الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فاتَّبَعُوا أمْرَ فِرْعَوْنَ وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأوْرَدَهُمُ النّارَ وبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ﴾ ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ﴾: الآياتُ المُعْجِزاتُ التِّسْعُ: العَصا واليَدُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ ونَقْصٌ مِنَ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمَراتِ، ومِنهم مَن أبْدَلَ النَّقْصَ بِإظْلالِ الجَبَلِ. وقِيلَ: الآياتُ: التَّوْراةُ، وهَذا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأنَّهُ قالَ ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ﴾، والتَّوْراةُ إنَّما نَزَلَتْ بَعْدَ هَلاكِ فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ. والسُّلْطانُ المُبِينُ هو: الحُجَجُ الواضِحَةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾: فِيها، أيْ: في الآياتِ، وهي دالَّةٌ عَلى صِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِها العَصا لِأنَّها أبْهَرُ تِلْكَ الآياتِ، فَنَصَّ عَلَيْها كَما نَصَّ عَلى جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ بَعْدَ ذِكْرِ المَلائِكَةِ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ بِالذِّكْرِ. والظّاهِرُ أنْ يُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿أمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ أمْرَهُ إيّاهم بِالكُفْرِ وجَحْدِ مُعْجِزاتِ مُوسى، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: الطَّرِيقَ والشَّأْنَ. ﴿وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾: نَفى عَنْهُ الرُّشْدَ، وذَلِكَ تَجْهِيلٌ لِمُتَّبِعِيهِ حَيْثُ شايَعُوهُ عَلى أمْرِهِ، وهو ضَلالٌ مُبِينٌ لا يَخْفى عَلى مَن فِيهِ أدْنى مُسْكَةٍ مِنَ العَقْلِ. وذَلِكَ أنَّهُ ادَّعى الإلَهِيَّةَ وهو بَشَرٌ مِثْلُهم. عايَنُوا الآياتِ والسُّلْطانَ المُبِينَ في أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلِمُوا أنَّ مَعَهُ الرُّشْدَ والحَقَّ، ثُمَّ عَدَلُوا عَنِ اتِّباعِهِ إلى اتِّباعِ مَن لَيْسَ في اتِّباعِهِ رُشْدٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ﴿رَشِيدٌ﴾ [هود: ٧٨] بِمَعْنى راشِدٍ، ويَكُونَ رَشِيدٍ بِمَعْنى: مُرْشِدٍ، أيْ: بِمُرْشِدٍ إلى خَيْرٍ. وكانَ فِرْعَوْنُ دَهْرِيًّا نافِيًا لِلصّانِعِ والمَعادِ، وكانَ (p-٢٥٩)يَقُولُ: لا إلَهَ لِلْعالَمِ، وإنَّما يَجِبُ عَلى أهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أنْ يَشْتَغِلُوا بِطاعَةِ سُلْطانِهِمْ، فَلِذَلِكَ كانَ أمْرُهُ خالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالكُلِّيَّةِ. والرُّشْدُ يُسْتَعْمَلُ في كُلِّ ما يُحْمَدُ ويُرْتَضى، والغَيُّ ضِدُّهُ. ويُقالُ: قَدَمَ زَيْدٌ القَوْمَ يَقْدُمُ قَدْمًا وقُدُومًا تَقَدَّمَهم والمَعْنى: أنَّهُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ المُغْرِقِينَ إلى النّارِ، وكَما كانَ قُدْوَةً في الضَّلالِ مُتَّبَعًا كَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهم إلى النّارِ وهم يَتْبَعُونَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿بِرَشِيدٍ﴾: بِحَمِيدِ العاقِبَةِ، ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾، تَفْسِيرًا لِذَلِكَ وإيضاحًا، أيْ: كَيْفَ يَرْشُدُ أمْرُ مَن هَذِهِ عاقِبَتُهُ ؟ وعَدَلَ عَنْ فَيُورِدُهم إلى ﴿فَأوْرَدَهُمُ﴾ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لا مَحالَةَ، فَكَأنَّهُ قَدْ وقَعَ، ولِما في ذَلِكَ مِنَ الإرْهابِ والتَّخْوِيفِ. أوْ هو ماضٍ حَقِيقَةً، أيْ: فَأوْرَدَهم في الدُّنْيا النّارَ، أيْ: مُوجِبَهُ وهو الكُفْرُ. ويُبْعِدُ هَذا التَّأْوِيلَ الفاءُ، والوُرُودُ في هَذِهِ الآيَةِ: وُرُودُ الخُلُودِ ولَيْسَ بِوُرُودِ الإشْرافِ عَلى الشَّيْءِ والإشْفاءِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولَمّا ورَدَ ماءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٢٣] ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ النّارُ تُصِيبُهُ عَلى إعْمالِ الثّانِي لِأنَّهُ تُنازِعُهُ يَقْدُمُ، أيْ: إلى النّارِ وفَأوْرَدَهم، فَأُعْمِلَ الثّانِي وحُذِفَ مَعْمُولُ الأوَّلِ. والهَمْزَةُ في فَأوْرَدَهُمُ لِلتَّعْدِيَةِ، ورَدَ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، فَلَمّا أُدْخِلَتِ الهَمْزَةُ تَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، فَتَضَمَّنَ وارِدًا ومَوْرُودًا. ويُطْلَقُ الوِرْدُ عَلى: الوارِدِ، فالوِرْدُ لا يَكُونُ المَوْرُودَ، فاحْتِيجَ إلى حَذْفٍ لِيُطابِقَ فاعِلَ بِئْسَ المَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، فالتَّقْدِيرُ: وبِئْسَ مَكانُ الوِرْدِ المَوْرُودُ ويَعْنِي بِهِ: النّارَ. فالوِرْدُ فاعِلٌ بِبِئْسَ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ: المَوْرُودُ وهي: النّارُ. ويَجُوزُ في إعْرابِ المَوْرُودُ ما يَجُوزُ في زَيْدٍ مِن قَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ المَوْرُودُ صِفَةً لِلْوِرْدِ، أيْ: بِئْسَ مَكانُ الوِرْدِ المَوْرُودِ النّارُ، ويَكُونُ المَخْصُوصُ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ المَعْنى، كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ: ﴿فَبِئْسَ المِهادُ﴾ [ص: ٥٦] وهَذا التَّخْرِيجُ يُبْتَنى عَلى جَوازِ وصْفِ فاعِلِ نِعْمَ وبِئْسَ، وفِيهِ خِلافٌ. ذَهَبَ ابْنُ السَّرّاجِ والفارِسِيُّ إلى أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والوِرْدُ المَوْرُودُ الَّذِي ورَدُوهُ: شَبَّهَهُ بِالفارِطِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الوارِدَةَ إلى الماءِ، وشَبَّهَ اتِّباعَهُ بِالوارِدَةِ، ثُمَّ قِيلَ: بِئْسَ الوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ النّارُ، لِأنَّ الوِرْدَ إنَّما يُورَدُ لِتَسْكِينِ العَطَشِ وتَبْرِيدِ الأكْبادِ، والنّارُ ضِدُّهُ، انْتَهى. وقَوْلُهُ: والوِرْدُ المَوْرُودُ: إطْلاقُ الوِرْدِ عَلى المَوْرُودِ مَجازٌ، إذْ نَقَلُوا أنَّهُ يَكُونُ صَدْرًا بِمَعْنى: الوُرُودِ، أوْ بِمَعْنى: الوارِدَةِ مِنَ الإبِلِ وتَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الوِرْدُ الَّذِي يَرِدُونَهُ النّارُ، يَدُلُّ عَلى أنَّ المَوْرُودَ صِفَةٌ لِلْوِرْدِ، وأنَّ المَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ: النّارَ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ ذَلِكَ يُبْتَنى عَلى جَوازِ وصْفِ فاعِلِ بِئْسَ ونِعْمَ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: بِئْسَ القَوْمُ المَوْرُودُ بِهِمْ هم، فَيَكُونُ الوِرْدُ عُنِيَ بِهِ الجَمْعُ الوارِدُ، والمَوْرُودُ صِفَةٌ لَهم، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ: الضَّمِيرُ المَحْذُوفُ وهو هم، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لِلْوارِدِينَ، لا ذَمًّا لِمَوْضِعِ الوُرُودِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: (في هَذِهِ) إلى الدُّنْيا وقَدْ جاءَ مُصَرَّحًا بِها في قِصَّةِ هُودٍ، ودَلَّ عَلَيْها قَوْلُهُ: ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ﴾ [هود: ٦٠]، لِأنَّهُ الآخِرَةُ. فَيَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ في هَذِهِ، والمَعْنى: أنَّهم أُلْحِقُوا لَعْنَةً في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ. قالَ الكَلْبِيُّ: ﴿فِي هَذِهِ لَعْنَةً﴾ مِنَ المُؤْمِنِينَ أوْ بِالغَرَقِ، ويَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المَلائِكَةِ أوْ بِالنّارِ. وقالَ مُجاهِدٌ: فَلَهم لَعْنَتانِ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ التَّقْسِيمَ هو أنَّ لَهم في الدُّنْيا لَعْنَةً، ويَوْمَ القِيامَةِ يَرْفِدُونَ بِهِ فَهي لَعْنَةٌ واحِدَةٌ أوَّلًا، وقُبْحُ إرْفادٍ آخِرًا، انْتَهى. وهَذا لا يَصِحُّ لِأنَّ هَذا التَّأْوِيلَ يَدُلُّ عَلى أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ مَعْمُولٌ لَبِئْسَ، وبِئْسَ لا يَتَصَرَّفُ، فَلا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُها عَلَيْها، فَلَوْ تَأخَّرَ ﴿يَوْمَ القِيامَةِ﴾ صَحَّ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذا دُعِيَتْ نِزالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ رِفْدُهم، أيْ: بِئْسَ العَوْنُ المُعانُ، وذَلِكَ أنَّ اللَّعْنَةَ في الدُّنْيا رِفْدٌ لِلْعَذابِ ومَدَدٌ لَهُ، وقَدْ رُفِدَتْ بِاللَّعْنَةِ في الآخِرَةِ. وقِيلَ: بِئْسَ العَطاءُ المُعْطى، انْتَهى. ويَظْهَرُ مِن كَلامِهِ أنَّ المَرْفُودَ صِفَةٌ لِلرِّفْدِ، وأنَّ المَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رِفْدُهم، وما ذَكَرَ مِن تَفْسِيرِهِ، أيْ: بِئْسَ (p-٢٦٠)العَوْنُ المُعانُ هو قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ، وسُمِّيَ العَذابُ رِفْدًا عَلى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: الرِّفْدُ الرِّفادَةُ، أيْ: بِئْسَ ما يَرْفِدُونَ بِهِ بَعْدَ الغَرَقِ النّارُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب