الباحث القرآني

﴿وأُتْبِعُوا﴾ أيِ المَلَأُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أمْرَ فِرْعَوْنَ، وقِيلَ: القَوْمُ مُطْلَقًا ﴿فِي هَذِهِ﴾ أيْ في الدُّنْيا ﴿لَعْنَةً﴾ عَظِيمَةً حَيْثُ يَلْعَنُهم مَن بَعْدَهم مِنَ الأُمَمِ ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيْضًا حَيْثُ يَلْعَنُهم أهْلُ المَوْقِفِ قاطِبَةً فَهي تابِعَةٌ لَهم حَيْثُما سارُوا ودائِرَةٌ أيْنَما دارُوا فَكَما اتَّبَعُوا أمْرَ فِرْعَوْنَ اتَّبَعَتْهُمُ اللَّعْنَةُ في الدّارَيْنِ جَزاءً وِفاقًا. وقالَ الكَلْبِيُّ: اللَّعْنَةُ في الدُّنْيا مِنَ المُؤْمِنِينَ أوْ بِالغَرَقِ، ويَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المَلائِكَةِ أوْ بِالنّارِ. ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ﴾ أيْ بِئْسَ العَوْنُ المُعانُ كَما نُقِلَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أيْ رِفْدُهُمْ، ويَكُونُ الرِّفْدُ بِمَعْنى العَطِيَّةِ كَما يَكُونُ بِمَعْنى العَوْنِ. قالَ أبُو حَيّانَ: يُقالُ: رَفَدَ الرَّجُلُ يَرْفِدُهُ رَفْدًا ورِفْدًا إذا أعْطاهُ وأعانَهُ مِن رَفَدَ الحائِطَ دَعَمَهُ، وعَنِ الأصْمَعِيِّ الرَّفْدُ بِالفَتْحِ القَدَحُ، والرِّفْدُ بِالكَسْرِ ما فِيهِ مِنَ الشَّرابِ، وقالَ اللَّيْثُ: أصْلُ الرَّفْدِ العَطاءُ والمَعُونَةُ، ومِنهُ (p-135)رِفادَةُ قُرَيْشٍ وهي مُعاوَنَتُهم لِلْحاجِّ بِشَيْءٍ يُخْرِجُونَهُ لِلْفُقَراءِ، ويُقالُ رَفَدَهُ رِفْدًا ورَفْدًا بِكَسْرِ الرّاءِ وفَتْحِها، ويُقالُ بِالكَسْرِ الِاسْمُ، وبِالفَتْحِ المَصْدَرُ، وفَسَّرَهُ هُنا بِالعَطاءِ غَيْرُ واحِدٍ. وزَعَمَ أنَّ المَقامَ لا يُلائِمُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، نَعَمْ تَفْسِيرُهُ بِالعَوْنِ جاءَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، والمُرادُ بِهِ عَلى التَّفْسِيرَيْنِ اللَّعْنَةُ وتَسْمِيَتُها عَوْنًا عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ، وأمّا كَوْنُها مُعانًا فَلِأنَّها أُرْفِدَتْ في الآخِرَةِ بِلَعْنَةٍ أُخْرى لِتَكُونا هادِيَتَيْنِ إلى صِراطِ الجَحِيمِ، وكانَ القِياسُ أنْ يُسْنَدَ المَرْفُودُ إلَيْهِمْ لِأنَّ اللَّعْنَةَ في الدُّنْيا تَتْبَعُهم وكَذا في الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( وأُتْبِعُوا ) إلَخْ، ولَكِنْ أُسْنِدَ إلى الرَّفْدِ الَّذِي هو اللَّعْنَةُ عَلى الإسْنادِ المُجازِيِّ نَحْوَ جَدَّ جَدُّهُ، وجُنُونُكَ مَجْنُونٌ، وكَذا يُعْتَبَرُ الِاسْتِعارَةُ والمَجازُ المَذْكُورانِ عَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي كَذا قِيلَ. وقالَ بَعْضُ المُدَقِّقِينَ: إنَّ في قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ في بَيانِ الآيَةِ عَلى المَعْنى الأوَّلِ المَنقُولِ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ وذَلِكَ أنَّ اللَّعْنَةَ في الدُّنْيا رِفْدٌ لِلْعَذابِ ومَدَدٌ لَهُ، وقَدْ رُفِدَتْ بِاللَّعْنَةِ في الآخِرَةِ ما يُشْعِرُ بِأنَّهُ لَيْسَ مِن الِاسْتِعارَةِ التَّهَكُّمِيَّةَ في شَيْءٍ إذْ لَوْ كانَ رَفْدًا لِلْمُعَذَّبِينَ لَكانَ مِن ذَلِكَ القَبِيلِ، ثُمَّ قالَ: وجَعْلُهُ مِن بابِ جَدَّ جَدُّهُ أبْعَدُ وأبْعَدُ لِأنَّهُ ذَكَرَ أنَّهُ رَفَدَ أعْيَنُ بِرَفْدٍ أمّا لَوْ فُسِّرَ بِالتَّفْسِيرِ الثّانِي فَفِيهِ الأوَّلُ لا الثّانِي لِأنَّهُ لَيْسَ مَصْدَرًا وإنَّما العَطاءُ بِمَعْنى ما يُعْطى فَكَثِيرًا ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ انْتَهى، وفِيهِ نَظَرٌ لا يَخْفى، ثُمَّ إنَّ القَوْلَ بِأنَّ هُناكَ لَعْنَتَيْنِ رُفِدَتْ إحْداهُما بِالأُخْرى هو المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ، وغَيْرِهِ، فَيَوْمٌ مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ في الدُّنْيا. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ التَّقْسِيمَ هو أنَّ لَهم في الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ بِئْسَ ما يَرْفِدُونَ بِهِ فَهي لَعْنَةٌ واحِدَةٌ أوَّلًا وقُبْحُ إرْفادٍ آخِرًا انْتَهى، وتَعَقَّبَهُ في البَحْرِ بِأنَّ هَذا لا يَصِحُّ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ (يَوْمَ) مَعْمُولُ (بِئْسَ) وهي لا تَتَصَرَّفُ فَلا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُها عَلَيْها، ولَوْ كانَ (يَوْمَ) مُتَأخِّرًا صَحَّ ذَلِكَ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذا دُعِيتَ نِزالٌ ولَجَ في الذُّعْرِ وهُوَ كَلامٌ وجِيهٌ، والآيَةُ ظاهِرَةٌ في سُوءِ حالِ فِرْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ لِأنَّهُ إذا كانَ حالُ الأتْباعِ ما قَصَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ فَما ظَنُّكَ بِحالِ مَن أغْواهم وألْقاهم في هَذا الضَّلالِ البَعِيدِ؟ وهَذا يُعَكِّرُ عَلى مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ قُبِضَ طاهِرًا مُطَهَّرًا بَلْ قالَ بَعْضُهُمْ: إنَّها نَصٌّ في رَدِّ ذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى سَلَبَ عَنْهُ فِيها الرَّشادَ بَعْدَ مَوْتِهِ والمُؤْمِنُ الطّاهِرُ المُطَهَّرُ لا يُسْلَبُ عَنْهُ الرَّشادُ بَعْدَ المَوْتِ، ولَعَلَّ مَن ذَهَبَ إلى ذَلِكَ يَقُولُ: بابُ التَّأْوِيلِ واسِعٌ وبابُ الرَّحْمَةِ أوْسَعُ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب