الباحث القرآني

(p-١٢٤)﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ﴾ . ”هَلْ“ هُنا لِلنَّفْيِ، المَعْنى: ما يَنْظُرُونَ، ولِذَلِكَ دَخَلَتْ إلّا، وكَوْنُها بِمَعْنى النَّفْيِ - إذا جاءَ بَعْدَها ”إلّا -“ كَثِيرُ الِاسْتِعْمالِ في القُرْآنِ، وفي كَلامِ العَرَبِ، قالَ تَعالى: ﴿وهَلْ نُجازِي إلّا الكَفُورَ﴾ [سبإ: ١٧]، ﴿هَلْ يُهْلَكُ إلّا القَوْمُ الظّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٤٧]، وقالَ الشّاعِرُ: ؎وهَلْ أنا إلّا مِن غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ غَوَيْتُ، وإنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أرْشُدِ و”يَنْظُرُونَ“ هُنا مَعْناهُ: يَنْتَظِرُونَ، تَقُولُ العَرَبُ: نَظَرْتُ فُلانًا أنْتَظِرُهُ، وهو لا يَتَعَدّى لِواحِدٍ بِنَفْسِهِ إلّا بِحَرْفِ جَرٍّ. قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎فَإنَّكُما إنْ تُنْظِرانِيَ ساعَةً ∗∗∗ مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدى أُمِّ جُنْدَبِ ومَفْعُولُ ”يَنْظُرُونَ“ هو ما بَعْدَ إلّا، أيْ: ما يَنْتَظِرُونَ إلّا إتْيانَ اللَّهِ، وهو اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ. قِيلَ: ويَنْظُرُونَ هُنا لَيْسَتْ مِنَ النَّظَرِ الَّذِي هو تَرَدُّدُ العَيْنِ في المَنظُورِ إلَيْهِ: لِأنَّهُ لَوْ كانَ مِنَ النَّظَرِ لَعُدِّيَ بِإلى، وكانَ مُضافًا إلى الوَجْهِ، وإنَّما هو مِنَ الِانْتِظارِ، انْتَهى. وهَذا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ: لِأنَّهُ يُقالُ هو مِنَ النَّظَرِ، وهو تَرَدُّدُ العَيْنِ. وهو مُعَدًّى بِإلى، لَكِنَّها مَحْذُوفَةٌ، والتَّقْدِيرُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا إلى أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ؟ وحَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ مَعَ ”أنْ“ إذا لَمْ يُلْبِسْ قِياسٌ مُطَّرِدٌ، ولا لَبْسَ هُنا، فَحُذِفَتْ إلى، وقَوْلُهُ: وكانَ مُضافًا إلى الوَجْهِ يُشِيرُ إلى قَوْلِهِ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣]، فَكَذَلِكَ لَيْسَ بِلازِمٍ، قَدْ نُسِبَ النَّظَرُ إلى الذَّواتِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ: ﴿أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ﴾ [الغاشية: ١٧]، ﴿أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، والضَّمِيرُ في ”يَنْظُرُونَ“ عائِدٌ عَلى الذّالِّينَ، وهو التِفاتٌ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ. والإتْيانُ: حَقِيقَةٌ في الِانْتِقالِ مِن حَيِّزٍ إلى حَيِّزٍ، وذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، فَرَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ هَذا مِنَ المَكْتُومِ الَّذِي لا يُفَسَّرُ، ولَمْ يَزَلِ السَّلَفُ في هَذا وأمْثالِهِ يُؤْمِنُونَ، ويَكِلُونَ فَهْمَ مَعْناهُ إلى عِلْمِ المُتَكَلِّمِ بِهِ، وهو اللَّهُ تَعالى. والمُتَأخِّرُونَ تَأوَّلُوا الإتْيانَ وإسْنادَهُ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ إتْيانٌ عَلى ما يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ انْتِقالٍ. الثّانِي: أنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنِ المُجازاةِ لَهم، والِانْتِقامِ، كَما قالَ: ﴿فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهم مِنَ القَواعِدِ﴾ [النحل: ٢٦]، ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر: ٢] . الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ الإتْيانِ مَحْذُوفًا، أيْ: أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِما وعَدَهم مِنَ الثَّوابِ، والعِقابِ، قالَهُ الزَّجّاجُ. الرّابِعُ: أنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: أمْرُ اللَّهِ بِمَعْنى ما يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ، لا الأمْرُ الَّذِي مُقابِلُهُ النَّهْيُ، ويُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ . الخامِسُ: قُدْرَتُهُ، ذَكَرَهُ القاضِي أبُو يَعْلى عَنْ أحْمَدَ. السّادِسُ: أنَّ ”في ظُلَلٍ“ بِمَعْنى بِظُلَلٍ، فَيَكُونُ ”في“ بِمَعْنى الباءِ، كَما قالَ: ؎خَبِيرُونَ في طَعْنِ الأباهِرِ والكُلى أيْ: بِطَعْنِ: لِأنَّ خَبِيرًا لا يَتَعَدّى إلّا بِالباءِ، كَما قالَ: ؎خَبِيرٌ بِأدْواءِ النِّساءِ طَبِيبُ قالَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ. والأوْلى أنْ يَكُونَ المَعْنى: أمْرُ اللَّهِ، إذْ قَدْ صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ يَأْتِيَ أمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل: ٣٣]، وتَكُونُ عِبارَةً عَنْ بَأْسِهِ وعَذابِهِ: لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما جاءَتْ مَجِيءَ التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ، وقِيلَ: المَحْذُوفُ آياتُ اللَّهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ آياتِهِ مَجِيئًا لَهُ عَلى التَّفْخِيمِ لِشَأْنِها، قالَهُ في (المُنْتَخَبِ) . ونُقِلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أنَّهُ قالَ: يَأْتِيَهم بِمُحاسَبَتِهِمْ عَلى الغَمامِ عَلى عَرْشِهِ تَحْمِلُهُ ثَمانِيَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: الخِطابُ مَعَ اليَهُودِ، وهم مُشَبِّهَةٌ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَعَ اليَهُودِ قَوْلُهُ بَعْدُ: ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ﴾، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالمَعْنى: أنَّهم لا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فالآيَةُ عَلى ظاهِرِها، إذِ المَعْنى: أنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ إتْيانَ اللَّهِ، ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم مُحِقُّونَ ولا مُبْطِلُونَ. ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ﴾ [البقرة: ٥٧]، ويَسْتَحِيلُ عَلى الذّاتِ المُقَدَّسَةِ أنْ تَحُلَّ في ظُلَّةٍ، وقِيلَ: المَقْصُودُ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ يَوْمِ القِيامَةِ وحُصُولِها وشِدَّتِها: لِأنَّهُ لا شَيْءَ أشَدُّ عَلى المُذْنِبِينَ، وأهْوَلُ مِن وقْتِ جَمْعِهِمْ وحُضُورِ أمْهَرِ الحُكّامِ وأكْثَرِهِمْ هَيْبَةً لِفَصْلِ الخُصُومَةِ، فَيَكُونُ هَذا مِن بابِ التَّمْثِيلِ، وإذا فُسِّرَ بِأنَّ عَذابَ اللَّهِ يَأْتِيَهم في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ، فَكانَ ذَلِكَ: لِأنَّهُ أعْظَمُ، أوْ يَأْتِيَهُمُ الشَّرُّ مِن جِهَةِ الخَيْرِ، لِقَوْلِهِ: (p-١٢٥)﴿هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤]: ولِأنَّهُ إذا كانَ ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ، فَهو عَلامَةٌ لِأشَدِّ الأهْوالِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالغَمامِ﴾ [الفرقان: ٢٥]: ولِأنَّ الغَمامَ يُنْزِلُ قَطَراتٍ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ، فَكَذَلِكَ العَذابُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وقِيلَ: إنَّ العَذابَ لا يَأْتِي في الظُّلَلِ، بَلِ المَعْنى تَشْبِيهُ الأهْوالِ بِالظُّلَلِ مِنَ الغَمامِ، كَما قالَ: ﴿وإذا غَشِيَهم مَوْجٌ كالظُّلَلِ﴾ [لقمان: ٣٢]، فالمَعْنى أنَّ عَذابَ اللَّهِ يَأْتِيهِمْ في أهْوالٍ عَظِيمَةٍ، كَظُلَلِ الغَمامِ. واخْتَلَفُوا في هَذا التَّوَعُّدِ، فَقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هو تَوَعُّدٌ بِما يَقَعُ في الدُّنْيا، وقالَ قَوْمٌ: بَلْ تَوَعُّدٌ بِيَوْمِ القِيامَةِ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ: ”في ظِلالٍ“، وكَذَلِكَ رَوى هارُونُ بْنُ حاتِمٍ، عَنْ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عاصِمٍ هُنا وفي الحَرْفَيْنِ في الزُّمَرِ، وهي جُمَعُ ظُلَّةٍ، نَحْوَ قُلَّةٍ وقِلالٍ، وهو جَمْعٌ لا يَنْقاسُ، بِخِلافِ ظُلَلٍ، فَإنَّهُ جَمْعٌ مُنْقاسٌ، أوْ جَمْعُ ظُلٍّ نَحْوَ ضُلٍّ وضُلّالٍ. و”في ظُلَلٍ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”يَأْتِيَهم“، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ حالًا فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، و”مِنَ الغَمامِ“ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِظُلَلٍ، وجَوَّزُوا أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ ”يَأْتِيَهم“، أيْ مِن ناحِيَةِ الغَمامِ، فَتَكُونُ ”مِن“ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو حَيْوَةَ، وأبُو جَعْفَرٍ: والمَلائِكَةِ، بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى ”في ظُلَلٍ“ أوْ عَطْفًا عَلى الغَمامِ، فَيَخْتَلِفُ تَقْدِيرُ حَرْفِ الجَرِّ، إذْ عَلى الأوَّلِ التَّقْدِيرُ: وفي المَلائِكَةِ، وعَلى الثّانِي التَّقْدِيرُ: ومِنَ المَلائِكَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى ”اللَّهُ“، وقِيلَ: في هَذا الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، فالإتْيانُ في الظُّلَلِ مُضافٌ إلى المَلائِكَةِ، والتَّقْدِيرُ: إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ والمَلائِكَةُ في ظُلَلٍ، فالمُضافُ إلى اللَّهِ تَعالى هو الإيتانُ فَقَطْ، ويُؤَيِّدُ هَذا قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: ”إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ والمَلائِكَةُ في ظُلَلٍ“ . ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾، مَعْناهُ: وقَعَ الجَزاءُ وعُذِّبَ أهْلُ العِصْيانِ، وقِيلَ: أُتِمَّ أمَرُ هَلاكِهِمْ وفُرِغَ مِنهُ، وقِيلَ: فُرِغَ مِن وقْتِ الِانْتِظارِ، وجاءَ وقْتُ المُؤاخَذَةِ، وقِيلَ: فُرِغَ لَهم مِمّا يُوعَدُونَ بِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وقِيلَ: فُرِغَ مِنَ الحِسابِ ووَجَبَ العَذابُ. وهَذِهِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾، مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ”يَأْتِيَهم“، فَهو مِن وضْعِ الماضِي مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ، وعَبَّرَ بِالماضِي عَنِ المُسْتَقْبَلِ: لِأنَّهُ كالمَفْرُوغِ مِنهُ الَّذِي وقَعَ، والتَّقْدِيرُ: ويُقْضى الأمْرُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، أيْ: فُرِغَ مِن أمْرِهِمْ بِما سَبَقَ في القَدَرِ، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ لا أنَّهُ في حَيِّزٍ ما يُنْتَظَرُ. وقَرَأ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ: ”وقَضاءُ الأمْرِ“، قالَ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى المَصْدَرِ المَرْفُوعِ عَطْفًا عَلى المَلائِكَةِ، وقالَ غَيْرُهُ بِالمَدِّ والخَفْضِ عَطْفًا عَلى المَلائِكَةِ، وقِيلَ: ويَكُونُ ”في“ عَلى هَذا بِمَعْنى الباءِ، أيْ: بِظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ، وبِالمَلائِكَةِ، وبِقَضاءِ الأمْرِ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ مَعْمَرٍ: وقُضِيَ الأُمُورُ، بِالجَمْعِ، وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ وحُذِفَ الفاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ: ولِأنَّهُ لَوْ أُبْرِزَ وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْفاعِلِ لَتَكَرَّرَ الِاسْمُ ثَلاثَ مَرّاتٍ. * * * ﴿وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾، قَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ”تَرْجِعُ“، بِفَتْحِ التّاءِ وكَسْرِ الجِيمِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، ويَعْقُوبُ: بِالتّاءِ مَفْتُوحَةً وكَسْرِ الجِيمِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، عَلى أنَّ ”رَجَعَ“، لازِمٌ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِالياءِ وفَتْحِ الجِيمِ مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، وخارِجَةُ عَنْ نافِعٍ: ”يُرْجَعُ“، بِالياءِ وفَتْحِ الجِيمِ عَلى أنْ رَجَعَ مُتَعَدٍّ. وكِلا الِاسْتِعْمالَيْنِ لَهُ في لِسانِ العَرَبِ، ولُغَةٌ قَلِيلَةٌ في المُتَعَدِّي. أرْجَعَ رُباعِيًّا، فَمَن قَرَأ بِالتّاءِ فَلِتَأْنِيثِ الجَمْعِ، ومَن قَرَأ بِالياءِ فَلِكَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وصُرِّحَ بِاسْمِ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ أفْخَمُ وأعْظَمُ وأوْضَحُ، وإنْ كانَ قَدْ جَرى ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾: ولِأنَّهُ في جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَيْسَتْ داخِلَةً في المُنْتَظَرِ، وإنَّما هي إعْلامٌ بِأنَّ اللَّهَ إلَيْهِ تَصِيرُ الأُمُورُ كُلُّها، لا إلى غَيْرِهِ، إذْ هو المُنْفَرِدُ بِالمُجازاةِ، ولِرَفْعِ إيهامِ ما كانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ الدُّنْيا مِن دَفْعِ أُمُورِ النّاسِ إلَيْهِمْ، فَأعْلَمَ أنَّ هَذا لا يَكُونُ لَهم في الآخِرَةِ مِنها شَيْءٌ، بَلْ ذَلِكَ إلى اللَّهِ وحْدَهُ، أوْ لِإعْلامِ أنَّها رَجَعَتْ إلَيْهِ في الآخِرَةِ بَعْدَ أنْ كانَ مَلَّكَهم بَعْضَها في الدُّنْيا، فَصارَتْ إلَيْهِ كُلُّها في الآخِرَةِ. وإذا كانَ الفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فالفاعِلُ المَحْذُوفُ، إمّا اللَّهُ تَعالى، يُرْجِعُها إلى نَفْسِهِ بِإفْناءِ الدُّنْيا وإقامَةِ القِيامَةِ، أوْ ذَوُو الأُمُورِ، لَمّا كانَتْ ذَواتُهم وصَفاتُهم شاهِدَةً عَلَيْهِمْ بِأنَّهم مَخْلُوقُونَ مُحاسَبُونَ مَجْزِيُّونَ، كانُوا رادِّينَ (p-١٢٦)أُمُورَهم إلى خالِقِها، قِيلَ: أوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ العَرَبِ في قَوْلِهِمْ فُلانٌ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ، ويَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: إلى أيْنَ يُذْهَبُ بِكَ ؟ وإنْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ، انْتَهى. ومُلَخَّصُهُ أنَّهُ يُبْنى الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ ولا يَكُونُ ثَمَّ فاعِلٌ، وهَذا خَطَأٌ، إذْ لا بُدَّ لِلْفِعْلِ مِن تَصَوُّرِ فاعِلٍ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ لِلذَّهابِ أحَدًا، ولا الفاعِلُ لِلْإعْجابِ، بَلِ الفاعِلُ غَيْرُهُ، فالَّذِي أعْجَبَهُ بِنَفْسِهِ هو رَأْيُهُ، واعْتِقادُهُ بِجَمالِ نَفْسِهِ، فالمَعْنى أنَّهُ أعْجَبَهُ رَأْيُهُ، وذَهَبَ بِهِ رَأْيُهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أعْجَبَهُ رَأْيُهُ بِنَفْسِهِ، وإلى أيْنَ يَذْهَبُ بِكَ رَأْيُكَ أوْ عَقْلُكَ ؟ ثُمَّ حُذِفَ الفاعِلُ، وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ. قِيلَ: وفي قَوْلِهِ: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ قِسْمانِ مِن أقْسامِ عِلْمِ البَيانِ. أحَدُهُما: الإيجازُ في قَوْلِهِ: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾، فَإنَّ في هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ يَنْدَرِجُ في ضِمْنِها جَمِيعُ أحْوالِ العِبادِ مُنْذُ خُلِقُوا إلى يَوْمِ التَّنادِ، ومِن هَذا اليَوْمِ إلى الفَصْلِ بَيْنَ العِبادِ. والثّانِي: الِاخْتِصاصُ بِقَوْلِهِ: (وإلى اللَّهِ)، فاخْتُصَّ بِذَلِكَ اليَوْمِ لِانْفِرادِهِ فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ والحُكْمِ والمُلْكِ، انْتَهى. وقالَ السُّلَمِيُّ: وقُضِيَ الأمْرُ: وصَلُوا إلى ما قُضِيَ لَهم في الأزَلِ مِن إحْدى المَنزِلَتَيْنِ. وقالَ جَعْفَرٌ: كُشِفَ عَنْ حَقِيقَةِ الأمْرِ ونَهْيِهِ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: انْهَتَكَ سِتْرُ الغَيْبِ عَنْ صَرِيحِ التَّقْدِيرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب