الباحث القرآني

وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. عكرمة عن ابن عبّاس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا- أو من اجتمع منهم- بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة. فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعث إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله ﷺ‎ سريعا وهو [يظن بأنه] بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم. فقالوا: يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلّا وقد جئته فيما بيننا [وبينك] ، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك- فكانوا يسمون من الجن من يأتي الإنسان بالخير والشر فربما كان ذلك- بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال رسول الله ﷺ‎: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [54] [[خلق أفعال العباد للبخاري: 81، وأسباب النزول للواحدي: 198.]] . فقالوا: يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله ﷺ‎: «ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [55] [[تفسير الطبري: 15/ 206، وتفسير الدر المنثور: 4/ 202.]] . قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه. فقال لهم رسول الله ﷺ‎: « [ما أنا بفاعل] ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بَشِيراً وَنَذِيراً» [56] . قالوا: فأسقط السماء [عَلَيْنا كِسَفاً] كما زعمت أن ربك [إن] شاء فعل. فقال رسول الله ﷺ‎: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك» [57] . قالوا: قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمّد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتّى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائل منهم لن نؤمن لك حتّى تأتينا بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. فلما قالوا ذلك قام النبي ﷺ‎، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمّد عرض عليك ما عرضوا فلم تقبل منهم ثمّ سألوك لأنفسهم أمرا فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبدا حتّى تتخذ إلى السماء سلما ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر حتّى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألّا أصدقك، ثمّ انصرف وانصرف رسول الله ﷺ‎. فقال: أبو جهل، حين قام رسول الله ﷺ‎: يا معشر قريش إن محمّد قد أتى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسبّ آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسنّ له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه. وانصرف رسول الله ﷺ‎ إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ [[بطوله في تفسير الطبري: 15/ 206، 205.]] [[زاد المسير لابن الجوزي: 5/ 61.]] . قال أهل الكوفة: (تَفْجُرَ) خفيفة بفتح التاء وضم الجيم، واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد. [قرأ] الباقون بالتشديد على التفعيل، واختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة يَنْبُوعاً يعني عيونا هو مفعول من نبع الماء. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً [رقيقا] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قرأ أكثر قراء العراق: بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر. تقول العرب: أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة، ويقال: منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز، وقيل: أراد جاثيا. وفتح الباقون السين، وهو القطع أيضا جمع القليل للكسفة. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. قال ابن عبّاس: كفيلا. الضحاك: ضامنا. مقاتل: شهيدا. مجاهد: جمع القبيلة أيّ بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قتادة: عيانا. الفراء: هو من قول العرب: لقيت فلانا قبلا وقبلا أي معاينة. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب وأصله الزينة. مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتّى رأيته في قراءة ابن مسعود: بيت من ذهب. أَوْ تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أيّ من أجل رقيك صعودك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك قُلْ يا محمّد سُبْحانَ رَبِّي. وقرأ أهل مكة والشام: قال سبحان ربي يعني محمد ﷺ‎ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وإن الأولى في محل النصب والثانية في محل الرفع وفي الآية اختصار فتأويلها هلّا بعث الله ملكا رسولا فأجابهم الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مستوطنين مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إنه رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً إلى قوله أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ دونهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ. شيبان عن قتادة عن أنس: إن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال نبي الله ﷺ‎: «إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه [في النار] » [58] [[مسند أحمد: 3/ 229، وصحيح ابن حبان: 16/ 316 ح 17321.]] . وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبان وصنفا يمشون على وجوههم» . قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» [59] [[مسند أحمد: 2/ 363.]] . عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا إن قيل: وكيف وصف الله عزّ وجلّ هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم، وقال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [[سورة الكهف: 53.]] فقال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً والجواب عنه ما قال ابن عبّاس: عُمْياً لا يرون شيئا يسرهم، بُكْماً لا ينطقون بحجة، صُمًّا لا يسمعون شيئا يسرهم. وقال الحسن: هذا حين [جاءتهم] الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار. مقاتل: هذا حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك. وقيل: عُمْياً لا يبصرون الهدى، وَبُكْماً لا ينطقون بخير، وَصُمًّا لا يسمعون الحق. مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ قال ابن عبّاس: [سكنت] مجاهد: [طفيت] قتادة: لانت وضعفت. زِدْناهُمْ سَعِيراً وقودا ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فأجابهم الله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ في عظمها وشدتها وكثرة أجزائها وقوتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في صغرهم وضعفهم نظيره قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [[سورة المؤمن: 57.]] وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [[سورة النازعات: 27]] . وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم وهلاكهم لا رَيْبَ فِيهِ إنه إليهم، وقيل: إن هذا جواب لقولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو الموت الذي يعاينونه فَأَبَى الظَّالِمُونَ الكافرون إِلَّا كُفُوراً جحودا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أيّ أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي الفاقة، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا ممسكا ضيقا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب