الباحث القرآني
ولَمّا كانَ هَذا مِمّا يَسْتَعْظِمُهُ النّاسُ في الدُّنْيا، وكانَ عِزُّها لا يُعَدُّ في الحَقِيقَةِ إلّا إنْ كانَ مَوْصُولًا بِنَعِيمِ الآخِرَةِ، نَبَّهَ عَلى ما لَهُ في الآخِرَةِ مِمّا لا يُعَدُّ هَذا في جَنْبِهِ شَيْئًا، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِتَكْذِيبِ الكَفَرَةِ بِذَلِكَ: ﴿ولأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ ولَمّا كانَ سِياقُ الأحْكامِ عَلى وجْهٍ عامٍّ لِتَعْلِيقِها بِأوْصافٍ يَكُونُ السِّياقُ مَرْغُوبًا فِيها أوْ مُرْهِبًا مِنها أحْسَنَ وأبْلَغَ، (p-١٣٤)قالَ: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ أوْجَدُوا هَذا الوَصْفَ ﴿وكانُوا﴾ أيْ بِجِبِلّاتِهِمْ ﴿يَتَّقُونَ﴾ أيْ يُوجِدُونَ الخَوْفَ مِنَ اللَّهِ واتِّخاذِ الوَقاياتِ مِنهُ إيجادًا مُسْتَمِرًّا، وهو مِن أجْلِهِمْ حَظًّا وأعْلاهم كَعْبًا - كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ مِمّا يَدُلُّ عَلى كَمالِ إيمانِهِ وتَقْواهُ.
ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ مِن هَذِهِ صِفاتُهُ يَقُومُ بِما ولِيَهُ أتَمَّ قِيامٍ ويَنْظُرُ فِيهِ أحْسَنَ نَظَرٍ، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَجَعَلَهُ المَلِكَ عَلى خَزائِنِ الأرْضِ فَدَبَّرَها بِما أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وعَلَّمَهُ حَتّى صَلَحَ الأمْرُ وجاءَ الخَيْرُ وذَهَبَ الشَّرُّ، وإنَّما طَوى هَذا لِلدَّلالَةِ عَلَيْهِ بِلَوازِمِهِ مِن قِصَّةِ إخْوَتِهِ الَّتِي هي المَقْصُودَةُ بِالذّاتِ - كَما سَيَأْتِي، وقَدْ فُهِمَ مِن هَذِهِ القِصَّةِ أنَّ الغالِبَ عَلى طَبْعِ مِصْرَ الرَّداءَةُ: بِغَضِّ الغَرِيبِ، واسْتِذْلالِ الضَّعِيفِ، والخُضُوعِ لِلْقَوِيِّ، فَإنَّهم أساؤُوا إلَيْهِ بِالسَّجْنِ بَعْدَ تَحَقُّقِ البَراءَةِ، ثُمَّ عَفا عَنْهم وأحْسَنَ إلَيْهِمْ بِما اسْتَبْقى [بِهِ] مُهَجَهُمْ، ثُمَّ أعْتَقَهم بَعْدَ أنِ اسْتَرَقَّهُمْ، ورَدَّ إلَيْهِمْ أمْوالَهم بَعْدَ أنِ اسْتَأْصَلَها بِما عِنْدَهُ مِنَ الغِلالِ، فَجَزُّوهُ عَلى ذَلِكَ بِأنِ اسْتَعْبَدُوا أوْلادَهُ وأوْلادَ إخْوَتِهِ بَعْدَهُ وسامُوهم سُوءَ العَذابِ، وأدُلُّ دَلِيلٍ عَلى أنَّ هَذا طَبْعُ البَلَدِ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا خَرَجُوا مَعَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وخَلَّصَهم مِن جَمِيعِ ذَلِكَ الذُّلِّ وشَرَّفَهم بِما شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الآياتِ العِظامِ والكِتابِ المُبِينِ، كانُوا كُلٌّ قَلِيلٌ (p-١٣٥)يَنْكُثُونَ مُجْتَرِئِينَ عَلى ما لا يُطاقُ الِاجْتِراءُ عَلَيْهِ، وإذا أمَرَهم عَنِ اللَّهِ بِأمْرٍ جَنَّبُوا عَنْهُ - كَما مَضى ذَلِكَ عَنِ التَّوْراةِ في [الأعْرافِ والبَقَرَةِ] وغَيْرِهِما، فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ بِالتِّيهِ، وكانَ يُسَمِّيهِمُ الجِيلَ المُعْوَجَّ - لِما عَلِمَ مِن سُوءِ طِباعِهِمْ، حَتّى ماتَ كُلُّ مَن نَشَأ بِأرْضِ مِصْرَ، ثُمَّ صارَ أوْلادُهم يَمْتَثِلُونَ الأوامِرَ حَتّى مَلَكُوا ما وعَدَ اللَّهُ بِهِ [آباءَهُمْ] مِنَ البِلادِ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ في زَبُورِ داوُدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، مِنها في المَزْمُورِ الرّابِعِ والتِّسْعِينَ: هَلُمُّوا نَسْجُدُ ونَرْكَعُ ونَخْضَعُ أمامَ الرَّبِّ خالِقِنا، لِأنَّهُ إلَهُنا ونَحْنُ شُعَبُ رَعِيَّتِهِ، وضَأْنُ ماشِيَتِهِ، اليَوْمَ إذا سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلا تَقْسُو قُلُوبُكم وتَسْخَطُوهُ كَمَثَلِ السُّخْطِ يَوْمَ التَّجْرِبَةِ في البَرِّيَّةِ حَيْثُ جَرَّبَنِي آباؤُكُمْ، فَأحْصَوْا أعْمالِي ونَظَّرُوها، أرْبَعِينَ سَنَةً مَقَتَ ذَلِكَ الجِيلَ وقُلْتُ: هو شَعْبٌ في كُلِّ حِينٍ يَطْغَوْنَ بِقُلُوبِهِمْ، فَلَمْ يَعْتَدُّوا لِسَلْبِي كَما أقْسَمْتُ بِرِجْزِي أنَّهم لا يَدْخُلُونَ راحَتِي. آباؤُنا بِمِصْرَ لَمْ يَفْهَمُوا عَجائِبَكَ، ولَمْ يَذْكُرُوا كَثْرَةَ رَحْمَتِكَ حِينَ أغْضَوْكَ وهم صاعِدُونَ مِنَ البَحْرِ الأحْمَرِ، فَنَجَّيْتَهم بِاسْمِكَ لِتُظْهِرَ عَجائِبَكَ، زَجَرَ البَحْرُ الأحْمَرُ فَجَفَّ، أجازَهم في اللُّجَجِ كَأنَّهم في البَرِّ، خَلَّصَهم مِن أيْدِي الأعْداءِ، وأنْقَذَهم مِن أيْدِي (p-١٣٦)المُبْغِضِينَ، وأُطْلِقَ الماءُ عَلى مُبْغَضِيهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنهم واحِدٌ، فَآمَنُوا بِكَلامِهِ، ومَجَّدُوا بِسُبْحَتِهِ. ثُمَّ أسْرَعُوا فَنَسُوا أعْمالَهُ، ولَمْ يَنْتَظِرُوا إرادَتَهُ، اشْتَهَوْا شَهْوَةً في البَرِّيَّةِ، جَرَّبُوا اللَّهَ حَيْثُ لا ماءَ، فَأعْطاهم سُؤْلَهُمْ، وأرْسَلَ شِبَعًا لِنُفُوسِهِمْ، أغْضَبُوا مُوسى في المُعَسْكَرِ وهارُونَ قِدِّيسَ الرَّبِّ، انْفَتَحَتِ الأرْضُ، وابْتَلَعَتْ داثانَ، وانْطَبَقَتْ عَلى جَماعَةِ بِيرُونَ، واشْتَعَلَتِ النّارُ في مَحافِلِهِمْ، وأحْرَقَ اللَّهِيبُ الخَطَأةَ، صَنَعُوا عَجَلًا في حُورِيبَ، وسَجَدُوا لِلْمَنحُوتِ، وبَدَّلُوا مَجْدَهم بِشِبْهِ عِجْلٍ يَأْكُلُ عُشْبًا، ونَسُوا اللَّهَ الَّذِي نَجّاهُمْ، وصَنَعَ العَظائِمَ بِمِصْرَ والعَجائِبَ في أرْضِ حامٍ، والمَهُولاتِ في البَحْرِ الأحْمَرِ، قالَ: إنَّهُ يُهْلِكُهم لَوْلا مُوسى صَفِيَّهُ قامَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَصْرِفَ سُخْطَهُ، لِئَلّا يَسْتَأْصِلَهُمْ، ورَذَلُوا الأرْضَ الشَّهِيهَ، ولَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ، وتَقَمْقَمُوا في مَضارِبِهِمْ، ولَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ الرَّبِّ، فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيُهْلِكَهم في البَرِّيَّةِ، ويُفَرِّقَ ذُرِّيَّتَهم في الأُمَمِ، ويُبِدِّدَهم في (p-١٣٧)البُلْدانِ، لِأنَّهم قَرَّبُوا لِباعِلَ فاغُورَ، وأكَلُوا ضَحايا مَيْتَةٍ، وأسْخَطُوهُ بِأعْمالِهِمْ، وكَثُرَ المَوْتُ فِيهِمْ بَغْتَةً، فَقامَ فِنْحاسُ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، فارْتَفَعَ المَوْتُ عَنْهُمْ، فَحَسْبُ ذَلِكَ بَرًّا لِجِيلٍ بَعْدَ جِيلٍ إلى الأبَدِ، ثُمَّ أسْخَطُوهُ عَلى ماءِ الخِصامِ، وتَألَّمَ مُوسى لِأجْلِهِمْ، وأغْضَبُوا رُوحَهُ، وخالَفُوا كَلامَ شَفَتَيْهِ، ولَمْ يَسْتَأْصِلُوا الأُمَمَ الَّذِينَ أمَرَهُمُ الرَّبُّ، واخْتَلَطُوا بِالشُّعُوبِ وتَعَلَّمُوا [أعْمالَهُمْ]، فَكانَتْ عِشْرَةً لَهُمْ، ذَبَحُوا بَنِيهِمْ وبَناتِهِمْ لِلشَّياطِينِ، وضَحُّوا لِأصْنامِ كَنْعانَ، ودَنَّسُوا الأرْضَ بِالدِّماءِ، وتَنَجَّسُوا بِأعْمالِهِمْ، وزَنَوْا بِأفْعالِهِمْ، فاشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ عَلى شَعْبِهِ، ورَذَلَ مِيراثُهُ، فَأسْلَمَهم في أيْدِي الشُّعُوبِ، وسَلَّطَ عَلَيْهِمْ شَناتِهِمْ، واسْتَعْبَدَهم أعْداؤُهم وخَضَعُوا تَحْتَ أيْدِيهِمْ، مِرارًا كَثِيرَةً بِجاهِمَ، وهم يَسْخَطُونَهُ بِأفْكارِهِمْ، وذَلُّوا بِسَيِّئاتِهِمُ - انْتَهى؛ عَلى أنَّكَ إذا تَأمَّلْتَ وجَدْتَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُعْلِي كَعْبَ الغَرِيبِ الَّذِي يَسْتَذِلُّونَهُ ويَحِلُّ سَعْدَهُ ويُؤَثِّلُ مَجْدَهُ - كَما فَعَلَ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَعْدَ السِّجْنِ وبِبَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ الِاسْتِعْبادِ، (p-١٣٨)وهُوَ نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ! فَلْيَحْذَرِ السّاكِنُ بِها مِن أنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ طَبْعُها فَيَتَّصِفَ بِكُلِّ ذَلِكَ مِن قِلَّةِ الغَيْرَةِ وبُغْضِ الغَرِيبِ، والجُرْأةِ في الباطِلِ اسْتِصْناعًا ومُداهَنَةً، والجُبْنُ في الحَقِّ، وكَمالُ الذُّلِّ لِلْجَبّارِينَ، [والمَجْمَجَةِ] في الكَلامِ، بِأنْ لا يَزالُ يَتَعَهَّدُ نَفْسَهُ بِأوامِرِ اللَّهِ ويَحْمِلُها عَلى طاعَتِهِ، واتِّباعِ رَسُولِهِ ومَحَبَّتِهِ، والنَّظَرِ في سِيرَتِهِ وسِيَرِ أتْباعِهِ، والتَّعَشُّقِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، حَتّى يَصِيرَ لَهُ طَبْعًا يَسْلَخُهُ مِن طَبْعِ البَلَدِ، كَما فَعَلَ عُبّادُها، وأهْلُ الوَرَعِ مِنها وزُهّادُها - أعاذَنا اللَّهُ مِن شُرُورِ أنْفُسِنا وسَيِّئاتِ أعْمالِنا، و[نَسْألُهُ] أنْ يَخْتِمَ لَنا بِالصّالِحاتِ، وأنْ يَجْعَلَنا مِنَ الَّذِينَ لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ أبَدًا.
ذَكَرَ ما مَضى بَعْدَما تَقَدَّمَ مِن هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ التَّوْراةِ: قالَ: فَلَمّا كانَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ رَأى فِرْعَوْنُ رُؤْيا كَأنَّهُ واقِفٌ عَلى شاطِئِ البَحْرِ، وكَأنَّ سَبْعَ بَقَراتٍ صَعِدْنَ مِن بَحْرِ النِّيلِ حَسَناتِ المُنَظِّرِ سَمِيناتِ اللُّحُومِ، يَرْعَيْنَ في المَرَجِ، وكَأنَّ سَبْعَ بَقَراتٍ صَعِدْنَ خَلْفَهُنَّ مِنَ النِّيلِ قَبِيحاتِ المَنظَرِ وحَشِيّاتٍ مَهْزُولاتِ اللُّحُومِ، فَوَقَفْنَ إلى جانِبِ البَقَراتِ السِّمانِ عَلى شاطِئِ النَّهْرِ، فابْتَلَعَ البَقَراتِ القَبِيحاتِ الحَسَناتِ المَنظَرِ السَّمِيناتِ، (p-١٣٩)فَهَبَّ فِرْعَوْنُ مِن سَنَتِهِ، ورَقَدَ أيْضًا فَرَأى ثانِي مَرَّةٍ كَأنَّ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ طَلَعْنَ في قَصَبَةٍ واحِدَةٍ مُمْتَلِئَةٍ سِمانًا، وكَأنَّ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ مَهْزُولاتٍ ضَرَبَهُنَّ رِيحُ السَّمُومِ - وفي نُسْخَةٍ: القَبُولُ - نَبَتْنَ بَعْدَهُنَّ، فَبَلَغَ السُّنْبُلُ المَهْزُولُ السَّبْعَ سُنْبُلاتٍ المُمْتَلِئاتِ، فاسْتَيْقَظَ فِرْعَوْنُ فَآذَتْهُ رُؤْياهُ، فَلَمّا كانَ بِالغَداةِ كَرُبَتْ نَفْسُ فِرْعَوْنَ، فَأرْسَلَ فَدَعا جَمِيعَ السَّحَرَةِ وكُلَّ حُكَماءِ مِصْرَ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ رُؤْياهُ، فَلَمْ يُوجَدْ إنْسانٌ يُفَسِّرُها لِفِرْعَوْنَ.
فَتَكَلَّمَ رَئِيسُ أصْحابِ الشَّرابِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وقالَ: إنِّي ذَكَرْتُ يَوْمِي هَذا ذَنْبِي عِنْدَ غَضَبِ فِرْعَوْنَ عَلى عَبْدِهِ، فَقَذَفَنِي في مَحْبِسِ صاحِبِ الشُّرْطَةِ، فَحُبِسْتُ أنا ورَئِيسُ الخَبّازِينَ - وفي نُسْخَةٍ: الطَّبّاخِينَ - فَرَأيْنا جَمِيعًا رُؤْيا في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ، رَأى كُلُّ امْرِئٍ مِنّا كَتَفْسِيرِ رُؤْياهُ، وكانَ مَعَنا هُناكَ [فِي الحَبْسِ] فَتًى عِبْرانِيٌّ عِنْدَ صاحِبِ الشُّرْطَةِ فَقَصَصْنا عَلَيْهِ فَفَسَّرَ أحْلامَنا، وعَبَّرَ لِكُلٍّ مِنّا عَلى قَدْرِ رُؤْياهُ، وكُلُّ الَّذِي فَسَّرَ لَنا كَذَلِكَ أصابَنا، أمّا أنا فَرَدَّنِي المَلِكُ إلى مَوْضِعِي، وأمّا ذَلِكَ فَأمَرَ بِصَلْبِهِ.
(p-١٤٠)فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ فَدَعا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأحْضَرُوهُ مِنَ السِّجْنِ، فَحَلَقَ شَعْرَهُ وغَيَّرَ ثِيابَهُ، ودَخَلَ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، فَقالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنِّي رَأيْتُ رُؤْيا ولَيْسَ لِي مَن يُفَسِّرُها، وقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أنَّكَ تَسْمَعُ الرُّؤْيا فَتُفَسِّرُها بِأحْسَنِ تَأْوِيلٍ! فَأجابَ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقالَ لِفِرْعَوْنَ: ألَعَلَّكَ تَخالُ أنِّي أُجِيبُ فِرْعَوْنَ بِسَلامٍ عَنْ غَيْرِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى.
فَقالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: إنِّي رَأيْتُ في الرُّؤْيا كَأنِّي واقِفٌ عَلى شاطِئِ النَّهْرِ، وكَأنَّ سَبْعَ بَقَراتٍ طَلَعْنَ مِنَ النَّهْرِ حَسَناتِ المَنظَرِ سَمِيناتِ اللَّحْمِ، يَرْعَيْنَ في المَرَجِ، وكَأنَّ سَبْعَ بَقَراتٍ طَلَعْنَ مِنَ النَّهْرِ بَعْدَهُنَّ سَمِجاتٍ قَبِيحاتِ المَنظَرِ مَهْزُولاتِ اللَّحْمِ جِدًّا، لَمْ أرَ عَلى هُزالِها في جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ، فابْتَلَعَتِ البَقَراتُ المَهْزُولاتُ الضَّعِيفاتُ القَبِيحاتُ أُولَئِكَ [السَّبْعَ] بَقَراتٍ السِّمانِ، فَدَخَلْنَ أجْوافَهُنَّ، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ دُخُولُهُنَّ، وكَأنَّ مَنظَرَهُنَّ قَبِيحًا كالَّذِي كانَ مِن قَبْلُ، فانْتَبَهَتْ فاضْطَجَعَتْ فَرَأيْتُ [أيْضًا] (p-١٤١)فِي الرُّؤْيا كَأنَّ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ حَسَناتٍ في قَصَبَةٍ واحِدَةٍ مُمْتَلِئَةٍ سِمانًا حِسانًا، وكَأنَّ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ مَهْزُولاتٍ ضَرَبَهُنَّ رِيحُ السَّمُومِ نَبَتْنَ خَلْفَهُنَّ، فابْتَلَعَ السُّنْبُلُ [المَهْزُولُ] الضَّعِيفُ السَّبْعَ سُنْبُلاتٍ المُمْتَلِئاتِ الحِسانَ، فَقَصَصْتُ ذَلِكَ عَلى السَّحَرَةِ، فَلَمْ أجِدْ مَن يُبَيِّنُ.
فَقالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِفِرْعَوْنَ: الرُّؤْيا يا فِرْعَوْنُ واحِدَةٌ، أطْلَعَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ عَلى ما هو مُزِيعٌ أنْ يَفْعَلَهُ، السَّبْعُ بَقَراتٍ الحِسانُ والسَّبْعُ سُنْبُلاتٍ الحِسانُ هي سَبْعُ سِنِينَ: خَيْرٌ، الرُّؤْيا واحِدَةٌ، والسَّبْعُ بَقَراتٍ الضَّعِيفاتِ المَهْزُولاتِ اللّاتِي صَعَدا بَعْدَهُنَّ والسَّبْعُ سُنْبُلاتٍ [المَهْزُولاتِ] اللّاتِي ضَرَبَها رِيحُ السَّمُومِ تَكُونُ سَبْعَ سِنِينَ: جُوعٌ، وهَذا القَوْلُ الَّذِي قُلْتُ لِفِرْعَوْنَ. إنَّ اللَّهَ أظْهَرَ ما هو مُزْمِعٌ عَتِيدٌ أنْ يَفْعَلَهُ، وها هَذِهِ سَبْعُ سِنِينَ يَأْتِي الشِّبَعُ والخِصْبُ العَظِيمُ جَمِيعَ أرْضِ مِصْرَ، ويَأْتِي بَعْدَها سَبْعُ سِنِينَ أُخَرُ يَكُونُ فِيها الجُوعُ، ويَنْسى جَمِيعَ الشِّبَعِ، والخِصْبُ الَّذِي كانَ في جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ، فَيُبِيدُ أهْلَ الأرْضِ مِنَ الجُوعِ مِن أجْلِ الغَمِّ الَّذِي يَأْتِي مِن بَعْدُ لِكَثْرَتِهِ وشِدَّتِهِ، وإنَّما أُعِيدَتِ الرُّؤْيا لِفِرْعَوْنَ ثانِي مَرَّةً، لِأنَّ الأمْرَ مُعَدٌّ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، واللَّهُ مُعَجِّلٌ فِعْلَهُ.
(p-١٤٢)والآنَ فَلْيَنْظُرْ فِرْعَوْنُ رَجُلًا حَكِيمًا فَهِمًا. فَيُوَلِّيهِ أرْضَ مِصْرَ، فَيُقاسِمُ أهْلَ مِصْرَ عَلى الخَمْسِ في السَّبْعِ السِّنِينَ، فَيَجْمَعُوا جَمِيعَ أفْقالِ هَذِهِ السِّنِينَ الخِصْبَةِ الآتِيَةِ، ويُخَزِّنُوا الأفْقالَ تَحْتَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، ويَحْفَظُ القَمْحَ في القُرى، ولْيَكُنُ الفَقْلُ مُعَدًّا مَحْفُوظًا لِأهْلِ مِصْرَ لِسَبْعِ سِنِي الجُوعِ المُزْمَعِ أنْ يَكُونَ في جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ، ولا يُبِيدُ أهْلَ الأرْضِ بِالجُوعِ.
فَحَسُنَ هَذا القَوْلُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وعِنْدَ عَبِيدِهِ، فَقالَ فِرْعَوْنُ لِقُوّادِهِ: هَلْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذا الرَّجُلِ الَّذِي رُوحُ اللَّهِ حالٌّ فِيهِ؟ ثُمَّ قالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إذا أطْلَعَكَ اللَّهُ عَلى هَذا كُلِّهِ، لَيْسَ أحَدٌ فَهِمًا مِثْلُكَ، أنْتَ المُسَلَّطُ عَلى بَيْتِي، وعَنْ أمْرِكَ وقَوْلِي فِيكَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الشَّعْبِ، وإنَّما أنا أعْظَمُ مِنكَ بِالمِنبَرِ فَقَطْ، وقالَ فِرْعَوْنُ ليُوسُفَ: انْظُرْ فَقَدْ ولَّيْتُكَ جَمِيعَ أرْضِ مِصْرَ، وخَلَعَ فِرْعَوْنُ خاتَمَهُ (p-١٤٣)مِن خِنْصَرِهِ، فَوَضَعَهُ في خِنْصَرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وألْبَسَهُ ثِيابَ كِتّانٍ، وطَوَّقَهُ بِطَوْقٍ مِن ذَهَبٍ، وحَمَلَهُ عَلى بَعْضِ مَراكِبِهِ، ونادى بَيْنَ يَدَيْهِ: هَذا أبٌ ومُسَلَّطٌ، وسُلْطانُهُ عَلى جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ، ثُمَّ قالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنِّي قَدْ أمَرْتُ أنْ لا يَكُونُ أحَدٌ يُشِيرُ بِيَدَيْهِ أوْ يَخْطُو بِقَدَمَيْهِ دُونَ أمْرِكَ في جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ.
ودَعا فِرْعَوْنُ اسْمَ يُوسُفَ: مُوَضِّحَ الخَفايا، وزَوَّجَهُ بِأسِنَّةَ - وفي نُسْخَةٍ: بِأسَناتَ - بِنْتِ قُوطِفِيرَعَ إمامِ إسْكَنْدَرِيَّةَ - وفي نُسْخَةٍ: حُبِرَ وانَ - فَخَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ والِيًا عَلى جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ، وكانَ قَدْ أتى عَلى يُوسُفَ ثَلاثُونَ سَنَةً إذْ وقَفَ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ، فَطافَ في جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ.
وأغَلَّتِ الأرْضُ في جَمِيعِ السَّبْعِ سِنِي الخِصْبِ، مَلَأ الخَزائِنَ وجَمَعَ الأقْفالَ في القُرى، جَمَعَ قَمْحِ حُقُولِ كُلِّ قَرْيَةٍ وما أحاطَ بِها فَخَزَنَةٌ فِيها، [وخَزَّنَ] يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ الأقْفالِ (p-١٤٤)مِثْلُ كَثِيبٍ - وفي نُسْخَةٍ: رَمْلُ البَحْرِ - كَثِيرًا جِدًّا حَتّى أعْيى إحْصاءَ ذَلِكَ فَصارَ غَيْرَ مُحْصًى.
فَوُلِدَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ابْنانِ قَبْلَ دُخُولِ سَنَةِ الجُوعِ، وُلِدَتْ لَهُ أسِنَةُ - وفي نُسْخَةٍ: أسَناتُ – بِنْتُ قُوطِيفِرِعَ حِبْرَ وانَ - وفي نُسْخَةٍ: إمامُ إسْكَنْدَرِيَّةَ - فَدَعا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اسْمَ ابْنِهِ بَكْرَ مَنشا، لِأنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ أنْسانِي جَمِيعُ تَعَبِي - وفي نُسْخَةٍ: شَقائِي - وما كانَ مِنهُ في بَيْتِ أبِي، وسَمّى الآخَرُ أفْراثِيمَ، وقالَ: لِأنَّ اللَّهَ كَثَّرَنِي في أرْضِ تَعَبُّدِي، فَنَفِدَتْ سُنُو الشِّبَعِ الَّذِي كانَ في أرْضِ مِصْرَ، وبَدَأتْ سُنُو الجُوعِ لِيَأْتِيَ كَما قالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَكانَ الجُوعُ في [جَمِيعِ] أرْضِ مِصْرَ، ولَمْ يُوجَدِ الخُبْزُ في جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ، فَجاعَ جَمِيعُ أهْلِ مِصْرَ، فَضَجَّ الشَّعْبُ عَلى فِرْعَوْنَ مِن [أجْلِ] الخُبْزِ، فَقالَ فِرْعَوْنُ لِجَمِيعِ المِصْرِيِّينَ: انْطَلَقُوا إلى يُوسُفَ (p-١٤٥)عَلَيْهِ السَّلامُ فافْعَلُوا جَمِيعَ ما يَأْمُرُكم بِهِ.
{"ayah":"وَلَأَجۡرُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ یَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











