الباحث القرآني

ولَمّا كانَ بَنُو إسْرائِيلَ أعْلَمَ النّاسِ بِظُهُورِ مَجْدِ اللَّهِ في الغَمامِ لِما رَأى أسْلافُهم مِنهُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِن مِصْرَ وفي جَبَلِ الطُّورِ وقُبَّةِ الزَّمانِ وما في ذَلِكَ عَلى ما نُقِلَ إلَيْهِمْ مِن وُفُورِ الهَيْبَةِ وتَعاظُمِ (p-١٨٧)الجَلالِ قالَ تَعالى جَوابًا لِمَن كَأنَّهُ قالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذا؟ ﴿سَلْ﴾ بِنَقْلِ حَرَكَةِ العَيْنِ إلى الفاءِ فاسْتَغْنى عَنْ هَمْزَةِ الوَصْلِ ﴿بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أيِ الَّذِينَ هم أحْسَدُ النّاسَ لِلْعَرَبِ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ أوِ اسْتَأْنَفَ الإخْبارَ ﴿كَمْ آتَيْناهُمْ﴾ مِن ذَلِكَ ومَن غَيْرِهِ (p-١٨٨)﴿مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ بِواسِطَةِ أنْبِيائِهِمْ فَإنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى إنْكارِ ذَلِكَ، وسُكُوتُهم عَلى سَماعِهِ مِنكَ إقْرارٌ مِنهم. وقالَ الحَرالِيُّ: ولَمّا كانَ هَذا الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ أمْرًا مُجْمَلًا أُحِيلُوا في تَفاصِيلِ الوَقائِعِ وتَخْصِيصِ المَلاحِمِ ووُقُوعِ الأشْباهِ والنَّظائِرِ عَلى ما تَقَدَّمَ ووَقَعَ مِثالُهُ في بَنِي إسْرائِيلَ لِتَكْرارِ ما وقَعَ فِيهِمْ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ والقُذَّةِ بِالقُذَّةِ فَقالَ: ﴿سَلْ﴾ اسْتِنْطاقًا لِحالِهِمْ لا لِإنْبائِهِمْ وإخْبارِهِمْ، فالتِفاتُ النَّبِيِّ ﷺ إلى ما يَشْهَدُهُ اللَّهُ مِن أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ وأحْوالِ مُلُوكِهِمْ وأحْبارِهِمْ وأيّامِهِمْ وتَفَرُّقِهِمْ واخْتِلافِهِمْ وصُنُوفِ بَلاياهم هو سُؤالُهُ واسْتِبْصارُهُ لا أنْ يَسْألَ واحِدًا فَيُخْبِرَهُ؛ انْتَهى - كَذا قالَ، والظّاهِرُ أنَّهُ إباحَةٌ لِسُؤالِهِمْ فَإنَّهُ ﷺ ما سَألَهم عَنْ شَيْءٍ وكَذَبُوا في جَوابِهِ فَبَيَّنَ كَذِبَهم إلّا عُرِفُوا بِالكَذِبِ، كَقِصَّةِ حَدِّ الزِّنا وقَضِيَّةِ سُؤالِهِمْ عَنْ أبِيهِمْ وقَضِيَّةِ سَمِّ الشّاةِ ونَحْوِ هَذا، وفي ذَلِكَ زِيادَةٌ لِإيمانِ مَن يُشاهِدُهُ وإقامَةٌ لِلْحُجَّةِ (p-١٨٩)عَلَيْهِمْ وغَيْرِ هَذا مِنَ الفَوائِدِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَكانُوا إذا بَدَّلُوا شَيْئًا مِن آياتِنا واسْتَهانُوا بِهِ عاقَبْناهم فَشَدَّدْنا عِقابَهُمْ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ ما سُقْتُهُ مِنَ التَّوْراةِ في هَذا الدِّيوانِ لِمَن تَدَبَّرَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يُبَدِّلْ﴾ مِنَ التَّبْدِيلِ وهو تَصْيِيرُ الشَّيْءِ عَلى غَيْرِ ما كانَ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لا نِعْمَةَ إلّا مِنهُ الَّتِي هي سَبَبُ الهُدى فَيَجْعَلُها سَبَبًا لِضَلالٍ أوْ سَبَبًا لِشُكْرٍ فَيَجْعَلُها سَبَبَ الكُفْرِ كائِنًا مَن كانَ. قالَ الحَرالِيُّ: وأصْلُ هَذا التَّبْدِيلِ رَدُّ عِلْمِ العالِمِ عَلَيْهِ ورَدُّ صَلاحِ الصّالِحِ إلَيْهِ وعَدَمُ الِاقْتِداءِ بِعِلْمِ العالِمِ والِاهْتِداءِ بِصَلاحِ الصّالِحِ وذَلِكَ المُشارَكَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ العامَّةِ وبَيْنَ العُلَماءِ والصُّلَحاءِ وهو كُفْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ وتَبْدِيلُها - انْتَهى. ولَمّا كانَ الفَطِنُ مِنَ النّاسِ يَسْتَجْلِبُ النِّعَمَ قَبْلَ إتْيانِها إلَيْهِ والجامِدُ الغَبِيُّ (p-١٩٠)يَغْتَبِطُ بِها بَعْدَ سُبُوغِها عَلَيْهِ وكانَ المَحْذُورُ تَبْدِيلَها في وقْتٍ ما لا في كُلِّ وقْتٍ قالَ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُ﴾ أيْ وتَمَكَّنَ مِنَ الرُّسُوخِ في عِلْمِها تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَن بَدَّلَها في تِلْكَ الحالِ فَقَدْ سَفَلَ عَنْ أدْنى الإنْسانِ والتَحَقَ بِما لا يَعْقِلُ مِنَ الحَيَوانِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: يُهْلِكُهُ اللَّهُ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾ أيِ العَظِيمَ الشَّأْنِ ﴿شَدِيدُ العِقابِ﴾ وهو عَذابٌ يَعْقُبُ الجُرْمَ، وذَكَرَ بَعْضَ ما يَدُلُّ عَلى صِدْقِ الدَّعْوى في مَعْرِفَةِ بَنِي إسْرائِيلَ بِما في ظُهُورِ المَجْدِ في الغَمامِ مِنَ الرُّعْبِ وما آتاهم مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ، قالَ في أوائِلِ السِّفْرِ الخامِسِ مِنَ التَّوْراةِ: فاسْمَعُوا الآنَ يا بَنِي إسْرائِيلَ السُّنَنَ والأحْكامَ الَّتِي أُعَلِّمُكم لِتَعْمَلُوا بِها وتَعِيشُوا وتَدْخُلُوا وتَرِثُوا الأرْضَ الَّتِي يُعْطِيكُمُ اللَّهُ رَبُّ آبائِكُمْ، لا تَزِيدُوا عَلى الوَصِيَّةِ الَّتِي أُوصِيكم (p-١٩١)بِها، قَدْ رَأيْتُمْ ما صَنَعَ اللَّهُ بِبَعْلَصَفُونَ مِن أجْلِ أنَّ كُلَّ رَجُلٍ اتَّبَعَ بَعْلَصَفُونَ أهْلَكَهُ اللَّهُ رَبُّكم مِن بَيْنِكم وأنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُ اللَّهَ رَبَّكم أنْتُمْ أحْياءٌ - سالِمُونَ إلى اليَوْمِ، انْظُرُوا أنِّي قَدْ عَلَّمْتُكُمُ السُّنَنَ والأحْكامَ كَما أمَرَنِي اللَّهُ لِتَعْمَلُوا بِها الأرْضَ الَّتِي تَدْخُلُونَها وتَحْفَظُوها وتَعْمَلُوا بِها، لِأنَّها حِكْمَتُكم وفَهْمُكم تُجاهَ الشُّعُوبِ الَّتِي تَسْمَعُ مِنكم هَذِهِ السُّنَنَ كُلَّها ويَقُولُونَ إذا سَمِعُوها: ما أحْكَمَ هَذا الشَّعْبَ العَظِيمَ! وما أحْسَنَ فَهْمَهُ! أيُّ شَعْبٍ عَظِيمٍ إلَهُهُ قَرِيبٌ مِنهُ مِثْلَ اللَّهِ رَبِّنا فِيما دَعَوْناهُ! وأيُّ شَعْبٍ عَظِيمٍ لَهُ سُنَنٌ وأحْكامٌ مُعْتَدِلَةٌ مِثْلَ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي أتْلُو عَلَيْكُمُ اليَوْمَ! ولَكِنِ احْتَفِظُوا واحْتَرِسُوا بِأنْفُسِكم ولا تَنْسَوْا جَمِيعَ الآياتِ الَّتِي رَأيْتُمْ ولا تَزُلْ عَنْ قُلُوبِكم كُلَّ أيّامِ حَياتِكم بَلْ عَلِّمُوها بَنِيكم وبَنِي بَنِيكم وأخْبِرُوهم بِما رَأيْتُمْ يَوْمَ وقَفْتُمْ أمامَ اللَّهِ رَبِّكم في حُورِيبَ يَوْمَ قالَ الرَّبُّ: اجْمَعْ هَذا الشَّعْبَ أمامِي لِأُسْمِعَهم آياتِي ويَتَعَلَّمُوا أنْ يَتَّقُونِي كُلَّ أيّامِ حَياتِهِمْ عَلى الأرْضِ (p-١٩٢)ويُعَلِّمُوا بَنِيهِمْ أيْضًا وتَقَدَّمْتُمْ وقُمْتُمْ في سَفْحِ الجَبَلِ والجَبَلُ يَشْتَعِلُ نارًا يَرْتَفِعُ لَهِيبُها إلى جَوِّ السَّماءِ ورَأيْتُمُ الظُّلَّةَ والضَّبابَ والسَّحابَ فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ في الجَبَلِ مِنَ النّارِ، كُنْتُمْ تَسْمَعُونَ صَوْتَ الكَلامِ ولَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَ شَبَهًا، فَأظْهَرَ لَكم عَهْدَهُ وأمَرَكم أنْ تَعْلَمُوا العَشْرَ آياتٍ. وكَتَبَها عَلى لَوْحَيْنِ مِن حِجارَةٍ، احْتَرَسُوا واحْتَفَظُوا بِأنْفُسِكم جِدًّا لِأنَّكم لَمْ تَرَوْا شَبَهًا في اليَوْمِ الَّذِي كَلَّمَكُمُ اللَّهُ رَبُّكم مِنَ الجَبَلِ مِنَ النّارِ، احْتَفِظُوا، لا تُفْسِدُوا ولا تَتَّخِذُوا أصْنامًا وأشْباهَها مِن كُلِّ جِنْسٍ شِبْهِ ذَكَرٍ أوْ أُنْثى أوْ شِبْهِ بَهِيمَةٍ في الأرْضِ أوْ شِبْهِ كُلِّ طَيْرٍ في الهَواءِ أوْ شِبْهِ كُلِّ هَوامِّ الأرْضِ، ولا تَرْفَعُوا أعْيُنَكم إلى السَّماءِ وتَنْظُرُوا إلى الشَّمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ وإلى كُلِّ أجْنادِ السَّماءِ وتَضِلُّوا بِها وتَسْجُدُوا لَها وتَعْبُدُوها، الَّتِي اتَّخَذَها جَمِيعُ الشُّعُوبِ الَّذِينَ تَحْتَ السَّماءِ؛ فَأمّا أنْتُمْ فَقَرَّبَكُمُ اللَّهُ وأخْرَجَكم مِن كُورِ الحَدِيدِ مِن أرْضِ مِصْرَ لِتَصِيرُوا لَهُ مِيراثًا كاليَوْمِ - هَذا نَصُّهُ وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى مِنَ السِّفْرِ الثّانِي مِنَ التَّوْراةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٠] فَكانَ الرُّجُوعُ إلى قَصِّ ما يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى (p-١٩٣)مِن أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ لِلْأغْراضِ الماضِيَةِ عَلى غايَةِ ما يَكُونُ مِنَ الأحْكامِ وفي الذُّرْوَةِ العُلْيا مِن حُسْنِ الِانْتِظامِ وتَجَلِّي المَلائِكَةِ في ظُلَلِ الغَمامِ أمْرٌ مَأْلُوفٌ مِنهُ ما في الصَّحِيحِ عَنِ البَراءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «كانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وإلى جانِبِهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ؛ فَلَمّا أصْبَحَ أتى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَ لَهُ، فَقالَ: تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالقُرْآنِ» . وعَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «أنَّهُ بَيْنَما هو يَقْرَأُ سُورَةَ البَقَرَةِ وفَرَسُهُ مَرْبُوطٌ عِنْدَهُ إذْ جالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأ فَجالَتْ، فانْصَرَفَ؛ فَلَمّا أصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ ﷺ وقالَ: فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلى السَّماءِ فَإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيها أمْثالُ المَصابِيحِ فَرَفَعْتُ حَتّى لا أراها، قالَ: وتَدْرِي ما ذاكَ؟ قالَ: لا، قالَ: تِلْكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، ولَوْ قَرَأْتَ لَأصْبَحَتْ (p-١٩٤)يَنْظُرُ النّاسُ إلَيْها لا تَتَوارى مِنهم» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب