الباحث القرآني

﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾: الكَلامُ عَلى: ﴿تَسْفِكُونَ﴾، كالكَلامِ عَلى: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] مِن حَيْثُ الإعْرابُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التّاءِ وسُكُونِ السِّينِ وكَسْرِ الفاءِ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وشُعَيْبُ بْنُ أبِي حَمْزَةَ؛ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُما ضَمّا الفاءَ. وقَرَأ أبُو نَهِيكٍ وأبُو مِجْلَزٍ: بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ السِّينِ وكَسْرِ الفاءِ المُشَدَّدَةِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ سَكَّنَ السِّينَ وخَفَّفَ الفاءَ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾، أيْ لا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأنْفُسِكم لِشِدَّةٍ تُصِيبُكم وحَنَقٍ يَلْحَقُكم. وقَدْ جاءَ في الحَدِيثِ أمْرُ الَّذِي وضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ في الأرْضِ وذُبابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. وإخْبارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ مِن أهْلِ النّارِ. وصَحَّ: «مَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِها في بَطْنِهِ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدًا مُخَلَّدًا فِيها أبَدًا» . وتَظافَرَتْ عَلى تَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ المِلَلُ. وقالَ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] . وقِيلَ مَعْناهُ: لا تَسْفِكُوا دِماءَ النّاسِ، فَإنَّ مَن سَفَكَ دِماءَهم سَفَكُوا دَمَهُ، وقالَ: ؎سَقَيْناهم كَأْسًا سَقَوْنا بِمِثْلِها ولَكِنَّهم كانُوا عَلى المَوْتِ أصْبَرا وقِيلَ: مَعْناهُ لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم بِارْتِكابِكم ما يُوجِبُ ذَلِكَ، كالِارْتِدادِ والزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ، والمُحارَبَةِ، وقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يُزِيلُ عِصْمَةَ الدِّماءِ. وقِيلَ: مَعْناهُ لا يَسْفِكُ بَعْضُكم دِماءَ بَعْضٍ، وإلَيْهِ أشارَ بِقَوْلِهِ: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقابَ بَعْضٍ»، وكانَ أهْلُ دِينٍ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، قالَهُ قَتادَةُ، واخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّ اللَّهَ أخَذَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في التَّوْراةِ مِيثاقًا أنْ لا يَقْتُلَ بَعْضُهم بَعْضًا، ولا يَنْفِيَهُ، ولا يَسْتَرِقَهُ، ولا يَدَعَهُ يَسْتَرِقُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطّاعاتِ. والخِطابُ في ”أخَذْنا مِيثاقَكم“ لِعُلَماءِ اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْ مَعَ أسْلافِهِمْ. ﴿ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكم مِن دِيارِكُمْ﴾ مَعْناهُ: لا يُخْرِجْ بَعْضُكم بَعْضًا، أوْ لا تُسِيئُوا جِوارَ مَن جاوَرَكم فَتُلْجِئُوهم إلى الخُرُوجِ مِن دِيارِكم، أوْ لا تَفْعَلُوا ما تُخْرِجُونَ بِهِ أنْفُسَكم مِنَ الجَنَّةِ الَّتِي هي دارُكم، أوْ لا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكم، أيْ إخْوانَكم، لِأنَّكم كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أوْ لا تُفْسِدُوا فَيَكُونَ سَبَبًا لِإخْراجِكم مِن دِيارِكم، كَأنَّهُ يُشِيرُ إلى تَغْرِيبِ الجانِي، أوْ لا تُفْسِدُوا وتُشاقُّوا الأنْبِياءَ والمُؤْمِنِينَ فَيُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الجَلاءُ. أقْوالٌ سِتَّةٌ. ثُمَّ أقْرَرْتُمْ: أيْ بِالمِيثاقِ، واعْتَرَفْتُمْ بِلُزُومِهِ، أوِ اعْتَرَفْتُمْ بِقَبُولِهِ، أوْ رَضِيتُمْ بِهِ، كَما قالَ البُعَيْثُ: ؎ولَسْتُ كُلَيْبِيًّا إذا سِيمَ خُطَّةً ∗∗∗ أقَرَّ كَإقْرارِ الحَلِيلَةِ لِلْبَعْلِ ﴿وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾: أيْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ أخَذَهُ عَلَيْكم، وأرادَ عَلى قُدَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ، إنْ كانَ الخِطابُ وارِدًا عَلَيْهِمْ، وإنْ كانَ عَلى مُعاصِرِيهِ ﷺ مِن أبْنائِهِمْ، فَمَعْناهُ: وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلى أسْلافِكم بِما أخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ العَهْدِ، إمّا بِالنَّقْلِ المُتَواتِرِ، وإمّا بِما تَتْلُونَهُ مِنَ التَّوْراةِ. وإنْ كانَ مَعْنى الشَّهادَةِ الحُضُورَ، فَيَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِأسْلافِهِمْ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: ثُمَّ أقْرَرْتُمْ عائِدٌ إلى الخَلَفِ، وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ عائِدٌ إلى السَّلَفِ ؟ لِأنَّهم عايَنُوا سَفْكَ دِماءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وقالَ: وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِأنَّ الأوائِلَ والأصاغِرَ صارُوا كالشَّيْءِ الواحِدِ، فَلِذَلِكَ أطْلَقَ عَلَيْهِمْ خِطابَ الحَضْرَةِ. وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِكَ: فُلانٌ مُقِرٌّ عَلى نَفْسِهِ بِكَذا، شاهِدٌ عَلَيْها. (p-٢٩٠)﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾: هَذا اسْتِبْعادٌ لِما أخْبَرَ عَنْهم بِهِ مِنَ القَتْلِ والإجْلاءِ والعُدْوانِ، بَعْدَ أخْذِ المِيثاقِ مِنهم، وإقْرارِهِمْ وشَهادَتِهِمْ. واخْتَلَفَ المُعْرِبُونَ في إعْرابِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، فالمُخْتارُ أنَّ أنْتُمْ مُبْتَدَأٌ، وهَؤُلاءِ خَبَرٌ، وتَقْتُلُونَ حالٌ. وقَدْ قالَتِ العَرَبٌ: ها أنْتَ ذا قائِمًا، وها أنا ذا قائِمًا. وقالَتْ أيْضًا: هَذا أنا قائِمًا، وها هو ذا قائِمًا، وإنَّما أُخْبِرَ عَنِ الضَّمِيرِ بِاسْمِ الإشارَةِ في اللَّفْظِ، وكَأنَّهُ قالَ: أنْتَ الحاضِرُ، وأنا الحاضِرُ، وهو الحاضِرُ. والمَقْصُودُ مِن حَيْثُ المَعْنى الإخْبارُ بِالحالِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ مَجِيئُهم بِالِاسْمِ المُفْرَدِ مَنصُوبًا عَلى الحالِ، فِيما قُلْناهُ مِن قَوْلِهِمْ: ها أنْتَ ذا قائِمًا ونَحْوِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى ثُمَّ أنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هَؤُلاءِ المُشاهِدُونَ، يَعْنِي أنَّكم قَوْمٌ آخَرُونَ غَيْرُ أُولَئِكَ المُقِرِّينَ، تَنْزِيلًا لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَنزِلَةَ تَغَيُّرِ الذّاتِ، كَما تَقُولُ: رَجَعْتُ بِغَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي خَرَجْتُ بِهِ. وقَوْلُهُ: (تَقْتُلُونَ) بَيانٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ . انْتَهى كَلامُهُ. والظّاهِرُ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾، هُمُ المُخاطَبُونَ أوَّلًا، فَلَيْسُوا قَوْمًا آخَرِينَ. ألا تَرى أنَّ هَذا التَّقْدِيرَ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن تَنْزِيلِ تَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَنزِلَةَ تَغَيُّرِ الذّاتِ لا يَتَأتّى في نَحْوِ: ها أنا ذا قائِمًا ولا في ها أنْتُمْ أُولاءِ ؟ بَلِ المُخاطَبُ هو المُشارُ إلَيْهِ مِن غَيْرِ تَغَيُّرٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ الأُسْتاذُ الأجَلُّ أبُو الحَسَنِ بْنُ أحْمَدَ شَيْخُنا: هَؤُلاءِ: رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وأنْتُمْ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وتَقْتُلُونَ: حالٌ، بِها تَمَّ المَعْنى، وهي كانَتِ المَقْصُودَ، فَهي غَيْرُ مُسْتَغْنًى عَنْها، وإنَّما جاءَتْ بَعْدَ أنْ تَمَّ الكَلامُ في المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ كَما تَقُولُ: هَذا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، وأنْتَ قَدْ قَصَدْتَ الإخْبارَ بِانْطِلاقِهِ، لا الإخْبارَ بِأنَّ هَذا هو زَيْدٌ. انْتَهى ما نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ شَيْخِهِ، وهو أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الأنْصارِيُّ، مِن أهْلِ بَلَدِنا غَرْناطَةَ، يُعْرَفُ بِابْنِ الباذَشِ، وهو والِدُ الإمامِ أبِي جَعْفَرٍ أحْمَدَ، مُؤَلِّفِ كِتابِ الإقْناعِ في القِراءاتِ، ولَهُ اخْتِياراتٌ في النَّحْوِ، حَدَّثَ بِكِتابِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الوَزِيرِ أبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِشامٍ المُصْحَفِيِّ، وعَلَّقَ عَنْهُ في النَّحْوِ عَلى كِتابِ الجُمَلِ والإيضاحِ ومَسائِلَ مِن كِتابِ سِيبَوَيْهِ. تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمانٍ وعِشْرِينَ وخَمْسِمِائَةٍ. ولا أدْرِي ما العِلَّةُ في العُدُولِ عَنْ جَعْلِ أنْتُمُ المُبْتَدَأ، وهَؤُلاءِ الخَبَرَ، إلى عَكْسِ هَذا. والعامِلُ في هَذِهِ الحالِ اسْمُ الإشارَةِ بِما فِيهِ مِن مَعْنى الفِعْلِ. قالُوا: وهو حالٌ مِنهُ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ قَدِ اتَّحَدَ ذُو الحالِ والعامِلُ فِيها. وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ في كِتابِ مَنهَجِ السّالِكِ مِن تَأْلِيفِنا، فَيُطالَعُ هُناكَ، وذَهَبَ بَعْضُ المُعْرِبِينَ إلى أنَّ هَؤُلاءِ مُنادًى مَحْذُوفٌ مِنهُ حَرْفُ النِّداءِ، وهَذا لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ؛ لِأنَّ اسْمَ الإشارَةِ عِنْدَهم لا يَجُوزُ أنْ يُحْذَفَ مِنهُ حَرْفُ النِّداءِ، ونُقِلَ جَوازُهُ عَنِ الفَرّاءِ، وخَرَّجَ عَلَيْهِ الآيَةَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ، جُنُوحًا إلى مَذْهَبِ الفَرّاءِ، فَيَكُونُ عَلى هَذا القَوْلِ يَقْتُلُونَ خَبَرًا عَنْ أنْتُمْ. وفُصِلَ بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ بِالنِّداءِ. والفَصْلُ بَيْنَهُما بِالنِّداءِ جائِزٌ، وإنَّما ذَهَبَ مَن ذَهَبَ إلى هَذا في هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّهُ صَعْبٌ عِنْدَهُ أنْ يَنْعَقِدَ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ واسْمِ الإشارَةِ جُمْلَةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ. وقَدْ بَيَّنّا كَيْفِيَّةَ انْعِقادِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، وقَدْ أنْشَدُوا أبْياتًا حُذِفَ مِنها حَرْفُ النِّداءِ مَعَ اسْمِ الإشارَةِ، مِن ذَلِكَ قَوْلُ رَجُلٍ مِن طَيٍّء: ؎إنَّ الأُولى وصَفُوا قَوْمِي لَهم فَبِهِمْ ∗∗∗ هَذا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَن عاداكَ مَخْذُولا وذَهَبَ ابْنُ كَيْسانَ وغَيْرُهُ إلى أنَّ أنْتُمْ مُبْتَدَأٌ، ويَقْتُلُونَ الخَبَرُ، وهَؤُلاءِ تَخْصِيصٌ لِلْمُخاطِبِينَ، لَمّا نُبِّهُوا عَلى الحالِ الَّتِي هم عَلَيْها مُقِيمُونَ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ مَنصُوبًا بِأعْنِي. وقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّ التَّخْصِيصَ لا يَكُونُ بِالنَّكِراتِ، ولا بِأسْماءِ الإشارَةِ. والمُسْتَقْرَأُ مِن لِسانِ العَرَبِ أنَّهُ يَكُونُ أيًّا نَحْوُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا أيَّتُها العِصابَةُ، أوْ مُعَرَّفًا بِالألِفِ واللّامِ نَحْوُ: نَحْنُ العَرَبَ أقْرى النّاسِ لِلضَّيْفِ، أوْ بِالإضافَةِ نَحْوُ: «نَحْنُ مَعاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَثُ»، وقَدْ يَكُونُ عَلَمًا، كَما أنْشَدُوا: ؎بِنا تَمِيمًا يُكْشَفُ الضَّبابُ اهـ. وأكْثَرُ ما يَأْتِي بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ، كَما مَثَّلْناهُ. وقَدْ جاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُخاطَبٍ، كَقَوْلِهِمْ: بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى (p-٢٩١)أنَّ هَؤُلاءِ مَوْصُولٌ بِمَعْنى الَّذِي، وهو خَبَرٌ عَنْ أنْتُمْ، ويَكُونُ تَقْتُلُونَ صِلَةً لِهَؤُلاءِ، وهَذا لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. وأجازَ ذَلِكَ الكُوفِيُّونَ، وهي مَسْألَةٌ خِلافِيَّةٌ مَذْكُورَةٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: تَقْتُلُونَ، مِن قَتَلَ مُخَفَّفًا. وقَرَأ الحَسَنُ: تُقَتِّلُونَ مِن قَتَّلَ مُشَدَّدًا. هَكَذا في بَعْضِ التَّفاسِيرِ، وفي تَفْسِيرِ الَمَهْدَوِيِّ أنَّها قِراءَةُ أبِي نَهِيكٍ، قالَ والزُّهْرِيُّ والحَسَنُ: تُقَتِّلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ، مِن قَتَّلَ يَعْنِي مُشَدَّدًا، واللَّهُ أعْلَمُ بِصَوابِ ذَلِكَ. ﴿وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكم مِن دِيارِهِمْ﴾: هَذا نَزَلَ في بَنِي قَيْنُقاعَ، وبَنِي قُرَيْظَةَ، والنَّضِيرِ مِنَ اليَهُودِ. كانَ بَنُو قَيْنُقاعَ أعْداءَ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، والأوْسُ والخَزْرَجُ إخْوانٌ، والنَّضِيرُ وقُرَيْظَةُ أيْضًا إخْوانٌ، ثُمَّ افْتَرَقُوا. فَصارَتِ النَّضِيرُ حُلَفاءَ الخَزْرَجِ، وقُرَيْظَةُ حُلَفاءَ الأوْسِ. فَكانُوا يَقْتَتِلُونَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الحَرْبُ، فَيَفْدُونَ أسْراهم، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، قالَهُ الَمَهْدَوِيُّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكانَ كُلُّ فَرِيقٍ يُقاتِلُ مَعَ حُلَفائِهِ، وإذا غَلَبُوا خَرَّبُوا دِيارَهم وأخْرَجُوهم، وإذا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، جَمَعُوا لَهُ حَتّى يَفْدُوهُ، فَعَيَّرَتْهُمُ العَرَبُ وقالَتْ: كَيْفَ تُقاتِلُونَهم ثُمَّ تَفْدُونَهم ؟ فَيَقُولُونَ: أُمِرْنا أنْ نَفْدِيَهم، وحُرِّمَ عَلَيْنا قِتالُهم، ولَكِنّا نَسْتَحِي أنْ نُذِلَّ حُلَفاءَنا. ﴿تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ﴾: قَرَأ بِتَخْفِيفِ الظّاءِ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وأصْلُهُ: تَتَظاهَرُونَ، فَحَذَفَ التّاءَ، وهي عِنْدَنا الثّانِيَةُ لا الأُولى، خِلافًا لِهِشامٍ، إذْ زَعَمَ أنَّ المَحْذُوفَ هي الَّتِي لِلْمُضارَعَةِ، الدّالَّةِ في مِثْلِ هَذا عَلى الخِطابِ، وكَثِيرًا جاءَ في القُرْآنِ حَذْفُ التّاءِ. وقالَ: ؎تَعاطَسُونَ جَمِيعًا حَوْلَ دارِكُمُ ∗∗∗ فَكُلُّكم يا بَنِي حَمْدانَ مَزْكُومُ يُرِيدُ: تَتَعاطَسُونَ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِ الظّاءِ، أيْ بِإدْغامِ الظّاءِ في التّاءِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: تُظاهِرُونَ، بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الهاءِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ بِاخْتِلافٍ عَنْهُما: تَظَّهَّرُونَ، بِفَتْحِ التّاءِ والظّاءِ والهاءِ مُشَدَّدَيْنِ دُونَ ألِفٍ، ورُوِيَتْ عَنْ أبِي عَمْرٍو. وقَرَأ بَعْضُهم: تَتَظاهَرُونَ عَلى الأصْلِ. فَهَذِهِ خَمْسُ قِراءاتٍ، ومَعْناها كُلِّها التَّعاوُنُ والتَّناصُرُ. ورَوى أبُو العالِيَةِ قالَ: كانَ بَنُو إسْرائِيلَ إذا اسْتَضْعَفُوا قَوْمًا أخْرَجُوهم مِن دِيارِهِمْ. عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ: فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ الفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صاحِبُهُ الذَّمَّ واللَّوْمَ، الثّانِي: أنَّهُ الَّذِي تَنْفِرُ مِنهُ النَّفْسُ ولا يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ القَلْبُ. وفي حَدِيثِ النَّوّاسِ: «الإثْمُ ما حاكَ في صَدْرِكِ» . وقِيلَ: المَعْنى تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِما يُوجِبُ الإثْمَ، وهَذا مِن إطْلاقِ السَّبَبِ عَلى مُسَبَّبِهِ، ولِذَلِكَ سُمِّيَتِ الخَمْرُ إثْمًا، كَما قالَ: ؎شَرِبْتُ الإثْمَ حَتّى ضَلَّ عَقْلِي (والعُدْوانِ): هو تَجاوُزُ الحَدِّ في الظُّلْمِ. ﴿وإنْ يَأْتُوكم أُسارى﴾: قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِوَزْنِ فُعالى، وحَمْزَةَ بِوَزْنِ فَعْلى. ﴿تُفادُوهُمْ﴾: قَرَأهُ نافِعٌ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ مِن فادى، وقَرَأ الباقُونَ: مِن فَدى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحُسْنُ لَفْظِ الإتْيانِ مِن حَيْثُ هو في مُقابَلَةِ الإخْراجِ فَيَظْهَرُ التَّضادُّ المُقَبِّحُ لِفِعْلِهِمْ في الإخْراجِ، يَعْنِي: أنَّهُ لا يُناسِبُ مَن أسَأْتُمْ إلَيْهِ بِالإخْراجِ مِن دِيارِهِمْ أنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِمْ بِالفِداءِ، ومَعْنى تُفادُوهم: تَفْدُوهم، إذِ المُفاعَلَةُ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، ومِن واحِدٍ. فَفاعَلَ بِمَعْنى فَعَلَ المُجَرَّدِ، وهو أحَدُ مَعانِيها. وقِيلَ: مَعْنى فادى: بادَلَ أسِيرًا بِأسِيرٍ، ومَعْنى فَدى: دَفَعَ الفِداءَ، ويَشْهَدُ لِلْأوَّلِ قَوْلُ العَبّاسِ: فادَيْتُ نَفْسِي وفادَيْتُ عَقِيلًا. ومَعْلُومٌ أنَّهُ ما بادَلَ أسِيرًا بِأسِيرٍ. وقِيلَ: مَعْنى تَفْدُوهم بِالصُّلْحِ، وتُفادُوهم بِالعُنْفِ. وقِيلَ تُفادُوهم: تَطْلُبُوا الفِدْيَةَ مِنَ الأسِيرِ الَّذِي في أيْدِيكم مِن أعْدائِكم، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎قِفِي فادِي أسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي ∗∗∗ وقَوْمَكِ ما أرى لَهُمُ اجْتِماعا وتَفْدُوهم: تُعْطُوا فِدْيَتَهم. وقالَ أبُو عَلِيٍّ مَعْنى تُفادُوهم في اللُّغَةِ، تُطْلِقُونَهم بَعْدَ أنْ تَأْخُذُوا عَنْهُ شَيْئًا. وفادَيْتُ نَفْسِي: أيْ أطْلَقْتُها بَعْدَ أنْ دَفَعْتُ شَيْئًا. وفادى وفَدى يَتَعَدَّيانِ إلى مَفْعُولَيْنِ، الثّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وهو هُنا بِهِ مَحْذُوفٌ. ﴿وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكم إخْراجُهُمْ﴾: تَقَدَّمَتْ أرْبَعَةُ أشْياءَ: قَتْلُ النَّفْسِ، والإخْراجُ مِنَ الدِّيارِ، (p-٢٩٢)والتَّظاهُرُ، والمُفاداةُ، وهي مُحَرَّمَةٌ. واخْتُصَّ هَذا القِسْمُ بِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وإنْ كانَتْ كُلُّها مُحَرَّمَةً، لِما في الإخْراجِ مِنَ الدِّيارِ مِن مَعَرَّةِ الجَلاءِ والنَّفْيِ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ شَرُّهُ إلّا بِالمَوْتِ، وذَلِكَ بِخِلافِ القَتْلِ؛ لِأنَّ القَتْلَ، وإنْ كانَ مِن حَيْثُ هو هَدْمُ البِنْيَةِ، أعْظَمُ، لَكِنْ فِيهِ انْقِطاعُ الشَّرِّ، وبِخِلافِ المُفاداةِ بِها، فَإنَّها مِن جَرِيرَةِ الإخْراجِ مِنَ الدِّيارِ والتَّظاهُرِ؛ لِأنَّهُ لَوْلا الإخْراجُ مِنَ الدِّيارِ والتَّظاهُرُ عَلَيْهِمْ، ما وقَعُوا في قَيْدِ الأسْرِ. وقَدْ يَكُونُ أيْضًا مِمّا حُذِفَ فِيهِ مِن كُلِّ جُمْلَةٍ ذِكْرُ التَّحْرِيمِ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: تَقْتُلُونَ أنْفُسَكم، وهو مُحَرَّمٌ عَلَيْكم، وكَذا باقِيها. وارْتِفاعُ هو عَلى الِابْتِداءِ، وهو إمّا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، والجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْهُ، وإعْرابُها أنْ يَكُونَ إخْراجُهم مُبْتَدَأً ومُحَرَّمٌ خَبَرًا، وفِيهِ ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى الإخْراجِ، إذِ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. ولا يُجِيزُ الكُوفِيُّونَ تَقْدِيمَ الخَبَرِ إذا كانَ مُتَحَمِّلًا ضَمِيرًا مَرْفُوعًا. فَلا يُجِيزُونَ: قائِمٌ زَيْدٌ، عَلى أنْ يَكُونَ قائِمٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، فَلِذَلِكَ عَدَلُوا إلى أنْ يَكُونَ خَبَرَ هو قَوْلُهُ مُحَرَّمٌ، وإخْراجُهم مَرْفُوعٌ بِهِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وتَبِعَهم عَلى هَذا الَمَهْدَوِيُّ. ولا يُجِيزُ هَذا الوَجْهَ البَصْرِيُّونَ؛ لِأنَّ عِنْدَهم أنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لا يُخْبَرُ عَنْهُ إلّا بِجُمْلَةٍ مُصَرَّحٍ بِجُزْأيْها، وإذا جَعَلْتَ قَوْلَهُ مُحَرَّمٌ خَبَرًا عَنْ هو، و”إخْراجُهم“ مَرْفُوعًا بِهِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ قَدْ فُسِّرَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ بِغَيْرِ جُمْلَةٍ. وهو لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ كَما ذَكَرْنا. وأجازُوا أيْضًا أنْ يَكُونَ هو مُبْتَدَأً، لَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، بَلْ هو عائِدٌ عَلى الإخْراجِ، ومُحَرَّمٌ خَبَرٌ عَنْهُ، وإخْراجُهم بَدَلٌ. وهَذا فِيهِ خِلافٌ. مِنهم مَن أجازَ أنْ يُفَسَّرَ المُضْمَرُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ما يَعُودُ عَلَيْهِ بِالبَدَلِ، ومِنهم مَن مَنَعَ. وأجازَهُ الكِسائِيُّ، وفي بَعْضِ النُّقُولِ. وأجازَ الكُوفِيُّونَ أنْ يَكُونَ هو عِمادًا، وهو الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ البَصْرِيُّونَ بِالفَصْلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ الخَبَرِ. والتَّقْدِيرُ: وإخْراجُهم هو مُحَرَّمٌ عَلَيْكم، فَلَمّا قُدِّمَ خَبَرُ المُبْتَدَأِ عَلى المُبْتَدَأِ، قُدِّمَ مَعَهُ الفَصْلُ. قالَ الفَرّاءُ: لِأنَّ الواوَ ها هُنا تَطْلُبُ الِاسْمَ، وكُلُّ مَوْضِعٍ تَطْلُبُ فِيهِ الِاسْمَ، فالعِمادُ فِيهِ جائِزٌ. ولا يَجُوزُ هَذا التَّخْرِيجُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ؛ لِأنَّ فِيهِ أمْرَيْنِ لا يَجُوزانِ عِنْدَهم: أحَدُهُما: وُقُوعُ الفَصْلِ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ ونَكِرَةٍ لا تُقارِبُ المَعْرِفَةَ، إذِ التَّقْدِيرُ: وإخْراجُهم هو مُحَرَّمٌ، فَمُحَرَّمٌ نَكِرَةٌ لا تُقارِبُ المَعْرِفَةَ. الثّانِي: أنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ الفَصْلِ، وشَرْطُهُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ أنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ، أوْ بَيْنَ ما هُما أصْلُهُ، وهَذِهِ كُلُّها مَسائِلُ تُحَقَّقُ في عِلْمِ النَّحْوِ. ووَقَعَ في كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ في هَذا المَكانِ أقْوالٌ تُنْتَقَدُ، وهو أنَّهُ قالَ: قِيلَ في ”هو“ إنَّهُ ضَمِيرُ الأمْرِ، تَقْدِيرُهُ: والأمْرُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكم، وإخْراجُهم في هَذا القَوْلِ بَدَلٌ مِن هو. انْتَهى ما نَقَلَهُ في هَذا القَوْلِ، وهَذا خَطَأٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ الأمْرِ بِمُفْرَدٍ، ولا يُجِيزُ ذَلِكَ بَصَرِيٌّ ولا كُوفِيٌّ. أمّا البَصْرِيُّ: فَلِأنَّ مُفَسِّرَ ضَمِيرِ الأمْرِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ جُمْلَةً وأمّا الكُوفِيُّ: فَلِأنَّهُ يُجِيزُ الجُمْلَةَ ويُجِيزُ المُفْرَدَ إذا كانَ قَدِ انْتَظَمَ مِنهُ ومِمّا بَعْدَهُ مُسْنَدٌ ومُسْنَدٌ إلَيْهِ في المَعْنى، نَحْوُ قَوْلِكَ: ظَنَنْتُهُ قائِمًا الزَّيْدانِ. والثّانِي: أنَّهُ جَعَلَ إخْراجَهم بَدَلًا مِن ضَمِيرِ الأمْرِ، وضَمِيرُ الأمْرِ لا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، ولا يُبْدَلُ مِنهُ، ولا يُؤَكَّدُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِيلَ هو فاصِلَةٌ، وهَذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّ، ولَيْسَتْ هُنا بِالَّتِي هي عِمادٌ، ومُحَرَّمٌ عَلى هَذا ابْتِداءٌ، وإخْراجُهم خَبَرٌ. انْتَهى ما نَقَلَهُ في هَذا القَوْلِ. والمَنقُولُ عَنِ الكُوفِيِّينَ عَكْسُ هَذا الإعْرابِ، وهو أنْ يَكُونَ الفَصْلُ قَدْ قُدِّمَ مَعَ الخَبَرِ عَلى المُبْتَدَأِ، فَإعْرابُ ”مُحَرَّمٌ“ عِنْدَهم خَبَرٌ مُتَقَدِّمٌ، وإخْراجُهم مُبْتَدَأٌ، وهو المُناسِبُ لِلْقَواعِدِ، إذْ لا يُبْتَدَأُ بِالِاسْمِ إذا كانَ نَكِرَةً، ولا مُسَوِّغَ لَها، ويَكُونُ الخَبَرُ مَعْرِفَةً، بَلِ المُسْتَقِرُّ في لِسانِهِمْ عَكْسُ هَذا، إلّا إنْ كانَ يَرِدُ في شِعْرٍ، فَيُسْمَعُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِيلَ هو الضَّمِيرُ المُقَدَّرُ في ”مُحَرَّمٌ“ قُدِّمَ وأُظْهِرَ. انْتَهى ما نَقَلَهُ في هَذا القَوْلِ. وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا، إذْ لا مُوجِبَ لِتَقَدُّمِ الضَّمِيرِ، ولا لِبُرُوزِهِ بَعْدَ اسْتِتارِهِ، ولِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى خُلُوِّ اسْمِ المَفْعُولِ مِن ضَمِيرٍ، إذْ عَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ مُحَرَّمٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وإخْراجُهم مُبْتَدَأً، ولا يُوجَدُ اسْمُ (p-٢٩٣)فاعِلٍ ولا مَفْعُولٍ عارِيًا مِنَ الضَّمِيرِ، إلّا إذا رَفَعَ الظّاهِرَ. ولا يُمْكِنُ هُنا أنْ يَرْفَعَ الظّاهِرَ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ المُنْفَصِلَ المُقَدَّمَ ”هو“ كانَ الضَّمِيرَ المَرْفُوعَ بِـ ”مُحَرَّمٌ“، ثُمَّ يَبْقى هَذا الضَّمِيرُ لا يُدْرى ما إعْرابُهُ، إذْ لا جائِزَ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ فاعِلًا مُقَدَّمًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِيلَ هو ضَمِيرُ الإخْراجِ، تَقْدِيرُهُ: وإخْراجُهم مُحَرَّمٌ عَلَيْكم. انْتَهى ما نَقَلَهُ في هَذا القَوْلِ، ولَمْ يُبَيِّنْ وجْهَ ارْتِفاعِ ”إخْراجُهم“، ولا يَتَأتّى عَلى أنْ يَكُونَ هو ضَمِيرَهُ، ويَكُونَ إخْراجُهم تَفْسِيرًا لِذَلِكَ المُضْمَرِ، إلّا عَلى أنْ يَكُونَ إخْراجُهم بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنْ في ذَلِكَ خِلافًا، مِنهم مَن أجازَ ومِنهم مَن مَنَعَ. ﴿أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾: هَذا اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ التَّوْبِيخُ والإنْكارُ. ولَمْ يَذُمَّهم عَلى الفِداءِ، بَلْ عَلى المُناقَضَةِ، إذْ أتَوْا بِبَعْضِ الواجِبِ، وتَرَكُوا بَعْضًا. وتَكُونُ المُناقَضَةُ آكَدَ في الذَّمِّ، ولا يُقالُ الإخْراجُ مَعْصِيَةٌ. فَلِمَ سَمّاها كُفْرًا ؟ لِأنّا نَقُولُ: لَعَلَّهم صَرَّحُوا بِأنَّ تَرْكَ الإخْراجِ غَيْرُ واجِبٍ، مَعَ أنَّ صَرِيحَ التَّوْراةِ كانَ دالًّا عَلى وُجُوبِهِ. والبَعْضُ الَّذِي آمَنُوا بِهِ، إنْ كانَ المُرادُ بِالكِتابِ التَّوْراةَ، فَيَكُونُ عامًّا فِيما آمَنُوا بِهِ مِن أحْكامِها، وفِداءُ الأسِيرِ مِن جُمْلَتِهِ. والبَعْضُ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ: هو قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وإخْراجُ بَعْضِهِمْ مِن دِيارِهِمْ، والمُظاهَرَةُ بِالإثْمِ والعُدْوانِ، مِن جُمْلَةِ ما كَفَرُوا بِهِ مِنَ التَّوْراةِ. وقِيلَ: مَعْناهُ يَسْتَعْمِلُونَ البَعْضَ ويَتْرُكُونَ البَعْضَ، تُفادُونَ أسْرى قَبِيلَتِكم، وتَتْرُكُونَ أسْرى أهْلِ مِلَّتِكم ولا تُفادُونَهم. وقِيلَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ مَرَّ عَلى رَأْسِ الجالُوتِ بِالكُوفَةِ، وهو يُفادِي مِنَ النِّساءِ مَن لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الحَرْبُ، ولا يُفادى مَن وقَعَ عَلَيْهِ الحَرْبُ. قالَ: فَقالَ ابْنُ سَلامٍ: أما إنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ في كِتابِكَ أنْ تُفادِيَهُنَّ كُلَّهُنَّ. وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ إنْ وجَدْتَهُ في يَدِ غَيْرِكَ فَدَيْتَهُ، وأنْتَ تَقْتُلُهُ بِيَدِكَ. وقِيلَ: المُرادُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهم في تَمَسُّكِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُوسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ مَعَ أنَّ الحُجَّةَ في أمْرِهِما سَواءٌ، فَجَرَوْا مَجْرى سَلَفِهِمْ، أنْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ، ويَكْفُرُوا بِبَعْضٍ. قالُوا: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالكِتابِ هُنا المَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ مِن هَذِهِ الأحْكامِ الأرْبَعَةِ، أيِ المَفْرُوضُ، والَّذِي آمَنُوا بِهِ مِنها: فِداءُ الأسْرى، والَّذِي كَفَرُوا بِهِ باقِي الأرْبَعَةِ. ﴿فَما جَزاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكم إلّا خِزْيٌ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾: الجَزاءُ يُطْلَقُ في الخَيْرِ والشَّرِّ. قالَ: ﴿وجَزاهم بِما صَبَرُوا﴾ [الإنسان: ١٢]، وقالَ: ﴿فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ [النساء: ٩٣] . والخِزْيُ هُنا: الفَضِيحَةُ، والعُقُوبَةُ، والقَصاصُ فِيمَن قُتِلَ، أوْ ضَرْبُ الجِزْيَةِ غابِرَ الدَّهْرِ، أوْ قَتْلُ قُرَيْظَةَ، وإجْلاءُ النَّضِيرِ مِن مَنازِلِهِمْ إلى أرِيحا، وأذْرِعاتٍ، أوْ غَلَبَةُ العَدُوِّ، أقْوالٌ خَمْسَةٌ. ولا يَتَأتّى القَوْلُ بِالجِزْيَةِ ولا الجَلاءِ إلّا إنْ حَمَلْنا الآيَةَ عَلى الَّذِينَ كانُوا مُعاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والأوْلى أنْ يَكُونَ المُرادُ هو الذَّمَّ العَظِيمَ والتَّحْقِيرَ البالِغَ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ. و”إلّا خِزْيٌ“: اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ، وهو خَبَرُ المُبْتَدَأِ. ونَقْضُ النَّفْيِ هُنا نَقْضٌ لِعَمَلِ ما عَلى خِلافٍ في المَسْألَةِ وتَفْصِيلٍ، وذَلِكَ أنَّ الخَبَرَ إذا تَأخَّرَ وأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ إلّا، فَإمّا أنْ يَكُونَ هو الأوَّلَ، أوْ مُنَزَّلًا مَنزِلَتَهُ، أوْ وصْفًا، إنْ كانَ الأوَّلَ في المَعْنى، أوْ مُنَزَّلًا مَنزِلَتَهُ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ إلّا الرَّفْعُ عِنْدَ الجُمْهُورِ. وأجازَ الكُوفِيُّونَ النَّصْبَ فِيما كانَ الثّانِي فِيهِ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ الأوَّلِ، وإنْ كانَ وصْفًا أجازَ الفَرّاءُ فِيهِ النَّصْبَ، ومَنَعَهُ البَصْرِيُّونَ. ونُقِلَ عَنْ يُونُسَ إجازَةُ النَّصْبِ في الخَبَرِ بَعْدَ إلّا كائِنًا ما كانَ، وهَذا مُخالِفٌ لِما نَقَلَهُ أبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ، قالَ: لا خِلافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ في قَوْلِكَ: ما زَيْدٌ إلّا أخُوكَ، إنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا بِالرَّفْعِ. قالَ: فَإنْ قُلْتَ ما أنْتَ إلّا لِحْيَتُكَ، فالبَصْرِيُّونَ يَرْفَعُونَ، والمَعْنى عِنْدَهم: ما فِيكَ إلّا لِحْيَتُكَ، (p-٢٩٤)وكَذا: ما أنْتَ إلّا عَيْناكَ. وأجازَ في هَذا الكُوفِيُّونَ النَّصْبَ، ولا يَجُوزُ النَّصْبُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ في غَيْرِ المَصادِرِ، إلّا أنْ يُعْرَفَ المَعْنى، فَتُضْمِرَ ناصِبًا نَحْوَ: ما أنْتَ إلّا لِحْيَتَكَ مَرَّةً وعَيْنَكَ أُخْرى، وما أنْتَ إلّا عِمامَتَكَ تَحْسِينًا ورِداءَكَ تَزْيِينًا. ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إلى أشَدِّ العَذابِ﴾: يَوْمَ القِيامَةِ عِبارَةٌ عَنْ زَمانٍ مُمْتَدٍّ إلى أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ العِبادِ، ويَدْخُلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهْلُ النّارِ النّارَ. ومَعْنى يُرَدُّونَ: يَصِيرُونَ، فَلا يَلْزَمُ كَيْنُونَتُهم قَبْلَ ذَلِكَ في أشَدِّ العَذابِ، أوْ يُرادُ بِالرَّدِّ: الرُّجُوعُ إلى شَيْءٍ كانُوا فِيهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ﴾ [القصص: ١٣]، وكَأنَّهم كانُوا في الدُّنْيا في أشَدِّ العَذابِ أيْضًا، لِأنَّهم عُذِّبُوا في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والسَّبْيِ والجَلاءِ وأنْواعٍ مِنَ العَذابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يُرَدُّونَ بِالياءِ، وهو مُناسِبٌ لِما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ: (مَن يَفْعَلُ) . ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التِفاتًا، فَيَكُونَ راجِعًا إلى قَوْلِهِ: ﴿أفَتُؤْمِنُونَ﴾، فَيَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ هُرْمُزَ بِاخْتِلافٍ عَنْهُما: تُرَدُّونَ بِالتّاءِ، وهو مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ: ﴿أفَتُؤْمِنُونَ﴾ . ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التِفاتًا بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْلِهِ ﴿مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ﴾، فَيَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الغَيْبَةِ إلى ضَمِيرِ الخِطابِ. وأشَدُّ العَذابِ: الخُلُودُ في النّارِ، وأشَدِّيَّتُهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا انْقِضاءَ لَهُ، أوْ أنْواعُ عَذابِ جَهَنَّمَ، لِأنَّها دَرَكاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وفِيها أوْدِيَةٌ وحَيّاتٌ، أوِ العَذابُ الَّذِي لا فَرَحَ فِيهِ ولا رُوحَ مَعَ اليَأْسِ مِنَ التَّخَلُّصِ، أوِ الأشَدِّيَّةُ هي بِالنِّسْبَةِ إلى عَذابِ الدُّنْيا، أوِ الأشَدِّيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلى عَذابِ عامَّتِهِمْ، لِأنَّهُمُ الَّذِينَ أضَلُّوهم ودَلَّسُوا عَلَيْهِمْ، أقْوالًا خَمْسَةً. ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤]: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى تَفْسِيرِ هَذا الكَلامِ، إذْ وقَعَ قَبْلَ ﴿أفَتَطْمَعُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] . وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ بِالياءِ، والباقُونَ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ. فَبِالياءِ ناسَبَ يُرَدُّونَ قِراءَةَ الجُمْهُورِ، وبِالتّاءِ تُناسِبُ قِراءَةَ تُرَدُّونَ بِالتّاءِ، فَيَكُونُ المُخاطَبُ بِذَلِكَ مَن كانَ مُخاطَبًا في الآيَةِ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ قَدْ مَضَوْا، وأنْتُمُ الَّذِينَ تُعْنَوْنَ بِهَذا يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وبِما يَجْرِي مَجْراهُ، وهَذِهِ الآيَةُ مَن أوْعَظِ الآياتِ، إذِ المَعْنى أنَّ اللَّهَ بِالمِرْصادِ لِكُلِّ كافِرٍ وعاصٍ. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ، الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم أنَّهم آمَنُوا بِبَعْضِ (p-٢٩٥)الكِتابِ وكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وفي اسْمِ الإشارَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إلى الَّذِينَ جَمَعُوا الأوْصافَ السّابِقَةَ الذَّمِيمَةَ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥]، وأنَّهُ إذا عُدِّدَتْ أوْصافٌ لِمَوْصُوفٍ، أُشِيرَ إلى ذَلِكَ المَوْصُوفِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ هو جامِعُ تِلْكَ الأوْصافِ. والَّذِينَ: خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في قَوْلِهِ: (اشْتَرَوُا)، وتَقَدَّمَ أنَّ الشِّراءَ والبَيْعَ يَقْتَضِيانِ عِوَضًا ومُعَوَّضًا أعْيانًا. فَتَوَسَّعَتِ العَرَبُ في ذَلِكَ إلى المَعانِي، وجَعَلَ إيثارَهم بَهْجَةَ الدُّنْيا وزِينَتَها عَلى النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ اشْتِراءً، إيثارًا لِلْعاجِلِ الفانِي عَلى الآجِلِ الباقِي، إذِ المُشْتَرِي لَيْسَ هو المُؤْثِرَ لِتَحْصِيلِهِ، والثَّمَنُ المَبْذُولُ فِيهِ مَرْغُوبٌ عَنْهُ عِنْدَهُ، ولا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلّا مَغْبُونُ الرَّأْيِ فاسِدُ العَقْلِ. قالَ بَعْضُ أرْبابِ المَعانِي: إنَّ الدُّنْيا ما دَنا مِن شَهَواتِ القَلْبِ، والآخِرَةَ ما اتَّصَلَتْ بِرِضا الرَّبِّ. فَلا يُخَفَّفُ: مَعْطُوفٌ عَلى الصِّلَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُوصَلَ المَوْصُولُ بِصِلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ زَمانًا، تَقُولُ: جاءَنِي الَّذِي قَتَلَ زَيْدًا بِالأمْسِ، وسَيَقْتُلُ غَدًا أخاهُ، إذِ الصَّلاةُ هي جُمَلٌ، فَمَن يَشْتَرِطُ اتِّحادَ زَمانِ أفْعالِها بِخِلافِ ما يَنْزِلُ مِنَ الأفْعالِ مَنزِلَةَ المُفْرَداتِ، فَإنَّهم نَصُّوا عَلى اشْتِراطِ اتِّحادِ الزَّمانِ مُضِيًّا أوْ غَيْرَهُ، وعَلى اخْتِيارِ التَّوافُقِ في الصِّيغَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، والَّذِينَ بِصِلَتِهِ خَبَرًا. و”فَلا يُخَفَّفُ“: خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وعَلَّلَ دُخُولَ الفاءِ لِأنَّ الَّذِينَ، إذا كانَتْ صِلَتُهُ فِعْلًا، كانَ فِيها مَعْنى الشُّرُوطِ، وهَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ المَوْصُولَ هُنا أعْرَبَهُ خَبَرًا عَنْ أُولَئِكَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ فَلا يُخَفَّفُ خَبَرًا عَنِ المَوْصُولِ، إنَّما هو خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، ولا يَسْرِي لِلْمُبْتَدَأِ الشَّرْطِيَّةُ مِنَ المَوْصُولِ الواقِعِ خَبَرًا عَنْهُ. وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، والَّذِينَ مُبْتَدَأٌ ثانٍ، وفَلا يُخَفَّفُ: خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ، والَّذِينَ وخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ. قِيلَ: ولَمْ يَحْتَجْ إلى عائِدٍ؛ لِأنَّ ”الَّذِينَ“ هم ”أُولَئِكَ“، كَما تَقُولُ: هَذا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وهَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ وقَعَتْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ فَلا بُدَّ فِيها مِن رابَطٍ، إلّا إنْ كانَتْ نَفْسَ المُبْتَدَأِ في المَعْنى، فَلا يُحْتاجُ إلى ذَلِكَ الرّابِطِ. وقَدْ أخْبَرْتَ عَنْ أُولَئِكَ بِالمُبْتَدَأِ المَوْصُولِ وبِخَبَرِهِ، فَلا بُدَّ مِنَ الرّابِطِ. ولَيْسَ نَظِيرَ ما مَثَّلَ بِهِ مِن قَوْلِهِ: هَذا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ؛ لِأنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ خَبَرانِ عَنْ هَذا، وهُما مُفْرَدانِ، أوْ يَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِن هَذا، ومُنْطَلِقٌ خَبَرًا. وإمّا أنْ يَكُونَ هَذا مُبْتَدَأً، وزَيْدٌ مُبْتَدَأً ثانِيًا، ومُنْطَلِقٌ خَبَرًا عَنْ زَيْدٍ، ويَكُونَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ جُمْلَةً في مَوْضِعِ الخَبَرِ عَنْ هَذا، فَلا يَجُوزُ لِعَدَمِ الرّابِطِ. وأيْضًا فَلَوْ كانَ هُنا رابِطٌ، لَما جازَ هَذا الإعْرابُ؛ لِأنَّ الَّذِينَ مَخْصُوصٌ بِالإشارَةِ إلَيْهِ، فَلا يُشْبِهُ اسْمَ الشَّرْطِ، إذْ يَزُولُ العُمُومُ بِاخْتِصاصِهِ، ولِأنَّ صِلَةَ الَّذِينَ ماضِيَةٌ لَفْظًا ومَعْنًى. ومَعَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لا يَجُوزُ دُخُولُ الفاءِ في الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا. والتَّخْفِيفُ هو التَّسْهِيلُ، وقَدْ حُمِلَ نَفْيُ التَّخْفِيفِ عَلى الِانْقِطاعِ، وحُمِلَ أيْضًا عَلى التَّشْدِيدِ. والأوْلى حَمْلُهُ عَلى نَفْيِ التَّخْفِيفِ بِالِانْقِطاعِ، أوْ بِالتَّقْلِيلِ مِنهُ، أوْ في وقْتٍ، أوْ في كُلِّ الأوْقاتِ؛ لِأنَّهُ نَفْيٌ لِلْماهِيَّةِ، فَيَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أشْخاصِها وصُوَرِها. والظّاهِرُ مِنَ النَّفْيِ بِلا والكَثِيرُ فِيها أنَّهُ نَفْيٌ في المُسْتَقْبَلِ، وقَدْ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَفْيَ التَّخْفِيفِ بِأنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَفي الدُّنْيا بِنُقْصانِ الجِزْيَةِ، وكَذَلِكَ نَفْيُ النَّصْرِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. ومَعْنى نَفْيِ النَّصْرِ: أنَّهم لا يَجِدُونَ مَن يَدْفَعُ عَنْهم ما حَلَّ بِهِمْ مِن عَذابِ اللَّهِ. ﴿ولا هم يُنْصَرُونَ﴾: جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً وتَكُونَ المَسْألَةُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، فَيَكُونَ هم مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ؎وإنْ هو لَمْ يَحْمِلْ عَلى النَّفْسِ ضَيْمَها ويُقَوِّي هَذا الوَجْهَ ويُحَسِّنُهُ كَوْنُهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (فَلا يُخَفَّفُ)، وهو جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، إذْ لَوْلا تَقَدُّمُ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ لَكانَ الأرْجَحُ الرَّفْعَ عَلى الِابْتِداءِ، وذَلِكَ أنَّ ”لا“ لَيْسَتْ مِمّا تَطْلُبُ الفِعْلَ، لا اخْتِصاصًا ولا أوْلَوِيَّةً، فَتَكُونُ كانَ والهَمْزَةُ خِلافًا لِأبِي مُحَمَّدِ بْنِ السَّيِّدِ، إذْ زَعَمَ أنَّ الحَمْلَ عَلى الفِعْلِ فِيما دَخَلَتْ عَلَيْهِ لا أوْلى مِنَ الِابْتِداءِ، وبِناءَ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ أوْلى مِن بِنائِهِ لِلْفاعِلِ؛ لِأنَّهُ أعَمُّ، إلّا إنْ جُعِلَ الفاعِلُ عامًّا، فَيَكُونُ: ولا هم (p-٢٩٦)يَنْصُرُهم أحَدٌ، فَكانَ يُفَوِّتُ بِذَلِكَ اخْتِتامَ الفَواصِلِ بِما اخْتُتِمَتْ بِهِ قَبْلُ وبَعْدُ، ويُفَوِّتُ الإيجازَ، مَعَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ يُفِيدُ ذَلِكَ، أعْنِي العُمُومَ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ أِخْبارَ اللَّهِ تَعالى، أنَّهُ أخَذَ المِيثاقَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ بِإفْرادِ العِبادَةِ، والإحْسانِ إلى الوالِدَيْنِ، وإلى ذِي القُرْبى، واليَتامى، والمَساكِينِ، وبِالقَوْلِ الحَسَنِ لِلنّاسِ، وإقامَةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وأنَّهم نَقَضُوا المِيثاقَ بِتَوَلِّيهِمْ وإعْراضِهِمْ، وأنَّهُ أخَذَ عَلَيْهِمْ أنْ لا يَسْفِكُوا دِماءَهم، ولا يُخْرِجُونَ أنْفُسَهم مِن دِيارِهِمْ، وأنَّهم أقَرُّوا والتَزَمُوا ذَلِكَ. فَكانَ المِيثاقُ الأوَّلُ يَتَضَمَّنُ الأوامِرَ، والمِيثاقُ الثّانِي يَتَضَمَّنُ النَّواهِيَ؛ لِأنَّ التَّكالِيفَ الإلَهِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلى الأوامِرِ والنَّواهِي. وكانَ البَدْءُ بِالأوامِرِ آكَدَ، لِأنَّها تَتَضَمَّنُ أفْعالًا، والنَّواهِي تَتَضَمَّنُ تُرُوكًا، والأفْعالُ أشَقُّ مِنَ التُّرُوكِ. وكانَ مِنَ الأوامِرِ الأمْرُ بِإفْرادِ اللَّهِ بِالعِبادَةِ، وهو رَأْسُ الإيمانِ، إذْ مُتَعَلِّقُهُ أشْرَفُ المُتَعَلِّقاتِ، فَكانَ البَدْءُ بِهِ أوْلى. ثُمَّ نَعى عَلَيْهِمُ التِباسَهم بِما نُهُوا عَنْهُ، وإنْ كانَ قَدْ تَقَدَّمَ إخْبارُهُ أنَّهم خالَفُوا في الأمْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٣]؛ لِأنَّ فِعْلَ المَنهِيّاتِ أقْبَحُ مِن تَرْكِ المَأْمُوراتِ، لِأنَّها تُرُوكٌ كَما ذَكَرْنا. ثُمَّ قَرَّعَهم بِمُخالَفَةِ نَواهِي اللَّهِ، وأنَّهم مُسْتَعِينُونَ في ذَلِكَ بِغَيْرِ الحَقِّ، بَلْ بِالإثْمِ والعُدْوانِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَناقُضَ آرائِهِمْ وسُخْفَ عُقُولِهِمْ، بِفِداءِ مَن أتى إلَيْهِمْ مِنهم، مَعَ أنَّهم هُمُ السَّبَبُ في إخْراجِهِمْ وأسْرِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَحْرِيمِ إخْراجِهِمْ، وبِذِكْرِ أنَّهم آمَنُوا بِبَعْضِ الكِتابِ وكَفَرُوا بِبَعْضٍ. هَذا مَعَ أنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ، فَلا يُناسِبُ ذَلِكَ الكُفْرَ بِبَعْضٍ والإيمانَ بِبَعْضٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ الجَزاءَ لِفاعِلِ ذَلِكَ هو الخِزْيُ في الدُّنْيا، وأشَدُّ العَذابِ في الآخِرَةِ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَغْفُلُ عَمّا عَمِلُوهُ، فَيُجازِيَهم عَلى ذَلِكَ. ثُمَّ أشارَ إلى مَن تَحَلّى بِهَذِهِ الأوْصافِ الذَّمِيمَةِ، وخالَفَ أمْرَ اللَّهِ ونَهْيَهُ، هو قَدِ اشْتَرى عاجِلًا تافِهًا بِآجِلٍ جَلِيلٍ، وآثَرَ فانِيًا مُكَدَّرًا عَلى باقٍ صافٍ. وأنَّ نَتِيجَةَ هَذا الشِّراءِ أنْ لا يُخَفَّفَ عَنْهم ما حَلَّ بِهِمْ مِنَ العَذابِ، ولا يَجِدُوا ناصِرًا يَدْفَعُ عَنْهم سُوءَ العِقابِ. لَقَدْ خَسِرُوا تِجارَةً، وبُدِّلُوا بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ نارًا وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ. وإذا كانَ التَّخْفِيفُ قَدْ نُفِيَ، فالرَّفْعُ أوْلى. وهَلْ هَذا إلّا مِن بابِ التَّنْبِيهِ بِالأدْنى عَلى الأعْلى ؟ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب