الباحث القرآني

﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أمِينٌ﴾ ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿وكَذَلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَن نَشاءُ ولا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿ولَأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ (p-٣١٩)رُوِيَ أنَّ الرَّسُولَ جاءَهُ فَقالَ: أجِبِ المَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ ودَعا لِأهْلِهِ: اللَّهُمَّ عَطِّفَ عَلَيْهِمْ قُلُوبَ الأخْيارِ، ولا تُعْمِ عَلَيْهِمُ الأخْبارَ، فَهم أعْلَمُ النّاسِ بِالأخْبارِ في الواقِعاتِ، وكَتَبَ عَلى بابِ السِّجْنِ: هَذِهِ مَنازِلُ البَلْوى، وقُبُورُ الأحْياءِ، وشَماتَةُ الأعْداءِ، وتَجْرِبَةُ الأصْدِقاءِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وتَنَظَّفَ مِن دَرَنِ السِّجْنِ، ولَبِسَ ثِيابًا جُدُدًا، فَلَمّا دَخَلَ عَلى المَلِكِ قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِخَيْرِكَ مِن خَيْرِهِ، وأعُوذُ بِعِزَّتِكَ وقُدْرَتِكَ مِن شَرِّهِ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ ودَعا لَهُ بِالعِبْرانِيَّةِ فَقالَ: ما هَذا اللِّسانُ ؟ فَقالَ: لِسانُ آبائِي، وكانَ المَلِكُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِينَ لِسانًا فَكَلَّمَهُ بِها، فَأجابَهُ بِجَمِيعِها، فَتَعَجَّبَ مِنهُ وقالَ: أيُّها الصِّدِّيقُ إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَ رُؤْيايَ مِنكَ قالَ: رَأيْتَ بَقَراتٍ سِمانًا فَوَصَفَ لَوْنَهُنَّ وأحْوالَهُنَّ، وما كانَ خُرُوجَهُنَّ، ووَصَفَ السَّنابِلَ وما كانَ مِنها عَلى الهَيْئَةِ الَّتِي رَآها المَلِكُ لا يَخْرِمُ مِنها حَرْفًا، وقالَ لَهُ: مِن حِفْظِكَ أنْ تَجْعَلَ الطَّعامَ في الأهْراءِ فَيَأْتِيكَ الخَلْقُ مِنَ النَّواحِي يَمْتارُونَ مِنكَ، ويَجْتَمِعُ لَكَ مِنَ المَكْنُونِ ما لَمْ يَجْتَمِعْ لِأحَدٍ قَبْلَكَ، وكانَ يُوسُفُ قَصَدَ أوَّلًا بِتَثَبُّتِهِ في السِّجْنِ أنْ يَرْتَقِيَ إلى أعْلى المَنازِلِ، فَكانَ اسْتِدْعاءُ المَلِكِ إيّاهُ أوَّلًا بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّؤْيا، فَلِذَلِكَ قالَ: ائْتُونِي بِهِ فَقَطْ، فَلَمّا فَعَلَ يُوسُفُ ما فَعَلَ فَظَهَرَتْ أمانَتُهُ وصَبْرُهُ وهِمَّتُهُ وجَوْدَةُ نَظَرِهِ وتَأنِّيهِ في عَدَمِ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ بِأوَّلِ طَلَبٍ عَظُمَتْ مَنزِلَتُهُ عِنْدَهُ، فَطَلَبَهُ ثانِيًا ومَقْصُودُهُ: اسْتِخْلاصُهُ لِنَفْسِهِ، ومَعْنى (أسْتَخْلِصْهُ) أجْعَلْهُ خالِصًا لِنَفْسِي وخاصًّا بِي، وسَمّى اللَّهُ فِرْعَوْنَ مِصْرَ مَلِكًا إذْ هي حِكايَةُ اسْمٍ مَضى حُكْمُهُ وتَصَرَّمَ زَمَنُهُ، فَلَوْ كانَ حَيًّا لَكانَ حُكْمًا لَهُ إذا قِيلَ لِكافِرٍ مَلِكٌ أوْ أمِيرٌ، ولِهَذا كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ولَمْ يَقُلْ مَلِكًا ولا أمْيِرًا، لِأنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ، والجَوابُ مُسَلَّمٌ وتَسَلَّمُوا، وأمّا كَوْنُهُ عَظِيمَهم فَتِلْكَ صِفَةٌ لا تُفارِقُهُ كَيْفَ ما تَقَلَّبُ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: فَسَمِعَ المَلِكُ كَلامَ النِّسْوَةِ وبَراءَةَ يُوسُفَ مِمّا رُمِيَ بِهِ، فَأرادَ رُؤْيَتَهُ وقالَ: ائْتُونِي بِهِ فَأتاهُ، فَلَمّا كَلَّمَهُ، والظّاهِرُ أنَّ الفاعِلَ بِـ (كَلَّمَهُ) هو ضَمِيرُ المَلِكِ أيْ: فَلَمّا كَلَّمَهُ المَلِكُ ورَأى حُسْنَ جَوابِهِ ومُحاوَرَتِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ ضَمِيرَ يُوسُفَ؛ أيْ: فَلَمّا كَلَّمَ يُوسُفُ المَلِكَ، ورَأى المَلِكُ حُسْنَ مَنطِقِهِ بِما صَدَّقَ بِهِ الخَبَرُ الخَبَرَ، والمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسانِهِ، قالَ: ﴿إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ﴾ أيْ: ذُو مَكانَةٍ ومَنزِلَةٍ (أمِينٌ) مُؤْتَمَنٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وقِيلَ: أمِينٌ آمِينَ، والوَصْفُ بِالأمانَةِ هو الأبْلَغُ في الإكْرامِ، وبِالأمْنِ يَحُطُّ مِن إكْرامِ يُوسُفَ، ولَمّا وصَفَهُ المَلِكُ بِالتَّمَكُّنِ عِنْدَهُ والأمانَةِ، طَلَبَ مِنَ الأعْمالِ ما يُناسِبُ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ فَقالَ: ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ﴾ أيْ: ولِّنِي خَزائِنَ أرْضِكَ إنِّي حَفِيظٌ أحْفَظُ ما تَسْتَحْفِظُهُ، عَلِيمٌ بِوُجُوهِ التَّصَرُّفِ، وصَفَ نَفْسَهُ بِالأمانَةِ والكَفاءَةِ وهُما مَقْصُودُ المُلُوكِ مِمَّنْ يُوَلُّونَهُ، إذْ هُما يَعُمّانِ وُجُوهَ التَّثْقِيفِ والحِياطَةِ، ولا خَلَلَ مَعَهُما لِقائِلٍ، وقِيلَ: حَفِيظٌ لِلْحِسابِ، عَلِيمٌ بِالألْسُنِ، وقِيلَ: حَفِيظٌ لِما اسْتَوْدَعْتَنِي، عَلِيمٌ بِسِنِي الجُوعِ، وهَذا التَّخْصِيصُ لا وجْهَ لَهُ، ودَلَّ إثْناءُ يُوسُفَ عَلى نَفْسِهِ أنَّهُ يَجُوزُ لِلْإنْسانِ أنْ يُثْنِيَ عَلى نَفْسِهِ بِالحَقِّ إذا جَهُلَ أمْرُهُ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ التَّزْكِيَةَ المَنهِيَّ عَنْها، وعَلى جَوازِ عَمَلِ الرَّجُلِ الصّالِحِ لِلرَّجُلِ التّاجِرِ بِما يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ والعَدْلُ، لا بِما يَخْتارُهُ ويَشْتَهِيهِ مِمّا لا يُسِيغُهُ الشَّرْعُ، وإنَّما طَلَبَ يُوسُفُ هَذِهِ الوِلايَةَ لِيَتَوَصَّلَ إلى إمْضاءِ حُكْمِ اللَّهِ، وإقامَةِ الحَقِّ، وبَسْطِ العَدْلِ، والتَّمَكُّنِ مِمّا لِأجْلِهِ تُبْعَثُ الأنْبِياءُ إلى العِبادِ، ولِعِلْمِهِ أنَّ غَيْرَهُ لا يَقُومُ مَقامَهُ في ذَلِكَ، فَإنْ كانَ المَلِكُ قَدْ أسْلَمَ كَما رَوى مُجاهِدٌ فَلا كَلامَ، وإنْ كانَ كافِرًا ولا سَبِيلَ إلى الحُكْمِ بِأمْرِ اللَّهِ ودَفْعِ الظُّلْمِ إلّا بِتَمْكِينِهِ، فَلِلْمُتَوَلِّي أنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِ. وقِيلَ: كانَ المَلِكُ يُصْدِرُ عَنْ رَأْيِ يُوسُفَ ولا (p-٣٢٠)يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ في كُلِّ ما رَأى، فَكانَ في حُكْمِ التّابِعِ، وما زالَ قُضاةُ الإسْلامِ يَتَوَلَّوْنَ القَضاءَ مِن جِهَةِ مَن لَيْسَ بِصالِحٍ، ولَوْلا ذَلِكَ لَبَطَلَتْ أحْكامُ الشَّرْعِ، فَهم مُثابُونَ عَلى ذَلِكَ إذا عَدَلُوا، و(كَذَلِكَ) أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّمْكِينِ في نَفْسِ المَلِكِ مَكَّنّا لِيُوسُفَ في أرْضِ مِصْرَ. ﴿يَتَبَوَّأُ مِنها حَيْثُ يَشاءُ﴾ أيْ: يَتَّخِذُ مِنها مَباءَةً ومَنزِلًا كُلَّ مَكانٍ أرادَ، فاسْتَوْلى عَلى جَمِيعِها، ودَخَلَتْ تَحْتَ سُلْطانِهِ، رُوِيَ أنَّ المَلِكَ تَوَجَّهَ بِتاجِهِ، وخَتَمَهُ بِخاتَمِهِ، ورَداهُ بِسَيْفِهِ، ووَضَعَ لَهُ سَرِيرًا مِن ذَهَبٍ مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ والياقُوتِ، فَجَلَسَ عَلى السَّرِيرِ، ودانَتْ لَهُ المُلُوكُ، وفَوَّضَ المَلِكُ إلَيْهِ أمَرَهُ وعَزَلَ قِطْفِيرَ، ثُمَّ ماتَ بَعْدُ، فَزَوَّجَهُ المَلِكُ امْرَأتَهُ، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْها قالَ: ألَيْسَ هَذا خَيْرًا مِمّا طَلَبْتِ ؟ فَوَجَدَها عَذْراءَ، لِأنَّ العَزِيزَ كانَ لا يَطَأُ، فَوَلَدَتْ لَهُ ولَدَيْنِ: أفْراثِيمَ، ومَنشا، وأقامَ العَدْلَ بِمِصْرَ، وأحَبَّهُ الرِّجالُ والنِّساءُ، وأسْلَمَ عَلى يَدِهِ المَلِكُ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، وباعَ مِن أهْلِ مِصْرَ في سِنِي القَحْطِ الطَّعامَ بِالدَّنانِيرِ والدَّراهِمِ في السَّنَّةِ الأُولى حَتّى لَمْ يَبْقَ مَعَهم شَيْءٌ مِنها، ثُمَّ بِالحُلِيِّ والجَواهِرِ، ثُمَّ بِالدَّوابِّ، ثُمَّ بِالضَّياعِ والعَقارِ، ثُمَّ بِرِقابِهِمْ، ثُمَّ اسْتَرَقَّهم جَمِيعًا فَقالُوا: واللَّهِ ما رَأيْنا كاليَوْمِ مَلِكًا أجَلَّ ولا أعْظَمَ مِنهُ فَقالَ لِلْمَلِكِ: كَيْفَ رَأيْتَ صُنْعَ اللَّهِ بِي فِيما خَوَّلَنِي، فَما تَرى ؟ قالَ: الرَّأْيُ رَأْيُكَ قالَ: فَإنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وأُشْهِدُكَ أنِّي أعْتَقْتُ أهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ، ورَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أمْلاكَهم، وكانَ لا يَبِيعُ مِن أحَدٍ مِنَ المُمْتارِينَ أكْثَرَ مِن حِمْلِ بَعِيرٍ تَقْسِيطًا بَيْنَ النّاسِ، وأصابَ أرْضَ كَنْعانَ وبِلادَ الشّامِ نَحْوَ ما أصابَ مِصْرَ، فَأرْسَلَ يَعْقُوبُ بَنِيهِ لِيَمْتارُوا، واحْتَبَسَ بِنْيامِينَ، وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ كَثِيرٍ: بِخِلافٍ عَنْهم أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ ونافِعٌ: (حَيْثُ نَشاءُ) بِالنُّونِ، والجُمْهُورُ بِالياءِ، والظّاهِرُ أنَّ قِراءَةَ الياءِ يَكُونُ فاعِلُ (نَشاءُ) ضَمِيرًا يَعُودُ عَلى يُوسُفَ، ومَشِيئَتُهُ مَعْذُوقَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، إذْ هو نَبِيُّهُ ورَسُولُهُ، وإمّا أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا عَلى اللَّهِ؛ أيْ: حَيْثُ يَشاءُ اللَّهُ، فَيَكُونُ التِفاتًا ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا﴾ أيْ: بِنِعْمَتِنا مِنَ المُلْكِ والغِنى وغَيْرِهِما، ولا نُضِيعُ في الدُّنْيا أجْرَ مَن أحْسَنَ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ أجْرَ الآخِرَةِ خَيْرٌ؛ لِأنَّهُ الدّائِمُ الَّذِي لا يَفْنى، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: المُؤْمِنُ يُثابُ عَلى حَسَناتِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والفاجِرُ يُعَجَّلُ لَهُ الخَيْرُ في الدُّنْيا، وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ. وفي الحَدِيثِ ما يُوافِقُ ما قالَ سُفْيانُ، وفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ حالَ يُوسُفَ في الآخِرَةِ خَيْرٌ مِن حالَتِهِ العَظِيمَةِ في الدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب