الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فاتَّبَعُوا أمْرَ فِرْعَوْنَ وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأوْرَدَهُمُ النّارَ وبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ﴾ ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ هي القِصَّةُ السّابِعَةُ مِنَ القِصَصِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ، وهي آخِرُ القَصَصِ مِن هَذِهِ السُّورَةِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الآياتِ: التَّوْراةُ مَعَ ما فِيها مِنَ الشَّرائِعِ والأحْكامِ، ومِنَ السُّلْطانِ المُبِينِ: المُعْجِزاتُ القاهِرَةُ الباهِرَةُ، والتَّقْدِيرُ: ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِشَرائِعَ وأحْكامٍ وتَكالِيفَ، وأيَّدْناهُ بِمُعْجِزاتٍ قاهِرَةٍ وبَيِّناتٍ باهِرَةٍ. الثّانِي: أنَّ الآياتِ هي المُعْجِزاتُ والبَيِّناتُ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿إنْ عِنْدَكم مِن سُلْطانٍ بِهَذا﴾ [يُونُسَ: ٦٨ ] وقَوْلِهِ: ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النَّجْمِ: ٢٣ ] وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفي الآيَةِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآياتِ فِيها سُلْطانٌ مُبِينٌ لِمُوسى عَلى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ. الثّانِي: أنْ يُرادَ السُّلْطانُ المُبِينُ العَصا؛ لِأنَّهُ أشْهَرُها، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أعْطى مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ، وهي العَصا، واليَدُ، والطُّوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ، ونَقْصٌ مِنَ الثَّمَراتِ والأنْفُسِ، ومِنهم مَن أبْدَلَ نَقَصَ الثَّمَراتِ والأنْفُسِ بِإظْلالِ الجَبَلِ وفَلْقِ البَحْرِ، واخْتَلَفُوا في أنَّ الحُجَّةَ لِمَ سُمِّيَتْ بِالسُّلْطانِ ؟ فَقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: لِأنَّ صاحِبَ الحُجَّةِ يَقْهَرُ مَن لا حُجَّةَ مَعَهُ عِنْدَ النَّظَرِ كَما يَقْهَرُ السُّلْطانُ غَيْرَهُ؛ فَلِهَذا تُوصَفُ الحُجَّةُ بِأنَّها سُلْطانٌ، وقالَ الزَّجّاجُ: السُّلْطانُ هو الحُجَّةُ، والسُّلْطانُ سُمِّيَ سُلْطانًا لِأنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ في أرْضِهِ، واشْتِقاقُهُ مِنَ السَّلِيطِ، والسَّلِيطُ ما يُضاءُ بِهِ، ومِن هَذا قِيلَ لِلزَّيْتِ: السَّلِيطُ، وفِيهِ قَوْلٌ ثالِثٌ: وهو أنَّ السُّلْطانَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْلِيطِ، والعُلَماءُ سَلاطِينُ؛ بِسَبَبِ كَمالِهِمْ في القُوَّةِ العِلْمِيَّةِ، والمُلُوكُ سَلاطِينُ؛ بِسَبَبِ ما مَعَهم مِنَ القُدْرَةِ والمُكْنَةِ، إلّا أنَّ سَلْطَنَةَ العُلَماءِ أكْمَلُ وأقْوى مِن سَلْطَنَةِ المُلُوكِ؛ لِأنَّ سَلْطَنَةَ العُلَماءِ لا تَقْبَلُ النَّسْخَ والعَزْلَ، وسَلْطَنَةَ المُلُوكِ تَقْبَلُهُما، ولِأنَّ سَلْطَنَةَ المُلُوكِ تابِعَةٌ لِسَلْطَنَةِ العُلَماءِ، وسَلْطَنَةَ العُلَماءِ مَن جِنْسِ سَلْطَنَةِ الأنْبِياءِ، وسَلْطَنَةُ المُلُوكِ مِن جِنْسِ سَلْطَنَةِ الفَراعِنَةِ. فَإنْ قِيلَ: إذا حَمَلْتُمُ الآياتِ المَذْكُورَةَ في قَوْلِهِ: ﴿بِآياتِنا﴾ عَلى المُعْجِزاتِ، والسُّلْطانَ أيْضًا عَلى الدَّلائِلِ، والمُبِينُ أيْضًا مَعْناهُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلظُّهُورِ، فَما الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ المَراتِبِ الثَّلاثَةِ ؟ قُلْنا: الآياتُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ العَلاماتِ الَّتِي تُفِيدُ الظَّنَّ، وبَيْنَ الدَّلائِلِ الَّتِي تُفِيدُ اليَقِينَ، وأمّا السُّلْطانُ فَهو اسْمٌ لِما يُفِيدُ القَطْعَ واليَقِينَ، إلّا أنَّهُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الدَّلائِلِ الَّتِي تُؤَكَّدُ بِالحِسِّ، وبَيْنَ الدَّلائِلِ الَّتِي لَمْ تَتَأكَّدْ بِالحِسِّ، وأمّا الدَّلِيلُ القاطِعُ الَّذِي تَأكَّدَ بِالحِسِّ فَهو السُّلْطانُ المُبِينُ، ولَمّا كانَتْ (p-٤٤)مُعْجِزاتُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - هَكَذا، لا جَرَمَ وصَفَها اللَّهُ بِأنَّها سُلْطانٌ مُبِينٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ﴾ يَعْنِي وأرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بِمِثْلِ هَذِهِ الآياتِ إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ، أيْ جَماعَتِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فاتَّبَعُوا أمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أمْرَهُ إيّاهم بِالكُفْرِ بِمُوسى ومُعْجِزاتِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأمْرِ الطَّرِيقَ والشَّأْنَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أيْ بِمُرْشِدٍ إلى خَيْرٍ، وقِيلَ: رَشِيدٌ أيْ ذُو رُشْدٍ. واعْلَمْ أنَّ بُعْدَ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ مِنَ الرُّشْدِ كانَ ظاهِرًا؛ لِأنَّهُ كانَ دَهْرِيًّا نافِيًا لِلصّانِعِ والمَعادِ، وكانَ يَقُولُ: لا إلَهَ لِلْعالَمِ، وإنَّما يَجِبُ عَلى أهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أنْ يَشْتَغِلُوا بِطاعَةِ سُلْطانِهِمْ وعُبُودِيَّتِهِ رِعايَةً لِمَصْلَحَةِ العالَمِ، وأنْكَرَ أنْ يَكُونَ الرُّشْدُ في عِبادَةِ اللَّهِ ومَعْرِفَتِهِ، فَلَمّا كانَ هو نافِيًا لِهَذَيْنَ الأمْرَيْنِ، كانَ خالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ صِفَتَهُ وصِفَةَ قَوْمِهِ فَقالَ: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأوْرَدَهُمُ النّارَ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ مِن حَيْثُ اللُّغَةُ: يُقالُ: قَدَمَ فُلانٌ فُلانًا بِمَعْنى تَقَدَّمَهُ، ومِنهُ قادِمَةُ الرَّجُلِ، كَما يُقالُ قَدَمَهُ، بِمَعْنى تَقَدَّمَهُ، ومِنهُ مُقَدِّمَةُ الجَيْشِ. والبَحْثُ الثّانِي مِن حَيْثُ المَعْنى: وهو أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ قُدْوَةً لِقَوْمِهِ في الضَّلالِ حالَ ما كانُوا في الدُّنْيا، وكَذَلِكَ مُقَدَّمُهم إلى النّارِ وهم يَتْبَعُونَهُ، أوْ يُقالُ: كَما تَقَدَّمَ قَوْمَهُ في الدُّنْيا فَأدْخَلَهم في البَحْرِ وأغْرَقَهم، فَكَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهم يَوْمَ القِيامَةِ فَيُدْخِلُهُمُ النّارَ ويُحْرِقُهم، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أيْ وما أمْرُهُ بِصالِحٍ حَمِيدِ العاقِبَةِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ، وإيضاحًا لَهُ، أيْ كَيْفَ يَكُونُ أمْرُهُ رَشِيدًا مَعَ أنَّ عاقِبَتَهُ هَكَذا. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَيُورِدُهُمُ النّارَ، بَلْ قالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَأوْرَدَهُمُ النّارَ بِلَفْظِ الماضِي ؟ قُلْنا: لِأنَّ الماضِيَ قَدْ وقَعَ ودَخَلَ في الوُجُودِ، فَلا سَبِيلَ ألْبَتَّةَ إلى دَفْعِهِ، فَإذا عُبِّرَ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي دَلَّ عَلى غايَةِ المُبالَغَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: لَفْظُ ”النّارِ“ مُؤَنَّثٌ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: وبِئْسَتِ الوِرْدُ المَوْرُودُ، إلّا أنَّ لَفْظَ ”الوِرْدِ“ مُذَكَّرٌ، فَكانَ التَّذْكِيرُ والتَّأْنِيثُ جائِزَيْنِ، كَما تَقُولُ: نِعْمَ المَنزِلُ دارُكَ، ونَعِمَتِ المَنزِلُ دارُكَ، فَمَن ذَكَّرَ غَلَّبَ المَنزِلَ، ومَن أنَّثَ بَنى عَلى تَأْنِيثِ الدّارِ، هَكَذا قالَهُ الواحِدِيُّ. البَحْثُ الثّانِي: الوِرْدُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الوُرُودِ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، وقَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الوارِدِ، قالَ تَعالى: ﴿ونَسُوقُ المُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٨٦ ] وقَدْ يَكُونُ بِمَعْنى المَوْرُودِ عَلَيْهِ كالماءِ الَّذِي يُورَدُ عَلَيْهِ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الوِرْدُ المَوْرُودُ الَّذِي حَصَلَ وُرُودُهُ، فَشَبَّهَ اللَّهُ تَعالى فِرْعَوْنَ بِمَن يَتَقَدَّمُ الوارِدَةَ إلى الماءِ، وشَبَّهَ أتْباعَهُ بِالوارِدِينَ إلى الماءِ، ثُمَّ قالَ بِئْسَ الوِرْدُ الَّذِي يُورَدُونَهُ النّارُ؛ لِأنَّ الوِرْدَ إنَّما يُرادُ لِتَسْكِينِ العَطَشِ وتَبْرِيدِ الأكْبادِ، والنّارُ ضِدُّهُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وأُتْبِعُوا في هَذِهِ لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ﴾ والمَعْنى أنَّهم أُتْبِعُوا في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وفي يَوْمِ القِيامَةِ أيْضًا، ومَعْناهُ أنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّهِ ومِنَ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ مُلْتَصِقٌ بِهِمْ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ لا يَزُولُ عَنْهم، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ في سُورَةِ القَصَصِ: ﴿وأتْبَعْناهم في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ هم مِنَ المَقْبُوحِينَ﴾ [القَصَصِ: ٤٢ ] . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ﴾ والرِّفْدُ هو العَطِيَّةُ، وأصْلُهُ الَّذِي يُعِينُ عَلى المَطْلُوبِ، سَألَ نافِعُ بْنُ (p-٤٥)الأزْرَقِ ابْنَ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - عَنْ قَوْلِهِ: ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ﴾ قالَ: هو اللَّعْنَةُ بَعْدَ اللَّعْنَةِ، قالَ قَتادَةُ: تَرادَفَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتانِ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لَعْنَةٌ في الدُّنْيا ولَعْنَةٌ في الآخِرَةِ، وكُلُّ شَيْءٍ جَعَلْتَهُ عَوْنًا لِشَيْءٍ فَقَدْ رَفَدْتَهُ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب