الباحث القرآني

﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأبى أكْثَرُ النّاسِ إلّا كُفُورًا﴾ ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ ﴿أوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا﴾ ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾ ﴿أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أوْ تَرْقى في السَّماءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ . لَمّا ذَكَرَ تَعالى إنْعامَهُ عَلى نَبِيِّهِ ﷺ بِالنُّبُوَّةِ وبِإنْزالِ وحْيِهِ عَلَيْهِ وباهِرَ قُدْرَتِهِ بِأنَّهُ تَعالى لَوْ شاءَ لَذَهَبَ بِالقُرْآنِ، ذَكَرَ ما مَنَحَهُ تَعالى مِنَ الدَّلِيلِ عَلى نَبُّوتِهِ الباقِي بَقاءَ الدَّهْرِ، وهو القُرْآنُ الَّذِي عَجَزَ العالَمُ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ، وأنَّهُ مِن أكْبَرِ النِّعَمِ والفَضْلِ الَّذِي أبْقى لَهُ ذِكْرًا إلى آخِرِ الدَّهْرِ ورَفَعَ لَهُ قَدْرًا بِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإذا كانَ فُصَحاءُ اللِّسانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ وبُلَغاؤُهم عَجَزُوا عَنِ الإتْيانِ بِسُورَةٍ واحِدَةٍ مِثْلِهِ فَلَأنْ يَكُونُوا أعْجَزَ عَنْ ﴿أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ﴾ جَمِيعِهِ، ولَوْ تَعاوَنَ الثَّقَلانِ عَلَيْهِ ﴿لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ﴾ الجِنُّ تَفْعَلُ أفْعالًا مُسْتَغْرَبَةً كَما حَكى اللَّهُ عَنْهم في قِصَّةِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أُدْرِجُوا مَعَ الإنْسِ في التَّعْجِيزِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْلَغَ في العَجْزِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المَلائِكَةُ مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ لَفْظِ الجِنِّ؛ لِأنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ هَذا الِاسْمُ كَقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] وإنْ كانَ الأكْثَرُ اسْتِعْمالَهُ في غَيْرِ المَلائِكَةِ مِنَ الأشْكالِ الجِنِّيَّةِ المُسْتَتِرِينَ عَنْ أبْصارِ الإنْسِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ الجِنَّ هُنا؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بُعِثَ إلى الإنْسِ والجِنِّ فَوَقَعَ التَّعْجِيزُ لِلثَّقَلَيْنِ مَعًا لِذَلِكَ. ورُوِيَ أنَّ جَماعَةً مِن (p-٧٨)قُرَيْشٍ قالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: جِئْنا بِآيَةٍ غَرِيبَةٍ غَيْرَ هَذا القُرْآنِ فَإنّا نَحْنُ نَقْدِرُ عَلى المَجِيءِ بِمِثْلِ هَذا، فَنَزَلَتْ (ولا يَأْتُونَ) جَوابُ القَسَمِ المَحْذُوفِ قَبْلَ اللّامِ المُوَطِّئَةِ في (لَئِنْ) وهي الدّاخِلَةُ عَلى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهم ولَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ [الحشر: ١٢] فالجَوابُ في نَحْوِ هَذا لِلْقَسَمِ المَحْذُوفِ لا لِلشَّرْطِ، ولِذَلِكَ جاءَ مَرْفُوعًا. فَأمّا قَوْلُ الأعْشى: ؎لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَنْ غِبِّ مَعْرَكَةٍ لَأتْلَفْنا عَنْ دِماءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ فاللّامُ في (لَئِنْ) زائِدَةٌ ولَيْسَتْ مُوَطِّئَةً لِقَسَمٍ قَبْلَها، فَلِذَلِكَ جَزَمَ في قَوْلِهِ: لَأتْلَفْنا وقَدِ احْتَجَّ بِهَذا ونَحْوِهِ الفَرّاءُ في زَعْمِهِ أنَّهُ إذا اجْتَمَعَ القَسَمُ والشَّرْطُ، وتَقَدَّمَ القَسَمُ ولَمْ يَسْبِقْهُما ذُو خَبَرٍ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجَوابُ لِلْقَسَمِ وهو الأكْثَرُ ولِلشَّرْطِ، ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ يُحَتِّمُ الجَوابَ لِلْقَسَمِ خاصَّةً. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنا فَصْلًا حَسَنًا في ذِكْرِ الإعْجازِ نَقَلْناهُ بِقِصَّتِهِ. قالَ: وفَهِمَتِ العَرَبُ بِخُلُوصِ فَهْمِها في مَيْزِ الكَلامِ ودِرْيَتِها بِهِ ما لا نَفْهَمُهُ نَحْنُ ولا كُلُّ مَن خالَطَتْهُ حَضارَةٌ، فَفَهِمُوا العَجْزَ عَنْهُ ضَرُورَةً، وشاهَدَهُ وعَلِمَهُ النّاسُ بَعْدَهُمُ اسْتِدْلالًا ونَظَرًا، ولِكُلٍّ حَصَلَ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ لَكِنْ لَيْسَ في مَرْتَبَةٍ واحِدَةٍ، وهَذا كَما عَلِمَتِ الصَّحابَةُ شَرْعَ النَّبِيِّ ﷺ وأعْمالَهُ ومَشاهِدَهُ عِلْمَ ضَرُورَةٍ، وعَلِمْنا نَحْنُ المُتَواتِرَ مِن ذَلِكَ بِنَقْلِ التَّواتُرِ فَحَصَلَ لِلْجَمِيعِ القَطْعُ لَكِنْ في مَرْتَبَتَيْنِ، وفَهِمَ إعْجازَ القُرْآنِ أرْبابُ الفَصاحَةِ الَّذِينَ لَهم غَرائِبُ في مَيْزِ الكَلامِ، ألا تَرى إلى فَهْمِ الفَرَزْدَقِ شِعْرَ جَرِيرٍ وذِي الرُّمَّةِ في قَوْلِ الفَرَزْدَقِ: ؎عَلامَ تَلْفِتِينَ وأنْتِ تَحْتِي وفِي قَوْلِ جَرِيرٍ: ؎تَلْفِتُ إنَّها تَحْتَ ابْنِ قَيْنٍ وألا تَرى قَوْلَ الأعْرابِيِّ: عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ، وألا تَرى إلى الِاسْتِدْلالِ الآخَرِ عَلى البَعْثِ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى زُرْتُمُ المَقابِرَ﴾ [التكاثر: ٢] فَقالَ: إنَّ الزِّيارَةَ تَقْتَضِي الِانْصِرافَ، ومِنهُ عَلِمَ بَشّارٌ بِقَوْلِ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ في شِعْرِ الأعْشى: ؎وأنْكَرَتْنِي وما كانَ الَّذِي نَكِرَتْ ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ لِلْأصْمَعِيِّ. ؎مَن أحْوَجَ الكَرِيمَ أنْ يُقْسِمَ فَهم مَعَ هَذِهِ الأفْهامِ أقَرُّوا بِالعَجْزِ، ولَجَأ النِّجادُ مِنهم إلى السَّيْفِ ورَضِيَ بِالقَتْلِ والسِّباءِ وكَشْفِ الحُرُمِ وهو كانَ يَجِدُ المَندُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ بِالمُعارَضَةِ. انْتَهى. ما اقْتَصَرْنا عَلَيْهِ مِن كَلامِهِ وكانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: والعَجْزُ في مُعارَضَةِ القُرْآنِ إنَّما وقَعَ في النَّظْمِ، وعِلَّةُ ذَلِكَ الإحاطَةُ الَّتِي لا يَتَّصِفُ بِها إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، والبَشَرُ مُقَصِّرٌ ضَرُورَةً بِالجَهْلِ والنِّسْيانِ والغَفْلَةِ وأنْواعِ النَّقْصِ، فَإذا نَظَمَ كَلِمَةً خَفِيَ عَنْهُ العِلَلُ الَّتِي ذَكَرْنا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (ولا يَأْتُونَ) جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، ولَوْلا اللّامُ المُوَطِّئَةُ لَجازَ أنْ تَكُونَ جَوابًا لِلشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ: ؎يَقُولُ لا غائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ لِأنَّ الشَّرْطَ وقَعَ ماضِيًا. انْتَهى يَعْنِي بِالشَّرْطِ قَوْلَهُ، وهو صَدْرُ البَيْتِ: ؎وإنْ أتاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ فَأتاهُ فِعْلٌ ماضٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أداةُ الشَّرْطِ فَخَلَّصَتْهُ لِلِاسْتِقْبالِ، وأفْهَمَ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ أنْ يَقُولَ: وإنْ كانَ مَرْفُوعًا هو جَوابُ الشَّرْطِ الَّذِي هو وإنْ أتاهُ، وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هو مُخالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ ولِمَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ والمُبَرِّدِ؛ لِأنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ وهو أنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ ماضِيًا وبَعْدَهُ مُضارِعٌ مَرْفُوعٌ أنَّ ذَلِكَ المُضارِعَ هو عَلى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، ومَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ والمُبَرِّدِ أنَّهُ الجَوابُ لَكِنَّهُ عَلى حَذْفِ الفاءِ، ومَذْهَبٌ ثالِثٌ وهو أنَّهُ هو جَوابُ الشَّرْطِ، وهو الَّذِي قالَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، والكَلامُ عَلى هَذِهِ المَذاهِبِ مَذْكُورٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والعَجَبُ مِنَ المَذاهِبِ ومِن زَعْمِهِمْ أنَّ القُرْآنَ قَدِيمٌ مَعَ اعْتِرافِهِمْ بِأنَّهُ مُعْجِزٌ، وإنَّما يَكُونُ المُعْجِزُ حَيْثُ تَكُونُ القُدْرَةُ فَيُقالُ: اللَّهُ قادِرٌ عَلى خَلْقِ الأجْسامِ والعِبادِ عاجِزُونَ عَنْهُ، والمُحالُ الَّذِي لا مَجالَ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ ولا مَدْخَلَ لَها فِيهِ كَثانِي القَدِيمِ فَلا يُقالُ لِلْفاعِلِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ ولا هو مُعْجِزٌ، ولَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَجازَ وصْفُ (p-٧٩)اللَّهِ بِالعَجْزِ؛ لِأنَّهُ لا يُوصَفُ بِالقُدْرَةِ عَلى المُحالِ إلّا أنْ يُكابِرُوا فَيَقُولُوا: هو قادِرٌ عَلى المُحالِ فَإنَّ رَأْسَ مالِهِمُ المُكابَرَةُ، وقَلْبُ الحَقائِقِ. انْتَهى. وتَكَرَّرَ لَفْظُ (مِثْلِ) في قَوْلِهِ: ﴿لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ والتَّوْضِيحِ، وأنَّ المُرادَ مِنهم (أنْ يَأْتُوا) بِمِثْلِهِ إذْ قَدْ يُرادُ بِمِثْلِ الشَّيْءِ في مَوْضِعِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، فَبَيَّنَ بِتَكْرارِ (بِمِثْلِهِ) ولَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ ﴿لا يَأْتُونَ﴾ بِهِ رَفْعًا لِهَذا الِاحْتِمالِ، وأنَّ المَطْلُوبَ مِنهم أنْ يَأْتُوا بِالمِثْلِ لا أنْ يَأْتُوا بِالقُرْآنِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى عَجْزَ الإنْسِ والجِنِّ عَنْ أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ نَبَّهَ عَلى فَضْلِهِ تَعالى بِما رَدَّدَ فِيهِ، وضَرَبَ مِنَ الأمْثالِ والعِبَرِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى تَوْحِيدِهِ تَعالى، ومَعَ كَثْرَةِ ما رَدَّدَ مِنَ الأمْثِلَةِ وأسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ لَمْ يَكُونُوا إلّا كافِرِينَ بِهِ وبِنِعَمِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (صَرَّفْنا) بِتَشْدِيدِ الرّاءِ والحَسَنُ بِتَخْفِيفِها، والظّاهِرُ أنَّ مَفْعُولَ (صَرَّفْنا) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ البَيِّناتُ والعِبَرُ و(مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً زائِدَةً لِلتَّقْدِيرِ، ولَقَدْ (صَرَّفْنا) (كُلِّ مَثَلٍ) . انْتَهى. يَعْنِي فَيَكُونُ مَفْعُولُ (صَرَّفْنا) (كُلِّ مَثَلٍ) وهَذا التَّخْرِيجُ هو عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ والأخْفَشِ لا عَلى مَذْهَبِ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالمَثَلِ هو القَوْلُ الغَرِيبُ السّائِرُ في الآفاقِ، والقُرْآنُ مَلْآنُ مِنَ الأمْثالِ الَّتِي ضَرَبَها اللَّهُ تَعالى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (مِن كُلِّ مَثَلٍ) مِن كُلِّ مَعْنًى هو كالمَثَلِ في غَرابَتِهِ وحُسْنِهِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: (مِن كُلِّ مَثَلٍ) إشارَةٌ إلى التَّحَدِّي بِهِ بِالجِهاتِ المُخْتَلِفَةِ كالتَّحَدِّي بِكُلِّ القُرْآنِ كالَّذِي هُنا، وبِسُورَةٍ مِثْلِهِ وبِكَلامٍ مِن سُورَةٍ كَقَوْلِهِ: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور: ٣٤] ومَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ أبَوْا (إلّا كُفُورًا) . انْتَهى مُلَخَّصًا. وقِيلَ: (مِن كُلِّ مَثَلٍ) مِنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ وأنْباءِ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ، وذِكْرِ الجَنَّةِ والنّارِ وأكْثَرِ النّاسِ. قِيلَ: مَن كانَ في عَهْدِ الرَّسُولِ مِنَ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ، وقِيلَ: أهْلُ مَكَّةَ وهو الظّاهِرُ بِدَلِيلِ ما أتى بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ وتَقَدَّمَ القَوْلُ في دُخُولِ (إلّا) بَعْدَ (أبى) في سُورَةِ بَراءَةٌ. ورُوِيَ في مَقالَتِهِمْ هَذِهِ أخْبارٌ مُطَوَّلَةٌ هي في كُتُبِ الحَدِيثِ والسِّيَرِ مُلَخَّصُها أنَّ صَنادِيدَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا وسَيَّرُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا جاءَ إلَيْهِمْ جَرَتْ بَيْنَهم مُحاوَراتٌ في تَرْكِ دِينِهِمْ وطَلَبِهِ مِنهم أنْ يُوَحِّدُوا ويَعْبُدُوا اللَّهَ فَأرْغَبُوهُ بِالمالِ والرِّئاسَةِ والمُلْكِ فَأبى، فَقالَ: «لَسْتُ أطْلُبُ ذَلِكَ» . فاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ السِّتَّ الآياتِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ هُنا، ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا تَحَدّاهم بِأنَّ ﴿يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ﴾ فَتَبَيَّنَ عَجْزُهم عَنْ ذَلِكَ وإعْجازُهُ، وانْضَمَّتْ إلَيْهِ مُعْجِزاتٌ أُخَرُ وبَيِّناتٌ واضِحَةٌ فَلَزِمَتْهُمُ الحُجَّةُ وغُلِبُوا أخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِاقْتِراحِ آياتِ فِعْلِ الحائِرِ المَبْهُوتِ المَحْجُوجِ، فَقالُوا ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: ﴿تَفْجُرَ﴾ مِن فَجَرَ مُخَفَّفًا، وباقِي السَّبْعَةِ مِن فَجَّرَ مُشَدَّدًا، والتَّضْعِيفُ لِلْمُبالَغَةِ لا لِلتَّعْدِيَةِ، والأعْمَشُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ مِن أفْجَرَ رُباعِيًّا وهي لُغَةٌ في فَجَّرَ الأرْضُ هُنا أرْضُ مَكَّةَ وهي الأرْضُ الَّتِي فِيها تَصَرُّفُ العالَمِينَ ومَعاشُهم، رُوِيَ عَنْهم أنَّهم قالُوا لَهُ: أزِلْ جِبالَ مَكَّةَ وفَجِّرْ لَنا ﴿يَنْبُوعًا﴾ حَتّى يَسْهُلَ عَلَيْنا الحَرْثُ والزَّرْعُ، وأحْيِي لَنا قُصَيًّا؛ فَإنَّهُ كانَ صَدُوقًا يُخْبِرُنا عَنْ صِدْقِكَ اقْتَرَحُوا لَهم أوَّلًا هَذِهِ الآيَةَ ثُمَّ اقْتَرَحُوا أُخْرى لَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّ (تَكُونَ) لَهُ ﴿جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ﴾ وهُما كانا الغالِبَ عَلى بِلادِهِمْ، ومِن أعْظَمِ ما يَقْتَنُونَ، ومَعْنى (خِلالَها) أيْ: وسَطَ تِلْكَ الجَنَّةِ وأثْناءَها. فَتَسْقِي ذَلِكَ النَّخْلَ وتِلْكَ الكُرُومَ، وانْتَصَبَ (خِلالَها) عَلى الظَّرْفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تُسْقِطَ) بِتاءِ الخِطابِ مُضارِعُ أسْقَطَ السَّماءَ نَصْبًا، ومُجاهِدٌ بِياءِ الغَيْبَةِ مُضارِعُ سَقَطَ السَّماءُ رَفْعًا، وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (كِسْفًا) بِسُكُونِ السِّينِ وباقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِها. وقَوْلُهم: ﴿كَما زَعَمْتَ﴾ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ [سبإ: ٩] . وقِيلَ: ﴿كَما زَعَمْتَ﴾ إنَّ رَبَّكَ إنْ شاءَ فَعَلَ. وقِيلَ: هو ما في هَذِهِ السُّورَةِ مِن قَوْلِهِ (أفَأمِنتُمْ أنْ نَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أوْ نُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا) . قالَ أبُو عَلِيٍّ: ﴿قَبِيلًا﴾ مُعايَنَةً، كَقَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أوْ نَرى رَبَّنا﴾ [الفرقان: ٢١] . (p-٨٠)وقالَ غَيْرُهُ: ﴿قَبِيلًا﴾ كَفِيلًا مِن تَقَبَّلَهُ بِكَذا كَفَلَهُ، والقَبِيلُ والزَّعِيمُ والكَفِيلُ بِمَعْنًى واحِدٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَفِيلًا بِما تَقُولُ شاهِدًا لِصِحَّتِهِ، والمَعْنى أوْ تَأْتِي بِاللَّهِ ﴿قَبِيلًا﴾ والمَلائِكَةِ ﴿قَبِيلًا﴾ كَقَوْلِهِ: ؎كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي بَرِّيًّا وإنِّي وقَيّارٌ بِها لَغَرِيبُ أيْ: مُقابِلًا كالعَشِيرِ بِمَعْنى المُعاشِرِ ونَحْوَهُ ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أوْ نَرى رَبَّنا﴾ [الفرقان: ٢١] أوْ جَماعَةً حالًا مِنَ المَلائِكَةِ. وقَرَأ الأعْرَجُ قُبُلًا مِنَ المُقابَلَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مِن زُخْرُفٍ﴾ وعَبْدُ اللَّهِ مِن ذَهَبٍ، ولا تُحْمَلُ عَلى أنَّها قِراءَةٌ لِمُخالَفَةِ السَّوادِ وإنَّما هي تَفْسِيرٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: كُنّا لا نَدْرِي ما الزُّخْرُفُ حَتّى رَأيْتُ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ مِن ذَهَبٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: الزُّخْرُفُ الزِّينَةُ، وتَقَدَّمَ شَرْحُ الزُّخْرُفِ. ﴿وفِي السَّماءِ﴾ [الذاريات: ٢٢] عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: في مَعارِجِ السَّماءِ. والظّاهِرُ أنَّ (السَّماءِ) هُنا هي المُظِلَّةُ، وقِيلَ: المُرادُ إلى مَكانٍ عالٍ وكُلُّ ما عَلا وارْتَفَعَ يُسَمّى سَماءً. وقالَ الشّاعِرُ: ؎وقَدْ يُسَمّى سَماءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ ∗∗∗ وإنَّما الفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ والقَمَرُ قِيلَ: وقائِلُ هَذِهِ هو ابْنُ أبِي أُمَيَّةَ، قالَ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى تَضَعَ عَلى السَّماءِ سُلَّمًا ثُمَّ تَرْقى فِيهِ، وأنا أنْظُرُ حَتّى تَأْتِيَها ثُمَّ تَأْتِي مَعَكَ بِصَكٍّ مَنشُورٍ، مَعَهُ أرْبَعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أنَّ الأمْرَ كَما تَقُولُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ أُولَئِكَ الصَّنادِيدِ، قالُوا ذَلِكَ وغَيَّوْا إيمانَهم بِحُصُولِ واحِدٍ مِن هَذِهِ المُقْتَرَحاتِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ اقْتَرَحَ واحِدًا مِنها ونُسِبَ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ لِرِضاهم بِهِ، أوْ تَكُونُ (أوْ) فِيها لِلتَّفْضِيلِ أيْ: قالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم مُقالَةً مَخْصُوصَةً مِنها، وما اكْتَفَوْا بِالتَّغْيِيَةِ بِالرُّقِيِّ (في السَّماءِ) حَتّى غَيُّوا ذَلِكَ بِأنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ (كِتابًا) يَقْرَءُونَهُ، ولَمّا تَضَمَّنَ اقْتِراحُهم ما هو مُسْتَحِيلٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، وهو أنْ يَأْتِيَ ﴿بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾ أمَرَهُ تَعالى بِالتَّسْبِيحِ والتَّنْزِيهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، ومِن أنْ يُقْتَرَحَ عَلَيْهِ ما ذَكَرْتُمْ، فَقالَ: ﴿سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ أيْ: ما كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا أيْ: مِنَ اللَّهِ إلَيْكم لا مُقْتَرِحًا عَلَيْهِ ما ذَكَرْتُمْ مِنَ الآياتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وما كانُوا يَقْصِدُونَ بِهَذِهِ الِاقْتِراحاتِ إلّا العِنادَ واللَّجاجَ، ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ لَقالُوا هَذا سِحْرٌ، كَما قالَ عِزَّ وعَلا: ﴿ولَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا في قِرْطاسٍ﴾ [الأنعام: ٧]، ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ [الحجر: ١٤] وحِينَ أنْكَرُوا الآيَةَ الباقِيَةَ، الَّتِي هي القُرْآنُ وسائِرُ الآياتِ، ولَيْسَتْ بِدُونِ ما اقْتَرَحُوهُ، بَلْ هي أعْظَمُ لَمْ يَكُنِ. انْتَهى. وشَقُّ القَمَرِ أعْظَمُ مِن شَقِّ الأرْضِ ونَبْعُ الماءِ مِن بَيْنِ أصابِعِهِ أعْظَمُ مِن نَبَعِ الماءِ مِنَ الحَجَرِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ (قالَ سُبْحانَ رَبِّي) عَلى الخَبَرِ تَعَجَّبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ اقْتِراحاتِهِمْ عَلَيْهِ، ونَزَّهَ رَبَّهُ عَمّا جَوَّزُوا عَلَيْهِ مِنَ الإتْيانِ والِانْتِقالِ وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ ﴿هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا﴾ مِثْلَهم (رَسُولًا) والرُّسُلُ لا تَأْتِي إلّا بِما يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآياتِ، ولَيْسَ أمْرُها إلَيْهِمْ إنَّما ذَلِكَ إلى اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب