الباحث القرآني

﴿أوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا﴾: نَزَلَتْ في مالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، قالَ: واللَّهِ ما أُخِذَ عَلَيْنا عَهْدٌ في كِتابِنا أنْ نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ولا مِيثاقٌ. وقِيلَ في اليَهُودِ: عاهَدُوا عَلى أنَّهُ إنْ خَرَجَ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ ولَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلى مُشْرِكِي العَرَبِ، فَلَمّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وقالَ عَطاءٌ: هي العُهُودُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اليَهُودِ نَقَضُوها، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ. قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنهم ثُمَّ يَنْقُضُونَ﴾ [الأنفال: ٥٦] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: أوَكُلَّما، بِفَتْحِ الواوِ. واخْتُلِفَ في هَذِهِ الواوِ فَقِيلَ: هي زائِدَةٌ، قالَهُ الأخْفَشُ. وقِيلَ: هي ”أوْ“ السّاكِنَةُ الواوِ، وحُرِّكَتْ بِالفَتْحِ، وهي بِمَعْنى بَلْ، قالَهُ الكِسائِيُّ. وكِلا القَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ. وقِيلَ: واوُ العَطْفِ، وهو الصَّحِيحُ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ والنَّحْوِيِّينَ: أنَّ الأصْلَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الواوِ والفاءِ وثُمَّ عَلى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وإنَّما قُدِّمَتِ الهَمْزَةُ لِأنَّ لَها صَدْرَ الكَلامِ. وإنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَذْهَبُ إلى أنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مُقَدَّرًا بَيْنَ الهَمْزَةِ وحَرْفِ العَطْفِ، ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ هُنا أكَفَرُوا بِالآياتِ البَيِّناتِ ؟ وكُلَّما عاهَدُوا. وقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ اخْتِيارِهِ إلى قَوْلِ الجَماعَةِ. وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى ذَلِكَ في كِتابِنا المُسَمّى بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ. والمُرادُ بِهَذا الِاسْتِفْهامِ: الإنْكارُ، وإعْظامُ ما يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِن تَكَرُّرِ عُهُودِهِمْ ونَقْضِها، فَصارَ ذَلِكَ عادَةً لَهم وسَجِيَّةً. فَيَنْبَغِي أنْ لا يُكْتَرَثَ بِأمْرِهِمْ، وأنْ لا يَصْعُبَ ذَلِكَ، فَهي تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ إذْ كَفَرُوا بِما أُنْزِلَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ ما كانَ دَيْدَنًا لِلشَّخْصِ وخُلُقًا، لا يَنْبَغِي أنْ يُحْتَفَلَ بِأمْرِهِ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ العَدَوِيُّ وغَيْرُهُ: أوْ كُلَّما بِسُكُونِ الواوِ، (p-٣٢٤)وخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى أنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلى الفاسِقِينَ، وقَدَّرَهُ: وما يَكْفُرُ بِها إلّا الَّذِينَ فَسَقُوا، أوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِرارًا كَثِيرَةً. وخَرَّجَهُ الَمَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُ عَلى أنَّ أوْ لِلْخُرُوجِ مِن كَلامٍ إلى غَيْرِهِ، بِمَنزِلَةِ ”أمْ“ المُنْقَطِعَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: بَلْ كُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، لِأُعاقِبَنَّكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أوْ يُحْسِنُ اللَّهُ رَأْيَكَ، أيْ بَلْ يُحْسِنُ رَأْيَكَ، وهَذا التَّخْرِيجُ هو عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، إذْ يَكُونُ أوْ عِنْدَهم بِمَنزِلَةِ بَلْ. وأنْشَدُوا شاهِدًا عَلى هَذِهِ الدَّعْوى قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحى وصُورَتُها أوْ أنْتَ في العَيْنِ أمْلَحُ وقَدْ جاءَ أوْ بِمَعْنى الواوِ في قَوْلِهِ: ؎مِن بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سافِعِ وقَوْلِهِ: ؎صُدُورُ رِماحٍ أُشْرِعَتْ أوْ سَلاسِلُ يُرِيدُ: وشافِعٌ، وسَلاسِلُ. وقَدْ قِيلَ في ذَلِكَ: في قَوْلِهِ: ”﴿خَطِيئَةً أوْ إثْمًا﴾ [النساء: ١١٢]“، أنَّ المَعْنى: وإنَّما، فَيُحْتَمَلُ أنْ تُخَرَّجَ هَذِهِ القِراءَةُ الشّاذَّةُ عَلى أنْ تَكُونَ أوْ بِمَعْنى الواوِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ: أوَكُلَّما عُوهِدُوا عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وهي قِراءَةٌ تُخالِفُ رَسْمَ المُصْحَفِ. وانْتِصابُ عَهْدًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ المَصْدَرِ، أيْ مُعاهَدَةً، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ عَلى تَضْمِينِ عاهَدَ مَعْنى: أعْطى، أيْ أعْطَوْا عَهْدًا. وقُرِئَ: عَهِدُوا، فَيَكُونُ عَهْدًا مَصْدَرًا، وقَدْ تَقَدَّمَ ما المُرادُ بِالعَهْدِ في سَبَبِ النُّزُولِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. ﴿نَبَذَهُ﴾: طَرَحَهُ، أوْ نَقَضَهُ، أوْ تَرَكَ العَمَلَ بِهِ، أوِ اعْتَزَلَهُ، أوْ رَماهُ. أقْوالٌ خَمْسَةٌ، وهي مُتَقارِبَةُ المَعْنى. ونِسْبَةُ النَّبْذِ إلى العَهْدِ مَجازٌ؛ لِأنَّ العَهْدَ مَعْنًى، والنَّبْذَ حَقِيقَةٌ، إنَّما هو في المُتَجَسِّداتِ: ﴿فَأخَذْناهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْناهم في اليَمِّ﴾ [القصص: ٤٠]، ﴿إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: ١٦]، فَنَبَذَ خاتَمَهُ، فَنَبَذَ النّاسُ خَواتِيمَهم، ﴿لَنُبِذَ بِالعَراءِ﴾ [القلم: ٤٩] . ﴿فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ [البقرة: ٧٥]: الفَرِيقُ اسْمُ جِنْسٍ لا واحِدَ لَهُ، يَقَعُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنهم، وهي قِراءَةٌ تُخالِفُ سَوادَ المُصْحَفِ، فالأوْلى حَمْلُها عَلى التَّفْسِيرِ. ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يُؤْمِنُونَ﴾: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ عَطْفِ الجُمَلِ، وهو الظّاهِرُ، فَيَكُونَ أكْثَرُهم مُبْتَدَأً، ولا يُؤْمِنُونَ خَبَرًا عَنْهُ، والضَّمِيرُ في أكْثَرِهِمْ عائِدٌ عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في عاهَدُوا، وهُمُ اليَهُودُ. ومَعْنى هَذا الإضْرابِ هو: انْتِقالٌ مِن خَبَرٍ إلى خَبَرٍ، ويَكُونُ الأكْثَرُ عَلى هَذا واقِعًا عَلى ما يَقَعُ عَلَيْهِ الفَرِيقُ، كَأنَّهُ أعَمُّ؛ لِأنَّ مَن نَبَذَ العَهْدَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَن لَمْ يُؤْمِن، فَكَأنَّهُ قالَ: بَلِ الفَرِيقُ الَّذِي نَبَذَ العَهْدَ، وغَيْرُ ذَلِكَ الفَرِيقِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ عَطْفِ المُفْرَداتِ، ويَكُونَ أكْثَرُهم مَعْطُوفًا عَلى فَرِيقٍ، أيْ نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهم، بَلْ أكْثَرُهم، يَكُونُ قَوْلُهُ: لا يُؤْمِنُونَ، جُمْلَةً حالِيَّةً، العامِلُ فِيها نَبَذَهُ، وصاحِبُ الحالِ هو أكْثَرُهم. ولَمّا كانَ الفَرِيقُ يَنْطَلِقُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ، وأُسْنِدَ النَّبْذُ إلَيْهِ، كانَ فِيما يَتَبادَرُ إلَيْهِ الذِّهْنُ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ النّابِذُونَ قَلِيلًا، فَبَيَّنَ أنَّ النّابِذِينَ هُمُ الأكْثَرُ، وصارَ ذِكْرُ الأكْثَرِ دَلِيلًا عَلى أنَّ الفَرِيقَ هُنا لا يُرادُ بِهِ اليَسِيرُ مِنهم، فَكانَ هَذا إضْرابًا عَمّا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الفَرِيقِ مِن دَلالَتِهِ عَلى القَلِيلِ. والضَّمِيرُ في ”أكْثَرُهم“ عائِدٌ عَلى الفَرِيقِ، أوْ عَلى جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ. وعَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ، ذَكَرَ الأكْثَرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالنَّبْذِ، أوْ بِعَدَمِ الإيمانِ؛ لِأنَّ بَعْضَهم آمَنَ، ومَن آمَنَ فَما نَبَذَ العَهْدَ. وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ مَن كَفَرَ بِآيَةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ، أوْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي أخَذَهُ عَلى عِبادِهِ في كُتُبِهِ، فَهو كافِرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب