَذا القَوْلُ إلى الحَسَنِ البَصْرِيِّ؛ أوْ أعْمالَ الكُفْرِ والضَّلالِ، فَيَكُونُ تَعالى قَدْ حَبَّبَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وزَيَّنَهُ بِأنْ خَلَقَهُ في نُفُوسِهِمْ، فَرَأوْا تِلْكَ الأعْمالَ القَبِيحَةَ حَسَنَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ أسْنَدَ تَزْيِينَ أعْمالِهِمْ إلى ذاتِهِ، وأسْنَدَهُ إلى الشَّيْطانِ في قَوْلِهِ: ﴿وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [النمل: ٢٤] ؟ (قُلْتُ): بَيْنَ الإسْنادَيْنِ فَرْقٌ، وذَلِكَ أنَّ إسْنادَهُ إلى الشَّيْطانِ حَقِيقَةٌ، وإسْنادَهُ إلى اللَّهِ - تَعالى - (p-٥٤)مَجازٌ، ولَهُ طَرِيقانِ في عِلْمِ البَيانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مِنَ المَجازُ الَّذِي يُسَمّى الِاسْتِعارَةَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مِنَ المَجازِ المَحْكِيِّ. فالطَّرِيقُ الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا مَتَّعَهم بِطُولِ العُمْرِ وسَعَةِ الرِّزْقِ، وجَعَلُوا إنْعامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وإحْسانَهُ إلَيْهِمْ ذَرِيعَةً إلى اتِّباعِ شَهَواتِهِمْ وبَطَرِهِمْ وإيثارِهِمُ التَّرَفُّهَ ونِفارِهِمْ عَمّا يَلْزَمُهم فِيهِ التَّكالِيفُ الصَّعْبَةُ والمَشاقُّ المُتْعِبَةُ، فَكَأنَّهُ زَيَّنَ لَهم بِذَلِكَ أعْمالَهم، وإلَيْهِ إشارَةُ المَلائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿ولَكِنْ مَتَّعْتَهم وآباءَهم حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ [الفرقان: ١٨] . والطَّرِيقُ الثّانِي: أنَّ إمْهالَهُ الشَّيْطانَ وتَخْلِيَتَهُ حَتّى يُزَيِّنَ لَهم مُلابَسَةٌ ظاهِرَةٌ لِلتَّزْيِينِ فَأسْنَدَ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ المُخْتارُ المَحْكِيُّ بِبَعْضِ المُلابَساتِ. انْتَهى، وهو تَأْوِيلٌ عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ. (أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى مُنْكِرِي البَعْثِ، و(سُوءُ العَذابِ) الظّاهِرُ أنَّهُ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالدُّنْيا، بَلْ لَهم ذَلِكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقِيلَ: المَعْنى في الدُّنْيا، وفُسِّرَ بِما نالَهم يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القَتْلِ والأسْرِ والنَّهْبِ. وقِيلَ: ما يَنالُونَهُ عِنْدَ المَوْتِ وما بَعْدَهُ مِن عَذابِ القَبْرِ. وسُوءُ العَذابِ: شِدَّتُهُ وعِظَمُهُ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿الأخْسَرُونَ﴾ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وذَلِكَ أنَّ الكافِرَ خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ، كَما أخْبَرَ عَنْهُ - تَعالى - وهو في الآخِرَةِ أكْثَرُ خُسْرانًا، إذْ مَآلُهُ إلى عِقابٍ دائِمٍ. وأمّا في الدُّنْيا، فَإذا أصابَهُ بَلاءٌ، فَقَدْ يَزُولُ عَنْهُ ويَنْكَشِفُ. فَكَثْرَةُ الخُسْرانِ وزِيادَتُهُ، إنَّما ذَلِكَ لَهُ في الآخِرَةِ، وقَدْ تُرَتَّبُ الأكْثَرِيَّةُ، وإنْ كانَ المُسْنَدُ إلَيْهِ واحِدًا بِالنِّسْبَةِ إلى الزَّمانِ والمَكانِ، أوِ الهَيْئَةِ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ. وقالَ الكِرْمانِيُّ: أفْعَلُ هُنا لِلْمُبالَغَةِ لا لِلشَّرِكَةِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ خُسْرانٌ ألْبَتَّةَ حَتّى يُشْرِكَهُ فِيهِ الكافِرُ ويَزِيدَ عَلَيْهِ، وقَدْ بَيَّنّا كَيْفِيَّةَ الِاشْتِراكِ بِالنِّسْبَةِ إلى الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأخْسَرُونَ جَمْعُ أخْسَرَ، لِأنَّ أفْعَلَ صِفَةٌ لا يُجْمَعُ إلّا أنَّ يُضافَ، فَتَقْوى رُتْبَتُهُ في الأسْماءِ، وفي هَذا نَظَرٌ. انْتَهى. ولا نَظَرَ في كَوْنِهِ يُجْمَعُ جَمْعَ سَلامَةٍ وجَمْعَ تَكْسِيرٍ. إذا كانَ بِـ“ أل ”، بَلْ لا يَجُوزُ فِيهِ إلّا ذَلِكَ، إذا كانَ قَبْلَهُ ما يُطابِقُهُ في الجَمْعِيَّةِ فَيَقُولُ: الزَّيْدُونَ هُمُ الأفْضَلُونَ، والأفاضِلُ، والهِنْداتُ هُنَّ الفُضْلَياتُ والفُضْلُ. وأمّا قَوْلُهُ: لا يَجْمَعُ إلّا أنْ يُضافَ، فَلا يَتَعَيَّنُ إذْ ذاكَ جَمْعُهُ، بَلْ إذا أُضِيفَ إلى نَكِرَةٍ فَلا يَجُوزُ جَمْعُهُ، وإنْ أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ جازَ فِيهِ الجَمْعُ والإفْرادُ عَلى ما قُرِّرَ ذَلِكَ في كُتُبِ النَّحْوِ. ولَمّا تَقَدَّمَ: ﴿تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ﴾ خاطَبَ نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: (وإنَّكَ) أيْ هَذا القُرْآنُ الَّذِي تَلَقَّيْتَهُ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ - تَعالى - وهو الحَكِيمُ العَلِيمُ، لا كَما ادَّعاهُ المُشْرِكُونَ مِن أنَّهُ إفْكٌ وأساطِيرُ وكَهانَةٌ وشِعْرٌ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن تَقَوُّلاتِهِمْ. وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، وحُذِفَ الفاعِلُ، وهو جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِلدَّلالَةِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] . ولَقّى يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، والتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، فَيُعَدّى بِهِ إلى اثْنَيْنِ، وكَأنَّهُ كانَ غائِبًا عَنْهُ فَلَقِيَهُ فَتَلَقّاهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَعْناهُ يُعْطى، كَما قالَ: ﴿وما يُلَقّاها إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥] . وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى وإنَّكَ لَتُقَبَّلُ القُرْآنَ. وقِيلَ: مَعْناهُ تُلَقَّنُ. والحِكْمَةُ: العِلْمُ بِالأُمُورِ العَمَلِيَّةِ، والعِلْمُ أعَمُّ مِنهُ، لِأنَّهُ يَكُونُ عَمَلِيًّا ونَظَرِيًّا، وكَمالُ العِلْمِ: تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ وبَقاؤُهُ مَصُونًا عَنْ كُلِّ التَّغَيُّراتِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا لِلَّهِ - تَعالى. وهَذِهِ الآيَةُ تَمْهِيدٌ لِما يُخْبِرُ بِهِ مِنَ المُغَيَّباتِ وبَيانُ قَصَصِ الأُمَمِ الخالِيَةِ، مِمّا يَدُلُّ عَلى تَلَقِّيهِ ذَلِكَ مِن جِهَةِ اللَّهِ، وإعْلامِهِ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ دَقِيقَ عِلْمِهِ تَعالى. قِيلَ: وانْتَصَبَ (إذْ) بِاذْكُرْ مُضْمَرَةً، أوْ بِـ“ عَلِيمٍ ”؛ ولَيْسَ انْتِصابُهُ بِـ“ عَلِيمٍ ”واضِحًا، إذْ يَصِيرُ الوَصْفُ مُقَيَّدًا بِالمَعْمُولِ. وقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِن قِصَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في رِحْلَتِهِ بِأهْلِهِ مِن مَدْيَنَ: في سُورَةِ طه، وظاهِرُ أهْلِهِ جَمْعٌ لِقَوْلِهِ: (سَآتِيكم) و﴿تَصْطَلُونَ﴾ ورُوِيَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُ امْرَأتِهِ. وقِيلَ: كانَتْ ولَدَتْ لَهُ، وهو عِنْدَ شُعَيْبٍ، ولَدًا، فَكانَ مَعَ أُمِّهِ. فَإنْ صَحَّ هَذا النَّقْلُ، كانَ مِن بابِ خِطابِ الجَمْعِ عَلى سَبِيلِ الإكْرامِ والتَّعْظِيمِ. وكانَ الطَّرِيقُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، والوَقْتُ بارِدٌ، والسَّيْرُ في لَيْلٍ، فَتَشَوَّقَتْ نَفْسُهُ، إذْ رَأى النّارَ إلى زَوالِ ما لَحِقَ مِن إضْلالِ الطَّرِيقِ وشِدَّةِ البَرْدِ فَقالَ: ﴿سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ﴾ أيْ مِن مَوْقِدِها بِخَبَرٍ يَدُلُّ عَلى الطَّرِيقِ، (p-٥٥)﴿أوْ آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ﴾ أيْ إنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ مَن يُخْبِرُ، فَإنِّي أسَتَصْحِبُ ما تَدْفَئُونَ بِهِ مِنها. وهَذا التَّرْدِيدُ بَـ“ أوْ ”ظاهِرٌ، لِأنَّهُ كانَ مَطْلُوبُهُ أوَّلًا أنْ يَلْقى عَلى النّارِ مَن يُخْبِرُهُ بِالطَّرِيقِ، فَإنَّهُ مُسافِرٌ لَيْسَ بِمُقِيمٍ. فَإنْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ، فَهو مُقِيمٌ، فَيَحْتاجُونَ لِدَفْعِ ضَرَرِ البَرْدِ، وهو أنْ يَأْتِيَهم بِما يَصْطَلُونَ، فَلَيْسَ مُحْتاجًا لِلشَّيْئَيْنِ مَعًا، بَلْ لِأحَدِهِما الخَبَرُ إنْ وجَدَ مَن يُخْبِرُهُ فَيَرْحَلُ، أوْ الِاصْطِلاءُ إنْ لَمْ يَجِدْ وأقامَ. فَمَقْصُودُهُ إمّا هِدايَةُ الطَّرِيقِ، وإمّا اقْتِباسُ النّارِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِقَبَسٍ أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى﴾ [طه: ١٠] . وجاءَ هُنا: ﴿سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ﴾ وهو خَبَرٌ، وفي طه: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِقَبَسٍ﴾ [طه: ١٠] وفي القَصَصِ: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ﴾ [القصص: ٢٩] وهو تَرَجٍّ، ومَعْنى التَّرَجِّي مُخالِفٌ لِمَعْنى الخَبَرِ. ولَكِنَّ الرَّجاءَ إذا قَوِيَ، جازَ لِلرّاجِي أنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ، وإنْ كانَتِ الخَيْبَةُ يَجُوزُ أنْ تَقَعَ. وأتى بِسِينِ الِاسْتِقْبالِ، إمّا لِأنَّ المَسافَةَ كانَتْ بَعِيدَةً، وإمّا لِأنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أنْ يُبْطِئَ لِما قُدَّرَ أنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ ما يُبْطِئُهُ. والشِّهابُ: الشُّعْلَةُ، والقَبَسُ: النّارُ المَقْبُوسَةُ، فَعَلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وهو القِطْعَةُ مِنَ النّارِ في عُودٍ أوْ غَيْرِهِ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ في طه. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: بِشِهابٍ مُنَوَّنًا، فَقَبَسٌ بَدَلٌ أوْ صِفَةٌ؛ لِأنَّهُ بِمَعْنى المَقْبُوسِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بِالإضافَةِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أضافَ الشِّهابَ إلى القَبَسِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ قَبَسًا وغَيْرَ قَبَسٍ، واتَّبَعَ في ذَلِكَ أبا الحَسَنِ. قالَ أبُو الحَسَنِ: الإضافَةُ أجْوَدُ وأكْثَرُ في القِراءَةِ، كَما تَقُولُ: دارُ آجُرٍّ، وسَوارُ ذَهَبٍ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (جاءَها) عائِدٌ عَلى النّارِ، وقِيلَ: عَلى الشَّجَرَةِ، وكانَ قَدْ رَآها في شَجَرَةِ سَمُرٍ. وقِيلَ: عَلِيقٍ، وهي لا تُحْرِقُها، كُلَّما قَرُبَ مِنها بَعُدَتْ. و﴿نُودِيَ﴾ المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، الظّاهِرُ أنَّهُ ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . و(أنْ) عَلى هَذا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِوُجُودِ شَرْطِ المُفَسِّرَةِ فِيها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. أمّا الثُّنائِيَّةُ الَّتِي تَنْصِبُ المُضارِعَ، وبُورِكَ صِلَةٌ لَها، والأصْلُ حَرْفُ الجَرِّ، أيْ بِأنْ بُورِكَ، وبُورِكَ خَبَرٌ. وأمّا المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَأصْلُها حَرْفُ الجَرِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَلْ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وتَقْدِيرُهُ بِأنَّهُ بُورِكَ، والضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ والقِصَّةِ ؟ (قُلْتُ): لا، لِأنَّهُ لا بُدَّ مِن قَدْ. (فَإنْ قُلْتَ): فَعَلى إضْمارِها ؟ (قُلْتُ): لا يَصِحُّ؛ لِأنَّها عَلامَةٌ ولا تُحْذَفُ. انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وبُورِكَ فِعْلُ دُعاءٍ، كَما تَقُولُ: بارَكَ اللَّهُ فِيكَ. وإذا كانَ دُعاءً، لَمْ يَجُزْ دُخُولُ قَدْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها﴾ [النور: ٩] في قِراءَةِ مَن جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا، وكَقَوْلِ العَرَبِ: إمّا أنْ جَزاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وإمّا أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ، وكانَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَنى ذَلِكَ عَلى أنَّ (بُورِكَ) خَبَرٌ لا دُعاءٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وأجازَ الزَّجّاجُ أنْ تَكُونَ ﴿أنْ بُورِكَ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وهو عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، أيْ نُودِيَ بِـ“ أنْ ”بُورِكَ، كَما تَقُولُ: نُودِيَ بِالرُّخَصِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ“ أنْ ”الثُّنائِيَّةَ، أوِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، فَيَكُونُ“ بُورِكَ ”دُعاءً. وقِيلَ: المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ هو ضَمِيرُ النِّداءِ، أيْ نُودِيَ هو، أيِ النِّداءَ، ثُمَّ فُسِّرَ بِما بَعْدَهُ. وبُورِكَ مَعْناهُ: قُدِّسَ وطُهِّرَ وزِيدَ خَيْرُهُ، ويُقالُ: بارَكَكَ اللَّهُ، وبارَكَ فِيكَ، وبارَكَ عَلَيْكَ، وبارَكَ لَكَ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وبُورِكْتَ ناشِئًا وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إذْ أنْتَ أشِيبُ وقالَ آخَرُ: ؎بُورِكَ المَيِّتُ الغَرِيبُ كَما ∗∗∗ بُورِكَ نَبْعُ الرُّمّانِ والزَّيْتُونِ وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: ؎فَبُورِكَ في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ ∗∗∗ إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِداءُ و(مَن): المَشْهُورُ أنَّها لِمَن يُعْلَمُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ وغَيْرُهم: أرادَ تَعالى بِمَن في النّارِ ذاتَهُ، (p-٥٦)وعَبَّرَ بَعْضُهم بِعِباراتٍ شَنِيعَةٍ مَرْدُودَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ - تَعالى. وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومَن ذَكَرَ أوَّلَ عَلى حَذْفٍ، أيْ بُورِكَ مَن قُدْرَتُهُ وسُلْطانُهُ في النّارِ. وقِيلَ لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: أيْ بُورِكَ مَن في المَكانِ أوِ الجِهَةِ الَّتِي لاحَ لَهُ فِيها النّارُ. وقالَ السُّدِّيُّ: مَن لِلْمَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِها. وقِيلَ: مَن تَقَعُ هُنا عَلى ما لا يَعْقِلُ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أرادَ النُّورَ. وقِيلَ: الشَّجَرَةَ الَّتِي تَتَّقِدُ فِيها النّارُ. وقِيلَ: والظّاهِرُ في ﴿ومَن حَوْلَها﴾ أنَّهُ لِمَن يَعْلَمُ تَفْسِيرَ ﴿يا مُوسى﴾ وفُسِّرَ بِالمَلائِكَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ أُبَيٍّ؛ فِيما نَقَلَ أبُو عَمْرٍو الدّانِي: وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ؛ ومَن حَوْلَها مِنَ المَلائِكَةِ، وتُحْمَلُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى التَّفْسِيرِ؛ لِأنَّها مُخالِفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ، وفُسِّرَ أيْضًا بِمُوسى والمَلائِكَةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مَعًا. وقِيلَ: تَكُونُ لِما لا يَعْقِلُ، وفُسِّرَ بِالأمْكِنَةِ الَّتِي حَوْلَ النّارِ؛ وجَدِيرٌ أنْ يُبارَكَ مَن فِيها ومَن حَوالَيْها إذْ حَدَثَ أمْرٌ عَظِيمٌ، وهو تَكْلِيمُ اللَّهِ لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وتَنْبِيئُهُ وبَدْؤُهُ بِالنِّداءِ بِالبَرَكَةِ تَبْشِيرٌ لِمُوسى وتَأْنِيسٌ لَهُ ومُقَدِّمَةٌ لِمُناجاتِهِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ داخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿نُودِيَ﴾ . لَمّا نُودِيَ بِبَرَكَةِ مَن ذُكِرَ، نُودِيَ أيْضًا بِما يَدُلُّ عَلى التَّنْزِيهِ والبَراءَةِ مِن صِفاتِ المُحْدَثِينَ مِمّا عَسى أنْ يَخْطُرَ بِبالٍ، ولا سِيَّما إنْ حُمِلَ“ مَن في النّارِ ”عَلى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ“ مَن ”أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ - تَعالى - فَإنَّ ذَلِكَ دالٌّ عَلى التَّحَيُّزِ، فَأتى بِما يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ. وقالَ السُّدِّيُّ: هو مِن كَلامِ مُوسى، لَمّا سَمِعَ النِّداءَ قالَ: ﴿وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ تَنْزِيهًا لِلَّهِ - تَعالى - عَنْ سِماتِ المُحْدَثِينَ. وقالَ ابْنُ شَجَرَةَ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ، ومَعْناهُ: وبُورِكَ مَن سَبَّحَ اللَّهَ، وهَذا بَعِيدٌ مِن دَلالَةِ اللَّفْظِ. وقِيلَ: ﴿وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ خِطابٌ لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وهو اعْتِراضٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، والمَقْصُودُ بِهِ التَّنْزِيهُ. ولَمّا آنَسَهُ تَعالى، ناداهُ وأقْبَلَ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿يامُوسى إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ . والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في إنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وأنا اللَّهُ: جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، والعَزِيزُ الحَكِيمُ: صِفَتانِ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في إنَّهُ راجِعًا إلى ما دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، يَعْنِي: إنَّ مُكَلَّمَكَ أنا، واللَّهُ بَيانٌ لِـ“ أنا ”، و“ العَزِيزُ الحَكِيمُ ”صِفَتانِ لِلْبَيانِ. انْتَهى. وإذا حُذِفَ الفاعِلُ وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، إذْ قَدْ غُيِّرَ الفِعْلُ عَنْ بِنائِهِ لَهُ، وعَزَمَ عَلى أنْ لا يَكُونَ مُحْدَثًا عَنْهُ. فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ مِمّا يُنافِي ذَلِكَ، إذْ يَصِيرُ مَقْصُودًا مُعْتَنًى بِهِ، وهَذا النِّداءُ والإقْبالُ والمُخاطَبَةُ تَمْهِيدٌ لِما أرادَ اللَّهُ - تَعالى - أنْ يُظْهِرَهُ عَلى يَدِهِ مِنَ المُعْجِزِ، أيْ أنا القَوِيُّ القادِرُ عَلى ما يَبْعِدَ في الأوْهامِ، الفاعِلُ ما أفْعَلُهُ بِالحِكْمَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): عَلامَ عَطَفَ قَوْلَهُ: ﴿وألْقِ عَصاكَ﴾ ؟ (قُلْتُ): عَلى بُورِكَ، لِأنَّ المَعْنى: ﴿نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ﴾ . وقِيلَ لَهُ: ألْقِ عَصاكَ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وأنْ ألْقِ عَصاكَ﴾ [القصص: ٣١] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿أنْ يا مُوسى إنِّي أنا اللَّهُ﴾ [القصص: ٣٠] عَلى تَكْرِيرِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ، كَما تَقُولُ: كَتَبْتُ إلَيْهِ أنْ حُجَّ واعْتَمِرْ، وإنْ شِئْتَ أنْ حُجَّ وأنِ اعْتَمِرْ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: (إنَّهُ) مَعْطُوفٌ عَلى بُورِكَ مُنافٍ لِتَقْدِيرِهِ. وقِيلَ لَهُ:“ ألْقِ عَصاكَ ”، لِأنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى“ بُورِكَ ”، ولَيْسَ جُزْؤُها الَّذِي هو. وقِيلَ: مَعْطُوفًا عَلى بُورِكَ، وإنَّما احْتِيجَ إلى تَقْدِيرٍ. وقِيلَ لَهُ: ألْقِ عَصاكَ، لِتَكُونَ الجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً مُناسِبَةً لِلْجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْها، كَأنَّهُ يَرى في العَطْفِ تَناسُبَ المُتَعاطِفَيْنِ، والصَّحِيحُ أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ: ﴿وألْقِ عَصاكَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ أنا اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ عَطَفَ جُمْلَةَ الأمْرِ عَلى جُمْلَةِ الخَبَرِ. وقَدْ أجازَ سِيبَوَيْهِ: جاءَ زَيْدٌ ومَن عَمْرٌو. ﴿فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ﴾ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَألْقاها مِن يَدِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: جَأْنٌ، بِهَمْزَةٍ مَكانَ الألِفِ، كَأنَّهُ فَرَّ مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ (p-٥٧)فِي نَحْوِ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ولا الضَّأْلِينَ، بِالهَمْزِ في قِراءَةِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ. وجاءَ: ﴿فَإذا هي حَيَّةٌ﴾ [طه: ٢٠] ﴿فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٠٧] وهَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ بِانْقِلابِها وتَغْيِيرِ أوْصافِها وأعْراضِها، ولَيْسَ إعْدامًا لِذاتِها وخَلْقِها لِحْيَةٍ وثُعْبانٍ، بَلْ ذَلِكَ مِن تَغْيِيرِ الصِّفاتِ لا تَغْيِيرِ الذّاتِ. وهُنا شَبَّهَها حالَةَ اهْتِزازِها بِالجانِّ، فَقِيلَ: وهو صِغارُ الحَيّاتِ، شَبَّهَها بِها في سُرْعَةِ اضْطِرابِها وحَرَكَتِها، مَعَ عِظَمِ جُثَّتِها. ولَمّا رَأى مُوسى هَذا الأمْرَ الهائِلَ ﴿ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ﴾ . قالَ مُجاهِدٌ: ولَمْ يَرْجِعْ. وقالَ السُّدِّيُّ: لَمْ يَمْكُثْ. وقالَ قَتادَةُ: ولَمْ يَلْتَفِتْ، يُقالُ: عَقَّبَ الرَّجُلُ: تَوَجَّهَ إلى شَيْءٍ كانَ ولّى عَنْهُ، كَأنَّهُ انْصَرَفَ عَلى عَقِبَيْهِ، ومِنهُ: عَقَّبَ المُقاتِلُ، إذا كَرَّ بَعْدَ الفِرارِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎فَأعْقَبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِن مُعَقِّبٍ ∗∗∗ ولا نَزَلُوا يَوْمَ الكَرِيهَةِ مَنزِلًا ولَحِقَهُ ما لَحِقَ طَبْعَ البَشَرِيَّةِ إذا رَأى الإنْسانُ أمْرًا هائِلًا جِدًّا، وهو رُؤْيَةُ انْقِلابِ العَصا حَيَّةً تَسْعى، ولَمْ يَتَقَدَّمْهُ في ذَلِكَ تَطْمِينٌ إلَيْهِ عِنْدَ رُؤْيَتِها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما رَغِبَ لِظَنِّهِ أنَّ ذَلِكَ لِأمْرٍ أُرِيدَ بِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ: ﴿إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ . انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وناداهُ اللَّهُ - تَعالى - مُؤْنِسًا ومُقَوِّيًا عَلى الأمْرِ: ﴿يا مُوسى لا تَخَفْ﴾ فَإنَّ رُسُلِي الَّذِينَ اصْطَفَيْتُهم لِلنُّبُوَّةِ لا يَخافُونَ غَيْرِي. فَأخَذَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - الحَيَّةَ، فَرَجَعَتْ عَصًا، ثُمَّ صارَتْ لَهُ عادَةً. انْتَهى. وقِيلَ: المَعْنى لا يَخافُ المُرْسَلُونَ في المَوْضِعِ الَّذِي يُوحى إلَيْهِ فِيهِ، وهم أخْوَفُ النّاسِ مِنَ اللَّهِ. وقِيلَ: إذا أمَرْتُهم بِإظْهارِ مُعْجِزٍ، فَيَنْبَغِي أنْ لا يَخافُوا فِيما يَتَعَلَّقُ بِإظْهارِ ذَلِكَ، فالمُرْسَلُ يَخافُ اللَّهَ لا مَحالَةَ. انْتَهى. والأظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا مَن ظَلَمَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، والمَعْنى: لَكِنْ مَن ظَلَمَ غَيْرُهم، قالَهُ الفَرّاءُ وجَماعَةٌ، إذِ الأنْبِياءُ مَعْصُومُونَ مِن وُقُوعِ الظُّلْمِ الواقِعِ مِن غَيْرِهِمْ. وعَنِ الفَرّاءِ: إنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِن جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ، والتَّقْدِيرُ: وإنَّما يَخافُ غَيْرُهم إلّا مَن ظَلَمَ. ورَدَّهُ النَّحّاسُ وقالَ: الِاسْتِثْناءُ مِن مَحْذُوفٍ مُحالٌ، لَوْ جازَ هَذا لَجازَ أنْ لا يَضْرِبَ القَوْمَ إلّا زَيْدًا، بِمَعْنى: وإنَّما أضْرِبُ غَيْرَهم إلّا زَيْدًا، وهَذا ضِدُّ البَيانِ والمَجِيءِ بِما لا يُعْرَفُ مَعْناهُ. انْتَهى. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إلّا بِمَعْنى الواوِ، والتَّقْدِيرُ: ولا مَن ظَلَمَ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ مَعْنى إلّا مُبايِنٌ لِمَعْنى الواوِ مُبايَنَةً كَثِيرَةً، إذِ الواوُ لِلْإدْخالِ، وإلّا لِلْإخْراجِ، فَلا يُمْكِنُ وُقُوعُ أحَدِهِما مَوْقِعَ الآخَرِ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، ومُقاتِلٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ، والضَّحّاكِ، ما يَقْتَضِي أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الأنْبِياءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبائِرِ ومِنَ الصَّغائِرِ الَّتِي هي رَذائِلُ، واخْتُلِفَ فِيما عَداها، فَعَسى أنْ يُشِيرَ الحَسَنُ وابْنُ جُرَيْجٍ إلى ما عَدا ذَلِكَ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإلّا بِمَعْنى لَكِنْ، لِأنَّهُ لَمّا أطْلَقَ نَفْيَ الخَوْفِ عَنِ المُرْسَلِ كانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ الضُّرِّ والشُّبْهَةِ فاسْتَدْرَكَ ذَلِكَ، والمَعْنى: ولَكِنْ مَن ظَلَمَ مِنهم، أيْ فَرَطَتْ مِنهم صَغِيرَةٌ مِمّا لا يَجُوزُ عَلى الأنْبِياءِ، كالَّذِي فَرَطَ مِن آدَمَ ويُونُسَ وداوُدَ وسُلَيْمانَ وإخْوَةِ يُوسُفَ، ومِن مُوسى، بِوَكْزَةِ القِبْطِيِّ. ويُوشِكُ أنْ يُقْصَدَ بِهَذا التَّعْرِيضِ ما وُجِدَ مِن مُوسى، وهو مِنَ التَّعْرِيضاتِ الَّتِي يَلْطُفُ مَأْخَذُها، وسَمّاهُ ظُلْمًا؛ كَما قالَ مُوسى: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: ١٦] . انْتَهى. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: ألا مَن ظَلَمَ، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ اللّامِ، حَرْفُ اسْتِفْتاحٍ. ومَن: شَرْطِيَّةٌ. والحُسْنُ: حُسْنُ التَّوْبَةِ، والسُّوءُ: الظُّلْمُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: حُسْنًا، بِضَمِّ الحاءِ وإسْكانِ السِّينِ مُنَوَّنًا. وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ: كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ لَمْ يُنَوَّنْ، جَعَلَهُ فُعْلى، فامْتَنَعَ الصَّرْفُ؛ وابْنُ مِقْسَمٍ: بِضَمِّ الحاءِ والسِّينِ مُنَوَّنًا. ومُجاهِدٌ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والأعْمَشُ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ الجُعْفِيِّ، وأبُو زَيْدٍ، وعِصْمَةُ، وعَبْدُ الوارِثِ، وهارُونُ، وعِياشٌ: بِفَتْحِهِما مُنَوَّنًا. (وأدْخِلْ) أمْرٌ بِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن ظُهُورِ المُعْجِزِ العَظِيمِ، لَمّا أظْهَرَ لَهُ مُعْجِزًا في غَيْرِهِ، وهو العَصا، أظْهَرَ لَهُ مُعْجِزًا في نَفْسِهِ، وهو تَلَأْلُؤُ يَدِهِ كَأنَّها قِطْعَةُ (p-٥٨)نُورٍ، إذا فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ. وجَوابُ الأمْرِ الظّاهِرِ أنَّهُ“ تَخْرُجْ ”؛ لِأنَّ خُرُوجَها مُتَرَتِّبٌ عَلى إدْخالِها. وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَدْخُلْ، وأخْرِجْها تَخْرُجْ، فَحُذِفَ مِنَ الأوَّلِ ما أُثْبِتَ مُقابِلُهُ في الثّانِي، ومِنَ الثّانِي ما أُثْبِتَ مُقابِلُهُ في الأوَّلِ. قالَ قَتادَةُ: ﴿فِي جَيْبِكَ﴾ قَمِيصِكَ، كانَتْ لَهُ مِدْرَعَةٌ مِن صُوفٍ لا كُمَّيْنِ لَها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ: كانَ كُمُّها إلى بَعْضِ يَدِهِ. وقالَ السُّدِّيُّ: في جَيْبِكَ: أيْ تَحْتَ إبِطِكَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِي تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْهَبْ بِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: ﴿فِي تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ﴾ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ: ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً﴾ وهَذا الحَذْفُ مِثْلُ قَوْلِهِ: ؎أتَوْا نارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أنْتُمْ ∗∗∗ فَقالُوا الجِنُّ قُلْتُ عِمُوا ظَلامًا ؎وقُلْتُ إلى الطَّعامِ فَقالَ مِنهم ∗∗∗ فَرِيقٌ يَحْسُدُ الإنْسُ الطَّعاما التَّقْدِيرُ: هَلُمُّوا إلى الطَّعامِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وألْقِ عَصاكَ، وأدْخِلْ يَدَكَ، في ﴿تِسْعِ آياتٍ﴾ أيْ في جُمْلَةِ تِسْعِ آياتٍ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: كانَتِ الآياتُ إحْدى عَشْرَةَ، ثَنَتانِ مِنها: اليَدُ والعَصا، والتِّسْعُ: الفَلْقُ، والطُّوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ، والطَّمْسَةُ، والجَدْبُ في بَوادِيهِمْ، والنُّقْصانُ مِن مَزارِعِهِمْ. انْتَهى. فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ العَصا واليَدُ داخِلَتَيْنِ في التِّسْعِ، وعَلى الثّانِي تَكُونُ في بِمَعْنى مَعَ، أيْ مَعَ تِسْعِ آياتٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿فِي تِسْعِ آياتٍ﴾ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (ألْقِ، وأدْخِلْ)، وفِيهِ اقْتِضابٌ وحَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: تُمَهَّدْ ذَلِكَ وتُيَسَّرْ لَكَ في جُمْلَةِ تِسْعِ آياتٍ وهي: العَصا، واليَدُ، والطُّوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ، والطَّمْسُ، والحَجَرُ؛ وفي هَذَيْنِ الأخِيرَيْنِ اخْتِلافٌ، والمَعْنى: يَجِيءُ بِهِنَّ إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: في تِسْعِ آياتٍ، أيْ مِن تِسْعِ آياتٍ، كَما تَقُولُ: خُذْ (لِي) عَشْرًا مِنَ الإبِلِ فِيها فَحْلانِ، أيْ مِنها إلى فِرْعَوْنَ، أيْ مُرْسَلًا إلى فِرْعَوْنَ. انْتَهى. وانْتَصَبَ (مُبْصِرَةً) عَلى الحالِ، أيْ بَيِّنَةٍ واضِحَةٍ، ونُسِبَ الإبْصارُ إلَيْها عَلى سَبِيلِ المَجازِ، لَمّا كانَ يُبَصِّرُ بِها جُعِلَتْ مُبْصِرَةً، أوْ لَمّا كانَ مَعَها الإبْصارُ والوُضُوحُ. وقِيلَ: لِجَعْلِهِمْ بُصَراءَ، مِن قَوْلِكَ: أبْصَرْتُهُ المُتَعَدِّيَةُ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ مِن بَصَرَ. وقِيلَ: فاعِلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كَماءٍ دافِقٍ. وقَرَأ قَتادَةُ، وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ: مَبْصَرَةً، بِفَتْحِ المِيمِ والصّادِّ، وهو مَصْدَرٌ، كَما تَقُولُ: الوَلَدُ مَجْبَنَةٌ، وأُقِيمَ مَقامَ الِاسْمِ، وانْتَصَبَ أيْضًا عَلى الحالِ، وكَثُرَ هَذا الوَزْنُ في صِفاتِ الأماكِنِ نَحْوَ: أرْضٌ مَسْبَعَةً، ومَكانٌ مَضَبَّةٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ مَكانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ. انْتَهى. والأبْلَغُ في: ﴿واسْتَيْقَنَتْها﴾ أنْ تَكُونَ الواوُ واوَ الحالِ، أيْ كَفَرُوا بِها وأنْكَرُوها في الظّاهِرِ، وقَدِ اسْتَيْقَنَتْ أنْفُسُهم في الباطِنِ أنَّها آياتٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وكابَرُوا وسَمَّوْها سِحْرًا. وقالَ تَعالى، حِكايَةً عَنْ مُوسى في مُحاوَرَتِهِ لِفِرْعَوْنَ: ﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ﴾ [الإسراء: ١٠٢] . (ظُلْمًا) مُجاوَزَةَ الحَدِّ (وعُلُوًّا) ارْتِفاعًا وتَكَبُّرًا عَنِ الإيمانِ، وانْتَصَبا عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ ظالِمِينَ عالِينَ؛ أوْ مَفْعُولانِ مِن أجْلِهِما، أيْ لِظُلْمِهِمْ وعُلُوِّهِمْ، أيِ الحامِلُ لَهم عَلى الإنْكارِ والجُحُودِ، مَعَ اسْتِيقانِ أنَّها آياتٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ هو الظُّلْمُ والعُلُوُّ. واسْتَفْعَلَ هُنا بِمَعْنى تَفَعَّلَ نَحْوَ: اسْتَكْبَرَ في مَعْنى تَكَبَّرَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وطَلْحَةُ، وأبانُ بْنُ تَغْلِبَ،“ وعِلِيًّا ": بِقَلْبِ الواوِ ياءً، وكَسْرِ العَيْنِ واللّامِ، وأصْلُهُ فُعُولٌ، لَكِنَّهم كَسَرُوا العَيْنَ إتْباعًا؛ ورُوِيَ ضَمُّها عَنِ ابْنٍ وثّابٍ والأعْمَشِ وطِلْحَةَ، وتَقَدَّمَ الخِلافُ في كُفْرِ العِنادِ، هَلْ يَجُوزُ أنْ يَقَعَ أمْ لا ؟ والعاقِبَةُ: ما آلَ إلَيْهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِن سُوءِ المُنْقَلَبِ، وما أُعِدَّ لَهم في الآخِرَةِ أشَدُّ، وفي هَذا تَمْثِيلٌ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ، إذْ كانُوا مُفْسِدِينَ مُسْتَعْلِينَ، وتَحْذِيرُهم أنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ ما حَلَّ بِمَن كانَ قَبْلَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب