الباحث القرآني

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ﴾ أيْ آثَرُوا الحَياةَ الدُّنْيا، واسْتَبْدَلُوها بِالآخِرَةِ، وأعْرَضُوا عَنْها مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِن تَحْصِيلِها، ﴿فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ﴾ المَوْعُودُونَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، أوْ مُطْلَقُ العَذابِ دُنْيَوِيًّا كانَ أوْ أُخْرَوِيًّا. ﴿ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ بِدَفْعِ الخِزْيِ إلى آخِرِ الدُّنْيا، أوْ بِدَفْعِ الجِزْيَةِ في الدُّنْيا والتَّعْذِيبِ في العُقْبى، وعَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ في الأمْرَيْنِ يُسْتَفادُ نَفْيُ دَفْعِ العَذابِ مِن نَفْيِ تَخْفِيفِهِ بِأبْلَغِ وجْهٍ وآكَدِهِ، ورَجَّحَهُ بَعْضُهم بِأنَّ المَقامَ عَلى الثّانِي يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ نَفْيِ الدَّفْعِ عَلى نَفْيِ التَّخْفِيفِ، وتَقْدِيمَ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِرِعايَةِ الفاصِلَةِ، والتَّقْوى لا لِلْحَصْرِ، إذْ لَيْسَ المَقامُ مَقامَهُ، ولِذا لَمْ يَقُلْ فَلا عَنْهم يُخَفَّفُ العَذابُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الصِّلَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُوصَلَ المَوْصُولُ بِصِلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ زَمانًا، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، والَّذِينَ خَبَرَهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، والفاءُ لِما أنَّ المَوْصُولَ إذا كانَتْ صِلَتُهُ فِعْلًا، كانَ فِيها مَعْنى الشَّرْطِ، وفِيهِ أنَّ مَعْنى الشَّرْطِيَّةِ لا يَسْرِي إلى المُبْتَدَإ الواقِعَةِ خَبَرًا عَنْهُ، وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ (أُولَئِكَ) مُبْتَدَأً، (والَّذِينَ) مُبْتَدَأٌ ثانٍ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرُ الثّانِي، والمَجْمُوعُ خَبَرُ الأوَّلِ، ولا يَحْتاجُ إلى رابِطٍ، لِأنَّ الَّذِينَ هم أُولَئِكَ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، هَذا (ومِن بابِ الإشارَةِ) في هَذِهِ الآياتِ، ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ بِمَيْلِكم إلى هَوى النَّفْسِ وطِباعِها ومُتارَكَتِكم حَياتَكُمُ الحَقِيقِيَّةَ لِأجْلِ تَحْصِيلِ لَذّاتِكُمُ الدَّنِيَّةِ ومَآرِبِكُمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، ولا تُخْرِجُونَ ذَواتَكم مِن مَقارِّكُمُ الرُّوحانِيَّةِ ورِياضَتِكُمُ القُدْسِيَّةِ، ﴿ثُمَّ أقْرَرْتُمْ﴾ بِقَبُولِكم لِذَلِكَ ﴿وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ عَلَيْهِ بِاسْتِعْداداتِكُمُ الأوَّلِيَّةِ، وعُقُولِكُمُ الفِطْرِيَّةِ، ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ السّاقِطُونَ عَنِ الفِطْرَةِ المُحْتَجِبُونَ عَنْ نُورِ الِاسْتِعْدادِ ﴿تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ وتُهْلِكُونَها بِغَوايَتِكُمْ، ومُتابَعَتِكُمُ الهَوى، ﴿وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُمْ﴾ مِن أوْطانِهِمُ القَدِيمَةِ بِإغْوائِهِمْ، وإضْلالِهِمْ، وتَحْرِيضِهِمْ عَلى ارْتِكابِ المَعاصِي، تَتَعاوَنُونَ عَلَيْهِمْ بِارْتِكابِ الفَواحِشِ (p-316)لِيَرَوْكم فَيَتَّبِعُوكم فِيها، وبِإلْزامِكم إيّاهم رَذائِلَ القُوَّتَيْنِ البَهِيمِيَّةِ والسَّبْعِيَّةِ، وتَحْرِيضِكم لَهم عَلَيْها، ﴿وإنْ يَأْتُوكم أُسارى﴾ في قَيْدِ ما ارْتَكَبُوهُ ووَثاقِ شَيْنِ ما فَعَلُوهُ قَدْ أخَذَتْهُمُ النَّدامَةُ، وعَيَّرَتْهم عُقُولُهُمْ، وعُقُولُ أبْناءِ جِنْسِهِمْ بِما لَحِقَهم مِنَ العارِ والشَّنارِ، تُفادُوهم بِكَلِماتِ الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ اللَّذّاتِ المُسْتَعْلِيَةَ هي العَقْلِيَّةُ، والرُّوحِيَّةُ، وأنَّ اتِّباعَ النَّفْسِ مَذْمُومٌ رَدِيءٌ، فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ، ويَتَخَلَّصُوا مِن هاتِيكَ القُيُودِ سُوَيْعَةً، أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ كِتابِ العَقْلِ والشَّرْعِ قَوْلًا وإقْرارًا، وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فِعْلًا وعَمَلًا، فَلا تَنْتَهُونَ عَمّا نَهاكم عَنْهُ، ﴿فَما جَزاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ﴾ إلّا ذِلَّةٌ وافْتِضاحٌ في الحَياةِ الدُّنْيا، ويَوْمَ مُفارَقَةِ الرُّوحِ البَدَنَ تُرَدُّونَ إلى أشَدِّ العَذابِ، وهو تَعْذِيبُهم بِالهَيْآتِ المُظْلِمَةِ الرّاسِخَةِ في نُفُوسِهِمْ، واحْتِراقِهِمْ بِنِيرانِها، ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ﴾ عَنْ أفْعالِكُمْ، أحْصاها وضَبَطَها في أنْفُسِكُمْ، وكَتَبَها عَلَيْكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب