الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأبى أكْثَرُ الناسِ إلا كُفُورًا﴾ ﴿وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ ﴿أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا﴾ ﴿أو تُسْقِطَ السَماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أو تَأْتِيَ بِاللهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلا﴾ هَذِهِ آيَةُ تَنْبِيهٍ عَلى فَضْلِ اللهِ في القُرْآنِ عَلى العالَمِ، وتَوْبِيخٍ لِلْكُفّارِ مِنهم عَلى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ. و"تَصْرِيفِ القَوْلِ" هو تَرْدِيدُ البَيانِ عَنِ المَعْنى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "صَرَّفْنا" بِتَشْدِيدِ الراءِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "صَرَفْنا" بِفَتْحِ الراءِ خَفِيفَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ "مِن" لِابْتِداءِ الغايَةِ، ويَكُونُ المَفْعُولُ بِـ "صَرَّفْنا" مُقَدَّرًا، تَقْدِيرُهُ: ولَقَدْ صَرَفْنا في هَذا القُرْآنِ التَنْبِيهَ والعِبَرَ مِن كُلِّ مَثَلٍ ضَرَبْناهُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً زائِدَةً، التَقْدِيرُ: ولَقَدْ صَرَفْنا كُلَّ مَثَلٍ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]. وقَوْلُهُ تَعالى: "فَأبى" عِبارَةٌ عن تَكَسُّبِ الكَفّارِ الكُفْرَ، وإعْراضِهِمْ عَنِ الإيمانِ، وفي العِبارَةِ بِـ "أبى" تَغْلِيظٌ، والكُفْرُ بِالخَلْقِ والِاخْتِراعِ هو مِن فِعْلِ اللهِ تَعالى، وبِالتَكَسُّبِ والدُءُوبِ هو مِنَ الإنْسانِ. و"كُفُورًا" مَصْدَرٌ كالخُرُوجِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ الآيَةَ. قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "حَتّى تُفَجِّرَ"، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "حَتّى تَفْجُرَ" بِفَتْحِ التاءِ (p-٥٤٣)وَضَمِّ الجِيمِ، وفي القُرْآنِ "فانْفَجَرَتْ"، وانْفَجَرَ مُطاوِعُ فَجَرَ، فَهَذا مِمّا يُقَوِّي القِراءَةَ الثانِيَةَ، وأمّا الأُولى فَتَقْتَضِي المُبالَغَةَ في التَفْجِيرِ. و"اليَنْبُوعُ": الماءُ النابِعُ، وهي صِفَةُ مُبالَغَةٍ إنَّما تَقَعُ لِلْماءِ الكَثِيرِ. وطَلَبَتْ قُرَيْشٌ هَذا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ، وإيّاها عَنَوْا بِـ "الأرْضِ"، وإنَّما يُرادُ بِإطْلاقِ لِفْظَةِ الأرْضِ هُنا الأرْضُ الَّتِي يَكُونُ فِيها المَعْنى المُتَكَلَّمُ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أو يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ [المائدة: ٣٣]، فَإنَّما يُرادُ: مَن أرْضِ تَصَرُّفِهِمْ وقَطْعِهِمُ السُبُلَ ومَعاشِهِمْ، وكَذَلِكَ أيْضًا اقْتِراحُهم بِالجَنَّةِ إنَّما هو بِمَكَّةَ لِامْتِناعِ ذَلِكَ فِيها، وإلّا فَفي سائِرِ البِلادِ كانَ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ، وإنَّما طالَبُوهُ بِأمْرٍ إلَهِيٍّ في ذَلِكَ المَوْضِعِ الجَدْبِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "جَنَّةً". وقُرِئَ: "حَبَّةٌ" ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: "فَتُفَجِّرَ" تَضْعِيفُ مُبالَغَةٍ لا تَضْعِيفَ تَعْدِيَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأبْوابَ﴾ [يوسف: ٢٣]، و"خِلالَها" ظَرْفٌ، ومَعْناهُ: أثْناءُها وفي داخِلِها. ورُوِيَ في قَوْلِ هَذِهِ المَقالَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَدِيثٌ طَوِيلٌ، مُقْتَضاهُ «أنَّ عُتْبَةَ وشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وعَبْدَ اللهِ بْنَ أبِي أُمَيَّةَ، والنَضِرَ بْنَ الحارِثِ، وغَيْرَهم مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ وساداتِها اجْتَمَعُوا فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أنْ يُمَلِّكُوهُ -إنْ أرادَ- المُلْكَ، ويَجْمَعُوا لَهُ كَثِيرًا مِنَ المالِ إنْ أرادَ الغِنى، أو يُطِبُّوهُ إنْ كانَ بِهِ داءٌ، ونَحْوَ هَذا مِنَ الأقاوِيلِ، فَدَعاهم رَسُولُ اللهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ إلى اللهِ، وقالَ: "إنَّما جِئْتُكم مِن عِنْدِ اللهِ بِأمْرٍ فِيهِ صَلاحُ دِينِكم ودُنْياكُمْ، فَإنْ سَمِعْتُمْ وأطَعْتُمْ فَحَسَنٌ، وإلّا صَبَرْتُ لِأمْرِ اللهِ حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وبَيْنَكم بِما شاءَ"، فَقالُوا لَهُ حِينَئِذٍ: فَإنْ كانَ ما تَزْعُمُهُ حَقًّا فَفَجِّرْ يَنْبُوعًا ونُؤْمِنُ لَكَ، ولْتَكُنْ لَكَ جَنَّةٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا كَلَّفُوهُ، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ: "هَذا كُلُّهُ إلى اللهِ، ولا يَلْزَمُنِي هَذا ولا غَيْرُهُ، وإنَّما أنا مُسْتَسْلِمٌ لِأمْرِ اللهِ تَعالى.» (p-٥٤٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَذا هو مَعْنى الحَدِيثِ، وفي الألْفاظِ اخْتِلافٌ ورِواياتٌ مُتَشَعِّبَةٌ يَطُولُ سَوْقُ جَمِيعِها، فاخْتَصَرْتُ لِذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أو تُسْقِطَ السَماءَ﴾ الآيَةَ. قَرَأ الجُمْهُورُ: "أو تُسْقِطَ" بِضَمِّ التاءِ، "السَماءَ" بِالنَصْبِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ: "أو تَسْقُطَ السَماءُ" بِرَفْعِ "السَماءِ" وإسْنادِ الفِعْلِ إلَيْها، وقَوْلُهُ: ﴿كَما زَعَمْتَ﴾ إشارَةٌ إلى ما تَلا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أو نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَماءِ﴾ [سبإ: ٩]. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "كِسْفًا" بِسُكُونِ السِينِ، إلّا في الرُومِ فَإنَّهم حَرَّكُوها، ومَعْناها: قَطْعًا واحِدًا، قالَ مُجاهِدٌ: السَماءُ جَمِيعًا، وتَقُولُ العَرَبُ: "كَسَفْتُ الثَوْبَ" ونَحْوَهُ قَطَعْتُهُ، فالكِسَفُ -بِفَتْحِ السِينِ- المَصْدَرُ، والكِسَفُ: الشَيْءُ المَقْطُوعُ، قالَ الزَجّاجُ: المَعْنى: أو تُسْقِطَ السَماءَ عَلَيْنا طِبَقًا، واشْتِقاقُهُ مِن: كَسَفْتُ الشَيْءَ إذا غَطَّيْتُهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَيْسَ بِمَعْرُوفٍ في دَواوِينِ اللُغَةِ "كَسَفَ" بِمَعْنى "غَطّى"، وإنَّما هو بِمَعْنى "قَطَعَ"، وكَأنَّ كُسُوفَ الشَمْسِ والقَمَرِ قَطْعٌ مِنهُما، وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - "كِسَفًا" بِفَتْحِ السِينِ، أيْ: قِطَعًا، جَمْعُ "كِسْفَةٍ". وقَوْلُهُ: "قَبِيلًا" مَعْناهُ: مُقابِلَةً وعِيانًا، وقِيلَ: مَعْناهُ: ضامِنًا وزَعِيمًا بِتَصْدِيقِكَ، ومِنهُ القُبالَةُ، وهي الضَمانُ، والقَبِيلُ: والمُتَقَبِّلُ الضامِنُ، وقِيلَ: مَعْناهُ: نَوْعًا وجِنْسًا لا نَظِيرَ لَهُ عِنْدَنا. وقَرَأ الأعْرَجُ: "قُبُلًا" وهو بِمَعْنى المُقابَلَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب