الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨٠] ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١] ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها واضِحَةٌ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ حالَ آكِلِ الرِّبا، وحالَ مَن عادَ بَعْدَ مَجِيءِ المَوْعِظَةِ، وأنَّهُ كافِرٌ أثِيمٌ، ذَكَرَ ضِدَّ هَؤُلاءِ لِيُبَيِّنَ فَرْقَ ما بَيْنَ الحالَيْنِ، وظاهِرُ الآيَةِ العُمُومُ، وقالَ مَكِّيٌّ: مَعْناهُ أنَّ الَّذِينَ تابُوا مِن أكْلِ الرِّبا وآمَنُوا بِما أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وانْتَهَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، انْتَهى. ونَصَّ عَلى إقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وإنْ كانا مُنْدَرَجَيْنِ في عُمُومِ الأعْمالِ البَدَنِيَّةِ والمالِيَّةِ، وألْفاظُ الآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها. ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ في بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِن ثَقِيفٍ، كانَتْ لَهم دُيُونُ رِبًا عَلى بَنِي المُغِيرَةِ مَن بَنِي مَخْزُومٍ، وقِيلَ: في عَبّاسٍ، وقِيلَ: في عُثْمانَ، وقالَ السُّدِّيُّ: في عَبّاسٍ، وخالِدِ بْنِ الوَلِيدِ، وكانا شَرِيكَيْنِ في الجاهِلِيَّةِ يُسْلِفانِ في الرِّبا، ومُلَخَّصُهُ أنَّهم أرادُوا أنْ يَتَقاضَوْا رِباهم فَنَزَلَتْ، ولَمّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿فَلَهُ ما سَلَفَ﴾ [البقرة: ٢٧٥] وكانَ المَعْنى: فَلَهُ ما سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أيْ: لا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِيما أخَذَهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: (ما سَلَفَ) أيْ: ما تَقَدَّمَ العَقْدُ عَلَيْهِ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ المَقْبُوضِ مِنهُ وبَيْنَ ما في الذِّمَّةِ، وإنَّما يَمْنَعُ إنْشاءَ عَقْدٍ رِبَوِيٍّ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، أزالَ تَعالى هَذا الاحْتِمالَ بِأنْ أمَرَ بِتَرْكِ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا في العُقُودِ السّابِقَةِ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وأنَّ ما بَقِيَ في الذِّمَّةِ مِنَ الرِّبا هو كالمُنْشَأِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وناداهم بِاسْمِ الإيمانِ تَحْرِيضًا لَهم عَلى قَبُولِ الأمْرِ بِتَرْكِ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، وبَدَأ أوَّلًا بِالأمْرِ بِتَقْوى اللَّهِ، إذْ هي أصْلُ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ أمَرَ ثانِيًا بِتَرْكِ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا. وفُتِحَتْ عَيْنُ: وذَرُوا، حَمْلًا عَلى: دَعَوْا، وفُتِحَتْ عَيْنُ: دَعَوْا، حَمْلًا عَلى: يَدَعُ، وفُتِحَتْ في يَدَعُ، وقِياسُها الكَسْرُ، إذْ لامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ، وقَرَأ الحَسَنُ: ما بَقا، بِقَلْبِ الياءِ ألِفًا، وهي لُغَةٌ لِطَيِّءٍ، ولِبَعْضِ العَرَبِ، وقالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ: ؎زَها الشَّوْقُ حَتّى ظَلَّ إنْسانَ عَيْنِهِ يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الماءِ مُتَّأقِ ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قَرَأ (ما بَقِي) بِإسْكانِ الياءِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎لَعَمْرُكَ ما أخْشى التَّصَعْلُكَ ما بَقى ∗∗∗ عَلى الأرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأباعِرا وقالَ جَرِيرٌ: ؎هُوَ الخَلِيفَةُ فارْضُوا ما رَضِيَ لَكم ∗∗∗ ماضِي العَزِيمَةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ تَقَدَّمَ أنَّهم مُؤْمِنُونَ بِخِطابِ اللَّهِ تَعالى لَهم: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وجَمَعَ بَيْنَهُما بِأنَّهُ شَرْطٌ مَجازِيٌّ عَلى جِهَةِ المُبالَغَةِ، كَما تَقُولُ لِمَن تُرِيدُ إقامَةَ نَفْسِهِ: إنْ كُنْتَ رَجُلًا فافْعَلْ كَذا، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أوْ بِأنَّ المَعْنى: إنْ صَحَّ إيمانُكم، يَعْنِي أنَّ دَلِيلَ صِحَّةِ الإيمانِ وثَباتِهِ امْتِثالُ ما أُمِرْتُمْ بِهِ مِن ذَلِكَ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزالٍ؛ لِأنَّهُ إذا تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ الإيمانِ عَلى تَرْكِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ فَلا يُجامِعُها الصِّحَّةُ مَعَ فِعْلِها، وإذا لَمْ يَصِحَّ إيمانُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وهو مُدَّعى المُعْتَزِلَةِ، وقِيلَ: إنَّ بِمَعْنى إذْ أيْ: إذْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ، وهو قَوْلٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أنَّ (إنَّ) تَكُونُ بِمَعْنى: إذْ، وهو ضَعِيفٌ (p-٣٣٨)مَرْدُودٌ ولا يَثْبُتُ في اللُّغَةِ، وقِيلَ: هو شَرْطٌ يُرادُ بِهِ الِاسْتِدامَةُ، وقِيلَ: يُرادُ بِهِ الكَمالُ، وكَأنَّ الإيمانَ لا يَتَكامَلُ إذا أصَرَّ الإنْسانُ عَلى كَبِيرَةٍ، وإنَّما يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالإطْلاقِ إذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ، هَذا وإنْ كانَتِ الدَّلائِلُ قَدْ قامَتْ عَلى أنَّ حَقِيقَةَ الإيمانِ لا يَدْخُلُ العَمَلُ في مُسَمّاها، وقِيلَ: الإيمانُ مُتَغايِرٌ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ، فَمَعْنى الأوَّلِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٨٢] بِألْسِنَتِهِمْ، ومَعْنى الثّانِي: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بِقُلُوبِكم، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِمَن قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الأنْبِياءِ، ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ؛ إذْ لا يَنْفَعُ الأوَّلُ إلّا بِهَذا، قالَهُ ابْنُ فُورَكٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو مَرْدُودٌ بِما رُوِيَ في سَبَبِ الآيَةِ، انْتَهى. يَعْنِي أنَّها نَزَلَتْ في عَبّاسٍ، وعُثْمانَ، أوْ في عَبّاسٍ، وخالِدٍ، أوْ فِيمَن أسْلَمَ مِن ثَقِيفٍ ولَمْ يَكُونُوا هَؤُلاءِ قَبْلَ الإيمانِ آمَنُوا بِأنْبِياءَ، وقِيلَ: هو شَرْطٌ مَحْضٌ في ثَقِيفٍ عَلى بابِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ في أوَّلِ دُخُولِهِمْ في الإسْلامِ، انْتَهى. وعَلى هَذا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ إلّا عَلى تَأْوِيلِ اسْتِدامَةِ الإيمانِ، وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أنَّ أبا السَّماكِ، وهو العَدَوِيُّ، قَرَأ هُنا (مِنَ الرِّبُو) بِكَسْرِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ وضَمِّ الباءِ وسُكُونِ الواوِ، وقَدْ ذَكَرْنا قِراءَتَهُ كَذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٥] وشَيْئًا مِنَ الكَلامِ عَلَيْها. وقالَ أبُو الفَتْحِ: شُذَّ هَذا الحَرْفُ في أمْرَيْنِ، أحَدُهُما: الخُرُوجُ مِنَ الكَسْرِ إلى الضَّمِّ بِناءً لازِمًا، والآخَرُ: وُقُوعُ الواوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ في آخِرِ الِاسْمِ، وهَذا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إلّا في الفِعْلِ، نَحْوَ: يَغْزُو، ويَدْعُو. وأمّا ذُو الطّائِيَّةُ، بِمَعْنى: الَّذِي فَشاذَّةٌ جَدًّا، ومِنهم مَن يُغَيِّرُ واوَها إذا فارَقَ الرَّفْعَ، فَتَقُولُ: رَأيْتُ ذا قامَ، وجْهُ القِراءَةِ أنَّهُ فَخَّمَ الألِفَ انْتَحى بِها الواوُ الَّتِي الألِفُ بَدَلٌ مِنها عَلى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الصَّلاةُ والزَّكاةُ وهي بِالجُمْلَةِ قِراءَةٌ شاذَّةٌ، انْتَهى كَلامُ أبِي الفَتْحِ. ويَعْنِي بِقَوْلِهِ: بِناءً لازِمًا، أنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عارِضًا نَحْوَ: الحِبْكُ، فَكَسْرَةُ الحاءِ لَيْسَتْ لازِمَةً، ومِن قَوْلِهِمُ: الرِّدْءُ، في الوَقْفِ، فَضَمَّةُ الدّالِ لَيْسَتْ لازِمَةً، ولِذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ في أبْنِيَةِ كَلامِهِمْ فِعْلٌ لا في اسْمٍ ولا فِعْلٍ، وأمّا قَوْلُهُ: وهَذا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إلّا في الفِعْلِ، نَحْوُ: يَغْزُو، فَهَذا كَما ذَكَرَ إلّا أنَّهُ جاءَ ذَلِكَ في الأسْماءِ السِّتَّةِ في حالَةِ الرَّفْعِ، فَلَهُ أنْ يَقُولَ: لَمّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لازِمًا في النَّصْبِ والجَرِّ، لَمْ يَكُنْ ناقِضًا لِما ذَكَرُوا، ونَقُولُ: إنَّ الضَّمَّةَ الَّتِي فِيما قَبْلَ الآخِرِ إمّا هي لِلِاتِّباعِ، فَلَيْسَ ضَمَّةٌ تَكُونُ في أصْلِ بِنْيَةِ الكَلِمَةِ كَضَمَّةِ يَغْزُو. ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ ظاهِرُهُ: فَإنْ لَمْ تَتْرُكُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، وسُمِّيَ التَّرْكُ فِعْلًا، وإذا أُمِرُوا بِتَرْكِ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا مِن ذَلِكَ الأمْرِ بِتَرْكِ إنْشاءِ الرِّبا عَلى طَرِيقِ الأوْلى والأحْرى، وقالَ الرّازِيُّ: فَإنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومَن ذَهَبَ إلى هَذا قالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ واحِدَةٍ مِن شَرائِعِ الإسْلامِ خَرَجَ مِنَ المِلَّةِ كَما لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِها. وقَرَأ حَمْزَةُ، وأبُو بَكْرٍ في غَيْرِ رِوايَةٍ البُرْجُمِيِّ، وابْنِ غالِبٍ عَنْهُ (فَآذَنُوا) أمْرٌ مِن: آذَنَ الرُّباعِيِّ بِمَعْنى: أعْلَمُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿فَقُلْ آذَنْتُكم عَلى سَواءٍ﴾ [الأنبياء: ١٠٩]، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (فَأْذَنُوا) أمْرٌ مِن: أذِنَ، الثُّلاثِيِّ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [النبإ: ٣٨]، وقَرَأ الحَسَنُ (فَأيْقِنُوا بِحَرْبٍ) والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ هو لِمَن صَدَرَتِ الآيَةُ بِذِكْرِهِ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ، وقِيلَ: الخِطابُ لِلْكُفّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبا، فَعَلى هَذا المُحارَبَةُ ظاهِرَةٌ، وعَلى الأوَّلِ فالإعْلامُ أوِ العِلْمُ بِالحَرْبِ جاءَ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ في التَّهْدِيدِ دُونَ حَقِيقَةِ الحَرْبِ، كَما جاءَ: ”مَن أهانَ لِي ولِيًّا فَقَدَ آذَنَنِي بِالمُحارَبَةِ“ . وقِيلَ: المُرادُ نَفْسُ الحَرْبِ. ونَقُولُ: الإصْرارُ عَلى الرِّبا إنْ كانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الإمامُ، قَبَضَ عَلَيْهِ الإمامُ وعَزَّرَهُ وحَبَسَهُ إلى أنْ يَظْهَرَ مِنهُ التَّوْبَةُ، أوْ مِمَّنْ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حارَبَهُ كَما تُحارَبُ الفِئَةُ الباغِيَةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَن عامَلَ بِالرِّبا يُسْتَتابُ، فَإنْ تابَ وإلّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. ويُحْمَلُ قَوْلُهُ هَذا عَلى مَن يَكُونُ مُسْتَبِيحًا لِلرِّبا، مُصِرًّا عَلى ذَلِكَ، ومَعْنى الآيَةِ: فَإنْ لَمْ تَنْتَهُوا حارَبَكُمُ النَّبِيُّ ﷺ وقِيلَ: المَعْنى: فَأنْتُمْ حَرْبُ اللَّهِ ورَسُولِهِ، (p-٣٣٩)أيْ: أعْداءٌ، والحَرْبُ داعِيَةُ القَتْلِ، وقالُوا: حَرْبُ اللَّهِ النّارُ، وحَرْبُ رَسُولِهِ السَّيْفُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ: ”يُقالُ يَوْمَ القِيامَةِ لِآكِلِ الرِّبا: خُذْ سِلاحَكَ لِلْحَرْبِ“ والباءُ في بِحَرْبٍ عَلى قِراءَةِ القَصْرِ لِلْإلْصاقِ، تَقُولُ: أذِنَ بِكَذا، أيْ: عَلِمَ، وكَذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: المَعْنى فاسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو مِنَ الأُذُنِ، وهو الِاسْتِماعُ؛ لِأنَّهُ مِن طَرِيقِ العِلْمِ، انْتَهى. وقِراءَةُ الحَسَنِ تُقَوِّي قِراءَةَ الجُمْهُورِ بِالقَصْرِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي عِنْدِي مِنَ الإذْنِ، وإذا أذِنَ المَرْءُ في شَيْءٍ فَقَدْ قَرَّرَهُ وبَنى مَعَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهم: قَرِّرُوا الحَرْبَ بَيْنَكم وبَيْنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ. ويَلْزَمُهم مِن لَفْظِ الآيَةِ أنَّهم مُسْتَدْعَو الحَرْبَ والباغُونَ، إذْ هُمُ الآذِنُونَ فِيها وبِها، ويَنْدَرِجُ في هَذا عِلْمُهم بِأنَّهُ حَرْبُ اللَّهِ، وتَيَقُّنُهم لِذَلِكَ، انْتَهى كَلامُهُ. فَيَظْهَرُ مِنهُ أنَّ الباءَ في: (بِحَرْبٍ) ظَرْفِيَّةٌ، أيْ: فَأْذَنُوا في حَرْبٍ، كَما تَقُولُ: أُذِنَ في كَذا، ومَعْناهُ أنَّهُ سَوَّغَهُ ومَكَّنَ مِنهُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ومَن قَرَأ (فَآذَنُوا) بِالمَدِّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَأعْلِمُوا مَن لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِحَرْبٍ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وقَدْ ثَبَتَ هَذا المَفْعُولُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقُلْ آذَنْتُكم عَلى سَواءٍ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] وإذا أُمِرُوا بِإعْلامِ غَيْرِهِمْ عَلِمُوا هم لا مَحالَةَ، قالَ: فَفي إعْلامِهِمْ عَلِمَهم، ولَيْسَ في عِلْمِهِمْ إعْلامُهم غَيْرَهم، فَقِراءَةُ المَدِّ أرْجَحُ؛ لِأنَّها أبْلُغُ وآكُدُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: قِراءَةُ القَصْرِ أرْجَحُ؛ لِأنَّها تَخْتَصُّ بِهِمْ، وإنَّما أُمِرُوا عَلى قِراءَةِ المَدِّ بِإعْلامِ غَيْرِهِمْ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والقِراءَتانِ عِنْدِي سَواءٌ؛ لِأنَّ المُخاطَبَ مَحْصُورٌ، لِأنَّهُ كُلُّ مَن لَمْ يَذَرْ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، فَإنْ قِيلَ: فَأْذَنُوا، فَقَدْ عَمَّهُمُ الأمْرُ، وإنْ قِيلَ: فَآذِنُوا، بِالمَدِّ فالمَعْنى: أنْفُسَكم، أوْ بَعْضَكم بَعْضًا، وكَأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ تَقْتَضِي فَسَحًا لَهم في الِارْتِياءِ والتَّثَبُّتِ، فَأعْلِمُوا نُفُوسَكم هَذا، ثُمَّ انْظُرُوا في الأرْجَحِ لَكم: تَرْكِ الرِّبا أوِ الحَرْبِ، انْتَهى، ورُوِيَ: أنَّها لَمّا نَزَلَتْ قالَتْ ثَقِيفٌ: لا يَدَ لَنا بِحَرْبِ اللَّهِ ورَسُولِهِ. ومِن، في قَوْلِهِ: (مِنَ اللَّهِ) لِابْتِداءِ الغايَةِ، وفِيهِ تَهْوِيلٌ عَظِيمٌ، إذِ الحَرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعالى ومِن نَبِيِّهِ ﷺ لا يُطِيقُهُ أحَدٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: مِن حُرُوبِ اللَّهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ: بِحَرْبِ اللَّهِ ورَسُولِهِ ؟ قُلْتُ: كانَ هَذا أبْلَغَ؛ لِأنَّ المَعْنى: فَأْذَنُوا بِنَوْعٍ مِنَ الحَرْبِ عَظِيمٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، انْتَهى. وإنَّما كانَ أبْلَغَ؛ لِأنَّ فِيها نَصًّا بِأنَّ الحَرْبَ مِنَ اللَّهِ لَهم، فاللَّهُ تَعالى هو الَّذِي يُحارِبُهم، ولَوْ قِيلَ: بِحَرْبِ اللَّهِ، لاحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ الحَرْبُ مُضافَةً لِلْفاعِلِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هو المُحارِبَ لَهم، وأنْ تَكُونَ مُضافَةً لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُوا هُمُ المُحارِبِينَ اللَّهَ، فَكَوْنُ اللَّهِ مُحارِبَهم أبْلَغُ وأزْجَرُ في المَوْعِظَةِ مِن كَوْنِهِمْ مُحارِبِينَ اللَّهَ. ﴿وإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُءُوسُ أمْوالِكُمْ﴾ أيْ: إنْ تُبْتُمْ مِنَ الرِّبا، ورُءُوسُ الأمْوالِ: أُصُولُها، وأمّا الأرْباحُ فَزَوائِدُ وطَوارِئُ عَلَيْها. قالَ بَعْضُهم: إنْ لَمْ يَتُوبُوا كَفَرُوا بِرَدِّ حُكْمِ اللَّهِ واسْتِحْلالِ ما حَرَّمَ اللَّهُ، فَيَصِيرُ مالُهم فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وفي الِاقْتِصارِ عَلى رُءُوسِ الأمْوالِ مَعَ ما قَبْلَهُ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لَهم إلّا ذَلِكَ، ومَفْهُومُ الشَّرْطِ أنَّهُ: إنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَيْسَ لَهم رُءُوسُ أمْوالِهِمْ، وتَسْمِيَةُ أصْلِ المالِ رَأْسًا مَجازٌ. ﴿لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ الأوَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والثّانِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أيْ: لا تَظْلِمُونَ الغَرِيمَ بِطَلَبِ زِيادَةٍ عَلى رَأْسِ المالِ، ولا تُظْلَمُونَ أنْتُمْ بِنُقْصانِ رَأْسِ المالِ، وقِيلَ: بِالمَطْلِ، وقَرَأ أبانُ، والمُفَضَّلُ، عَنْ عاصِمٍ الأوَّلِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والثّانِي مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ورَجَّحَ أبُو عَلِيٍّ قِراءَةَ الجَماعَةِ بِأنَّها تُناسِبُ قَوْلَهُ: وإنْ تُبْتُمْ، في إسْنادِ الفِعْلَيْنِ إلى الفاعِلِ، فَتَظْلِمُونَ بِفَتْحِ التّاءِ أُشَكِلَ بِما قَبْلَهُ، والجُمْلَةُ يَظْهَرُ أنَّها مُسْتَأْنَفَةٌ، وإخْبارٌ مِنهُ تَعالى أنَّهم إذا اقْتَصَرُوا عَلى رُءُوسِ الأمْوالِ كانَ ذَلِكَ نَصَفَةً، وقِيلَ: الجُمْلَةُ حالٌ مِنَ المَجْرُورِ في: لَكم، والعامِلُ في الحالِ ما في حَرْفِ الجَرِّ مِن شَوْبِ الفِعْلِ، قالَهُ الأخْفَشُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب