الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿إذْ قالَ مُوسى لأهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أو آتِيكم بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النارِ ومَن حَوْلَها وسُبْحانَ اللهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿يا مُوسى إنَّهُ أنا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾
"تَلْقى" تَفْعَلُ، مُضاعَفٌ، ومَعْناهُ: تُعْطى، كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وَما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥]، قالَ الحَسَنُ: المَعْنى: أنَّكَ لَتُقَبِّلُ القُرْآنَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولا شَكَّ أنَّهُ يَفِيضُ عَلَيْهِ فَضْلُ اللهِ تَعالى فَيُقَلِّبُهُ ﷺ، وهَذِهِ الآيَةُ رَدٌّ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ في قَوْلِهِمْ: إنَّ القُرْآنَ مِن تِلْقاءِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. و"مِن لَدُنْ" مَعْناهُ: مِن عِنْدِهِ ومِن جِهَتِهِ، و"الحَكِيمُ": ذُو الحِكْمَةِ في مَعْرِفَتِهِ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ، وفي غَيْرِ ذَلِكَ، لا إلَهَ إلّا هو.
ثُمَّ قَصَّ تَعالى خَبَرَ مُوسى، والتَقْدِيرُ: اذْكُرْ إذْ قالَ مُوسى، وكانَ مِن أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ (p-٥١٧)السَلامُ أنَّهُ حِينَ خَرَجَ بِزَوْجَتِهِ بِنْتِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِما السَلامُ يُرِيدُ مِصْرَ -وَقَدْ قَرُبَ وقْتُ نُبُوَّتِهِ- مَشَوْا في لَيْلَةٍ ظَلْماءَ ذاتِ بَرْدٍ ومَطَرٍ، فَفَقَدُوا النارَ ومَسَّهُمُ البَرْدُ واشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الظُلْمَةُ وضَلُّوا الطَرِيقَ، وأصْلَدَ زِنادُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَبَيْنا هو في هَذِهِ الحالِ إذْ رَأى نارًا عَلى بُعْدٍ. و"آنَسْتُ" مَعْناهُ: رَأيْتُ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ:
؎ انْظُرْ خَلِيلِيَّ بِبابِ جِلَّقِ هَلْ تُؤْنِسُ دُونَ البَلْقاءِ مِن أحَدٍ؟
فَلَمّا رَأى مُوسى ذَلِكَ قالَ لِأهْلِهِ ما في الآيَةِ، ومَشى نَحْوَها، فَلَمّا دَنا مِنها بَعُدَتْ هي مِنهُ، وكانَ ذَلِكَ نُورًا مِن نُورِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَمْ يَكُنْ نارًا في نَفْسِهِ، لَكِنْ ظَنَّهُ مُوسى نارًا، فَناداهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عِنْدَ ذَلِكَ، وسَمِعَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ النِداءَ مِن جِهَةِ الشَجَرَةِ، وأسْمَعُهُ اللهُ تَعالى كَلامَهُ. و"الخَبَرُ" الَّذِي رَجاهُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ هو الإعْلامُ بِالطَرِيقِ. وقَوْلُهُ: ﴿بِشِهابٍ قَبَسٍ﴾، شِبْهُ النارِ الَّتِي تُوجَدُ في طَرَفِ عُودٍ أو غَيْرِهِ بِالشِهابِ، ثُمَّ خَصَّصَهُ بِأنَّهُ مِمّا اقْتُبِسَ؛ إذِ الشُهُبُ قَدْ تَكُونُ مِن غَيْرِ اقْتِباسٍ، والقَبَسُ اسْمٌ لِقِطْعَةِ النارِ تُقْتَبَسُ في عُودٍ أو غَيْرِهِ، كَما أنَّ القَبْضَ اسْمٌ ما يَقْبِضُ، ومِنهُ قَوْلٌ أبِي زَيْدٍ:
؎ في كِفَّةٍ صَعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ ∗∗∗ فِيها سِنانٌ كَشُعْلَةِ القَبَسِ
(p-٥١٨)وَقَوْلُ الآخَرِ:
؎ مَن شاءَ مِن نارِ الجَحِيمِ اسْتَقْبَسا
وأصْلُ الشِهابِ الكَوْكَبُ المُنْقَضُّ في أثَرٍ مُسْتَرِقِ السَمْعِ، وكُلُّ ما يُقالُ لَهُ شِهابٌ مِنَ النَيِّراتِ فَعَلى التَشْبِيهِ، قالَ الزَجّاجُ: كُلُّ أبْيَضَ ذِي نُورٍ فَهو شِهابٌ، وكَلامُهُ مُعْتَرَضٌ، والقَبَسُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْمًا غَيْرَ صِفَةٍ أضافَ إلَيْهِ، بِمَعْنى: بِشِهابٍ اقْتَبَسَهُ أوِ اقْتَبَسَتْهُ، وعَلى كَوْنِهِ صِفَةً يَكُونُ ذَلِكَ كَإضافَةِ الدارِ إلى الآخِرَةِ، والصَلاةِ إلى الأُولى، وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِإضافَةِ "شِهابٍ" إلى "قَبَسٍ"، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ وأهْلِ المَدِينَةِ ومَكَّةَ والشامِ، وقَرَأ عاصِمْ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "بِشِهابٍ قَبَسٍ" بِتَنْوِينِ "شِهابٍ"، وهَذا عَلى الصِفَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرَ: قَبَسَ يَقْبِسُ، كَما الحَلْبُ مَصْدَرُ حَلَبَ يَحْلِبُ، وقالَ أبُو الحَسَنِ: الإضافَةُ أجْوَدُ وأكْثَرُ في القِراءَةِ، كَما تَقُولُ: دارُ آجُرٍّ وسِوارُ ذَهَبٍ، حَكاهُ أبُو عَلِيٍّ. و"تَصْطَلُونَ" مَعْناهُ: تَسْتَدْفِئُونَ مِنَ البَرْدِ.
والضَمِيرُ في "جاءَها" لِلنّارِ الَّتِي رَآها مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، وقَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿أنْ بُورِكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "أنْ" مُفَسِّرَةً، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى تَقْدِيرِ: "بِأنْ بُورِكَ"، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى تَقْدِيرِ: "نُودِيَ أنَّهُ"، قالَهُ الزَجّاجُ. وقَوْلُهُ: "بُورِكَ" مَعْناهُ:، قُدِّسَ وضُوعِفَ خَيْرُهُ ونُمِّيَ، والبَرَكَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالخَيْرِ، ومِن هَذا قَوْلُ أبِي طالِبِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ:
؎ بُورِكَ المَيِّتُ الغَرِيبُ كَما بُو ∗∗∗ رِكَ نَبْعُ الرُمّانِ والزَيْتُونُ
و"بارَكَ" مُتَعَدٍّ بِغَيْرِ حَرْفٍ، تَقُولُ العَرَبُ: بارَكَكَ اللهُ.
(p-٥١٩)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن في النارِ﴾ اضْطَرَبَ المُتَأوِّلُونَ فِيهِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، وغَيْرُهُمْ: أرادَ عَزَّ وجَلَّ نَفْسَهُ، وعَبَّرَ بَعْضُهم في هَذا القَوْلِ عِباراتٍ مَرْدُودَةً شَنِيعَةً. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أرادَ النُورَ. وقالَ الحَسَنُ، وابْنُ عَبّاسٍ: أرادَ بِـ "مِن حَوْلَها" المَلائِكَةَ ومُوسى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَأمّا قَوْلُ الحَسَنِ وغَيْرُهُ فَإنَّما يَتَخَرَّجُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، بِمَعْنى: بُورِكَ مِن قُدْرَتِهِ وسُلْطانِهِ في النارِ، والمَعْنى: في النارِ عَلى ظَنِّكَ وما حَسِبْتَ، وأمّا القَوْلُ بِأنَّ " مَن في النارِ " النُورُ، فَهَذا عَلى أنْ يُعَبِّرَ عَنِ النُورِ مِن حَيْثُ كانَ أنَّهُ مِن نُورِ اللهِ تَعالى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ النُورَ الَّذِي حَسِبَهُ مُوسى نارًا لَمْ يَخْلُ مِنَ المَلائِكَةِ. و" مَن حَوْلَها " يَكُونُ مُوسى والمَلائِكَةَ المُطِيفِينَ بِها. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ "بُورِكَتِ النارُ". و" مِن حَوْلِها " يَكُونُ مُوسى والمَلائِكَةَ، كَذا حَكى أبُو حاتِمْ، وحَكى ابْنُ مَكِّيٍّ أنَّهُ قَرَأ: "تَبارَكَتِ النارُ ومَن حَوْلَها"، وحَكى الدانِيُّ أبُو عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ: "وَمَن حَوْلَها مِنَ المَلائِكَةِ"، قالَ: وكَذَلِكَ قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِمّا قِيلَ في النِداءِ لِمُوسى (p-٥٢٠)عَلَيْهِ السَلامُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ اعْتِراضًا بَيْنَ الكَلامَيْنِ، والمَقْصِدُ بِهِ -عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ- تَنْزِيهُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِمّا عَسى أنْ يَخْطُرَ بِبالٍ في مَعْنى النِداءِ في الشَجَرَةِ، وكَوْنُ قُدْرَتِهِ وسُلْطانِهِ في النارِ. وعَوْدُ "مَن" عَلَيْهِ، أيْ: هو مُنَزَّهٌ -فِي جَمِيعِ هَذِهِ الحالاتِ- عَنِ التَشْبِيهِ والتَكْيِيفِ، قالَ الثَعْلَبِيُّ: وإنَّما الأمْرُ -كَما رُوِيَ في التَوْراةِ-: (جاءَ اللهُ مِن سَيْناءَ، وأشْرَقَ مِن ساعِيرَ، واسْتَعْلى مِن فارانَ )، المَعْنى: ظَهَرَتْ أوامِرُهُ بِأنْبِيائِهِ في هَذِهِ الحالاتِ. والضَمِيرُ في "إنَّهُ" لِلْأمْرِ والشَأْنِ، قالَ الطَبَرِيُّ: ويُسَمِّيها أهْلُ الكُوفَةِ المَجْهُولَةَ، آنَسَهُ اللهُ تَعالى بِصِفاتِهِ مِنَ العِزَّةِ الَّتِي لا خَوْفَ مَعَها، والحِكْمَةِ، أيْ: لا نَقْصَ في أفْعالِهِ.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ عَلِیمٍ","إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦۤ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا سَـَٔاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِیكُم بِشِهَابࣲ قَبَسࣲ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ","فَلَمَّا جَاۤءَهَا نُودِیَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِی ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّهُۥۤ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"],"ayah":"وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ عَلِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق