الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (٥) ﴾ يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يصدّقون بالدار الآخرة، وقيام الساعة، وبالمعاد إلى الله بعد الممات والثواب والعقاب. ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ يقول: حببنا إليهم قبيح أعمالهم، وسهَّلنا ذلك عليهم. ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ يقول: فهم في ضلال أعمالهم القبيحة التي زيَّناها لهم يتردّدون حيارى يحسبون أنهم يحسنون. * * * وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة لهم سوء العذاب في الدنيا، وهم الذين قتلوا ببدر من مشركي قريش. يقول: وهم يوم القيامة هم الأوضعون تجارة والأوكسوها باشترائهم الضلالة بالهدى ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ . * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) ﴾ يقول تعالى ذكره: وإنك يا محمد لتحفظ القرآن وتعلمه ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ يقول: من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بأنباء خلقه ومصالحهم، والكائن من أمورهم، والماضي من أخبارهم، والحادث منها. ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ وإذ من صلة عليم. ومعنى الكلام: عليم حين قال موسى ﴿لأهْلِهِ﴾ وهو في مسيره من مدين إلى مصر، وقد آذاهم برد ليلهم لما أصلد زنده. ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ أي أبصرت نارا أو أحسستها، فامكثوا مكانكم ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ يعني من النار، والهاء والألف من ذكر النار ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: "بِشِهَابِ قَبَسٍ" بإضافة الشهاب إلى القبس، وترك التنوين، بمعنى: أو آتيكم بشعلة نار أقتبسها منها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ بتنوين الشهاب وترك إضافته إلى القبس، يعني: أو آتيكم بشهاب مقتبس. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: إذا جُعل القبس بدلا من الشهاب، فالتنوين في الشهاب، وإن أضاف الشهاب إلى القبس لم ينون الشهاب. وقال بعض نحويِّي الكوفة: إذا أضيف الشهاب إلى القبس فهو بمنزلة قوله ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف اسماه ولفظاه توهما بالثاني أنه غير الأوّل قال: ومثله حبة الخضراء، وليلة القمراء، ويوم الخميس وما أشبهه. وقال آخر منهم: إن كان الشهاب هو القبس لم تجز الإضافة، لأن القبس نعت، ولا يضاف الاسم إلى نعته إلا في قليل من الكلام، وقد جاء: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ و ﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ﴾ . والصواب من القول في ذلك: أن الشهاب إذا أريد به أنه غير القبس، فالقراءة فيه بالإضافة، لأن معنى الكلام حينئذ، ما بينا من أنه شعلة قبس، كما قال الشاعر: في كَفِّه صَعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ ... فِيها سِنانٌ كشُعْلَة القَبَس [[البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة ١٧٥) قال: "بشهاب قبس" أي بشعلة نار. ومجاز قبس: ما اقتبست منها ومن الجمر، قال: "في كفه.." البيت. والصعدة: القناة تنبت مستقيمة. والشاهد في البيت: إضافة الشعلة إلى القبس أي شعلة مقتبسة من نار كما في قول الله عز وجل (بشهاب قبس) في قراءة من قرأه بالإضافة. ويجوز تنوين "شهاب" وجعل قبس صفة له إذا اعتبر الشهاب هو نفس القبس، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولا إلى صفته.]] وإذا أريد بالشهاب أنه هو القبس، أو أنه نعت له، فالصواب في الشهاب التنوين؛ لأن الصحيح في كلام العرب ترك إضافة الاسم إلى نعته، وإلى نفسه، بل الإضافات في كلامها المعروف إضافة الشيء إلى غير نفسه وغير نعته. * * * وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ يقول: كي تصطلوا بها من البرد. * * * وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا﴾ يقول: فلما جاء موسى النار التي آنسها ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ . كما:- ⁕ حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ يقول: قدّس. واختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ فقال بعضهم: عنى جلّ جلاله بذلك نفسه، وهو الذي كان في النار، وكانت النار نوره تعالى ذكره في قول جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ يعني نفسه؛ قال: كان نور ربّ العالمين في الشجرة. ⁕ حدثني إسماعيل بن الهيثم أبو العالية العبدي، قال: ثنا أبو قُتَيبة، عن ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، في قول الله: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ قال: ناداه وهو في النار. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن في قوله: ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ قال: هو النور. قال معمر: قال قَتادة: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ قال: نور الله بورك. ⁕ قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال الحسن البصري: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [[لعل المؤلف لم يجيء بمقول القول، اكتفاء بنص ما قبله، لموافقته إياه لفظًا ومعنى. وقد تكرر منه ذلك في مواضع.]] . وقال آخرون: بل معنى ذلك: بوركت النار. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني الحارث، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ بوركت النار. كذلك قاله ابن عباس. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ قال: بوركت النار. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مجاهد: ﴿بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ قال: بوركت النار. ⁕ حدثنا محمد بن سنان القزاز قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا موسى، عن محمد بن كعب، في قوله: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ نور الرحمن، والنور هو الله ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ . واختلف أهل التأويل في معنى النار في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: النور، كما ذكرت عمن ذكرت ذلك عنه. وقال آخرون: معناه النار لا النور. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن سعيد بن جبير، أنه قال: حجاب العزّة، وحجاب المَلِكَ، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وهي تلك النار التي نودي منها. قال: وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء، وإنما قيل: بورك من في النار، ولم يقل: بورك فيمن في النار على لغة الذين يقولون: باركك الله. والعرب تقول: باركك الله، وبارك فيك. * * * وقوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ يقول: ومن حول النار. وقيل: عَنى بمن حولها: الملائكة. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ قال: يعني الملائكة. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن الحسن، مثله. وقال آخرون: هو موسى والملائكة. ⁕ حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا موسى، عن محمد بن كعب ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ قال: موسى النبيّ والملائكة، ثم قال: (يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . * * * وقوله: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يقول: وتنزيها لله رب العالمين، مما يصفه به الظالمون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب