الباحث القرآني

﴿ولأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ . (57) . قَدْ وُضِعَ فِيهِ المَوْصُولُ مَوْضِعَ ضَمِيرِ ﴿المُحْسِنِينَ﴾ وجُمِعَ بَيْنَ صِيغَتَيِ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ والمَعْنى ولَأجْرُهم في الآخِرَةِ خَيْرٌ والإضافَةُ (p-7)فِيهِ لِلْمُلابَسَةِ وجَعَلَ في تَعْقِيبِ الجُمْلَةِ المُثْبَتَةِ بِالجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ إشْعارٌ بِأنَّ مَدارَ المَشِيئَةِ المَذْكُورَةِ إحْسانُ مَن تُصِيبُهُ الرَّحْمَةُ المَذْكُورَةُ وفي ذِكْرِ الجُمْلَةِ الثّالِثَةِ المُؤَكَّدَةِ بَعْدَ دَفْعِ تَوَهُّمِ انْحِصارِ ثَمَراتِ الإحْسانِ فِيما ذَكَرَ مِنَ الأجْرِ العاجِلِ ويُفْهَمُ مِن ذَلِكَ أنَّ المُرادَ مِمَّنْ نَشاءُ مَن نَشاءُ أنْ نُصِيبَهُ بِالرَّحْمَةِ مِن عِبادِنا الَّذِينَ آمَنُوا واسْتَمَرُّوا عَلى التَّقْوى وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ ولَعَلَّ الظّاهِرَ حَمْلُ ( مَن ) عَلى ما هو أعَمُّ مِمّا ذُكِرَ وحِينَئِذٍ لا يَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِالرَّحْمَةِ النِّعْمَةُ الَّتِي لا تَكُونُ في مُقابَلَةِ شَيْءٍ مِنَ الأعْمالِ وبِالأجْرِ ما كانَ في مُقابَلَةِ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ يَبْقى أمْرُ وضْعِ المَوْصُولِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ عَلى حالِهِ كَأنَّهُ قِيلَ: نَتَفَضَّلُ عَلى مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا كَيْفَ كانُوا ونُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِالمُلْكِ والغِنى وغَيْرِهِما لا في مُقابَلَةِ شَيْءٍ ونُوَفِّي أُجُورَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَمِرِّينَ عَلى التَّقْوى مِنهم ونُعْطِيهِمْ في الدُّنْيا ما نُعْطِيهِمْ في مُقابَلَةِ إيمانِهِمْ واسْتِمْرارِهِمْ عَلى التَّقْوى وما نُعْطِيهِمْ في مُقابَلَةِ ذَلِكَ في الآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ العَظِيمِ المُقِيمِ خَيْرٌ لَهم مِمّا نُعْطِيهِمْ في الدُّنْيا لِعِظَمِهِ ودَوامِهِ. واعْتُرِضَ بِأنَّ فِيهِ إطْلاقَ الرَّحْمَةِ عَلى ما يُصِيبُ الكافِرَ مِن نَحْوِ المُلْكِ والغِنى مَعَ أنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةٍ كَما يُشْعِرُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الآياتِ ويَقْتَضِيهِ قَوْلُهم: لَيْسَ لِلَّهِ تَعالى نِعْمَةٌ عَلى كافِرٍ وأُجِيبَ بِأنَّ قَوْلَهم: في ( الرَّحْمَنِ ) أنَّهُ الَّذِي يَرْحَمُ المُؤْمِنَ والكافِرَ في الدُّنْيا ظاهِرٌ في صِحَّةِ إطْلاقِ الرَّحْمَةِ عَلى ما يُصِيبُ الكافِرَ مِن ذَلِكَ وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ ظاهِرٌ في صِحَّةِ القَوْلِ بِكَوْنِ الكافِرِ مَرْحُومًا في الجُمْلَةِ وأمْرُ الإشْعارِ سَهْلٌ وقَوْلُهم: لَيْسَ لِلَّهِ تَعالى نِعْمَةٌ عَلى كافِرٍ إنَّما قالَهُ البَعْضُ بِناءً عَلى أخْذٍ يُحْمَدُ عاقِبَتُها في تَعْرِيفِها وإنْ أبَيْتَ ولا أظُنُّ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَبَّرَ عَمّا ذُكِرَ بِالرَّحْمَةِ رِعايَةً لِجانِبِ مَنِ انْدَرَجَ في عُمُومِ ( مَن ) مِنَ المُؤْمِنِينَ. نَعَمْ يُرَدُّ عَلى تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ هُنا بِالنِّعْمَةِ الَّتِي لا تَكُونُ في مُقابَلَةِ شَيْءٍ مِنَ الأعْمال والأجْرِ بِما كانَ ما رُوِيَ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ قالَ: المُؤْمِنُ يُثابُ عَلى حَسَناتِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ والفاجِرُ يُعَجَّلُ لَهُ الخَيْرُ في الدُّنْيا وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ وتَلا الآيَةَ فَإنَّهُ ظاهِرٌ في أنَّ ما يُصِيبُ الكافِرَ مِمّا تَقَدَّمَ في مُقابَلَةِ عَمَلٍ لَهُ وأنَّ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ولَيْسَ هو إلّا ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَن نَشاءُ﴾ وقَدْ يُجابُ بِأنَّهُ لَعَلَّهُ حَمَلَ ﴿المُحْسِنِينَ﴾ عَلى ما يَشْمَلُ الكُفّارَ الفاعِلِينَ لِما يُحْسُنُ كَصِلَةِ الرَّحِمِ ونُصْرَةِ المَظْلُومِ وإطْعامِ الفَقِيرِ ونَحْوِ ذَلِكَ فَحَصْرُ الدَّلالَةِ فِيما ذُكِرَ مَمْنُوعٌ نَعَمْ إنَّ هَذا الأثَرَ يُعَكِّرُ عَلى التَّفْسِيرِ السّابِقِ عَكَرًا بَيِّنًا إذِ الآيَةُ عَلَيْهِ لا تَعَرُّضَ فِيها لِلْكافِرِ أصْلًا فَلا مَعْنى لِتِلاوَتِها إثْرَ ذَلِكَ الكَلامِ. وعَمَّمَ بَعْضُهُمُ الأوْقاتِ في ﴿نُصِيبُ﴾ - ﴿ولا نُضِيعُ﴾ فَقالَ نُصِيبُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ولا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ بَلْ نُوَفِّي أُجُورَهم عاجِلًا وآجِلًا وأُيِّدَ بِأنَّهُ لا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ وأنَّ خَبَرَ سُفْيانَ يَدُلُّ عَلى العُمُومِ وتُعُقِّبَ بِأنَّ مَن خَصَّ ذَلِكَ بِالدُّنْيا فَإنَّما خَصَّهُ لِيَكُونَ ما بَعْدَهُ تَأْسِيسًا وبِأنَّهُ لا دَلالَةَ لِلْخَبَرِ عَلى ذَلِكَ لِأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن مَجْمُوعِ الآيَةِ وفِيهِ ما فِيهِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ تَفْسِيرُ ﴿المُحْسِنِينَ﴾ بِالصّابِرِينَ ولَعَلَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوايَةِ رَأى ذَلِكَ أوْفَقَ بِالمَقامِ وأيًّا ما كانَ في الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ ما أعَدَّ اللَّهُ تَعالى لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الأجْرِ والثَّوابِ في الآخِرَةِ أفْضَلُ مِمّا أعْطاهُ في الدُّنْيا مِنَ المُلْكِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب